منذ أن انفجر الصراع بين الجماعات الاسلامية والحكومة المصرية وتحوله "حالاً شبه يومية" في ربيع 1992، ظل المسؤولون في القاهرة يحذرون الدول التي تؤوي قادة تلك الجماعات وتمنحهم حق اللجوء السياسي أو تحتضنهم وتغطي على نشاطهم. ولم يتوقف المسؤولون المصريون عن الإلحاح على ضرورة تسليم المطلوبين من هذه الجماعات لتنفيذ الأحكام الصادرة عليهم، وتقديم الباقين الى القضاء. غير أن المطالبة المصرية لم تجد قبولاً كبيراً لدى دول عدة حتى ان الرئيس حسني مبارك اطلق نداءً لعقد مؤتمر دولي لمكافحة الارهاب، محذراً من أن الدول التي "تؤوي الارهابيين ستكتوي في وقت لاحق بنارهم". لكن منذ منتصف العام الماضي لم تتوقف عمليات تسليم الاصوليين المصريين المقيمين خارج بلدهم الى السلطات المصرية، حتى صار خبر تسليم احدهم أو مجموعة منهم وإعادتهم الى القاهرة أمراً عادياً لا يحظى بكثير من اهتمام الصحف ووسائل الاعلام. وطرح ذلك التحول تساؤلات مهمة عن الاسباب التي دعت كثيراً من الدول الى تغيير مواقفها. ورغم ان المسؤولين المصريين يرفضون عادة الخوض في ذلك الامر، ربما تفادياً لإحراج الدول التي تقوم بعملية التسليم، إلا ان ظاهرة "العائدين من كل مكان" فرضت نفسها، وبدا ان القاهرة تمكنت منذ بداية العام الماضي من تطوير آليات التعاون مع الدول الأخرى بهدف اصطياد هؤلاء الذين انتقلوا من افغانستان بعد انتهاء حرب المجاهدين ضد الاحتلال السوفياتي وانتشروا وتشعبوا وتسربوا الى اماكن لم يكن أحد يتوقعها. وتكفي الاشارة الى ان السلطات المصرية تسلمت خلال الأشهر الاخيرة اصوليين من دول أفريقية وآسيوية وأوروبية، وأخرى في اميركا الجنوبية لبيان حجم الظاهرة واتساع المساحة التي كان الاصوليون يتحركون فيها طوال السنوات الماضية. يتهم الاسلاميون عادة الاستخبارات الاميركية بأنها تقف خلف غالبية العمليات التي استهدفت القبض على زملائهم وترحيلهم الى مصر. وقبل اكثر من ثلاث سنوات اختفى الناطق باسم تنظيم "الجماعة الاسلامية" المهندس طلعت فؤاد قاسم، الذي كان يقيم في الدنمارك كلاجئ سياسي، بعدما اعتقل في كرواتيا اثناء رحلة كان يقوم بها الى البوسنة. واتهمت الاستخبارات الاميركية بأنها اعتقلت قاسم بالتعاون مع الشرطة الكرواتية ثم سلمته الى مصر، غير ان المسؤولين الكروات نفوا التهمة، وذكروا أن الاصولي المصري اعتقل يوماً واحداً ثم اطلق من دون ان يُعلم المكان الذي اتجه اليه. ولم تعلق واشنطن أو القاهرة على الواقعة ولم يظهر قاسم من وقتها. ويبدو أن الدول التي كانت تقوم بعمليات تسليم الاصوليين الى مصر في النصف الاول من التسعينات كانت تحرص على سرية "العمليات" وتخشى ردوداً انتقامية من التنظيمات الاسلامية. لكن محللين مصريين رصدوا أموراً عدة جعلت "قطار التسليم" ينطلق بسرعة تفوق التوقعات وعلانية تتجاوز الخوف، بينها الظروف الدولية التي جعلت "العولمة" تتخطى كل العوائق وتصبح واقعاً تخطى الحواجز السياسية والاقتصادية لتصل إلى حد صارت فيه "العولمة الامنية" حال قائمة يلتزمها كل من يريد ان يكون له دور في النظام الدولي الجديد. ويرى هؤلاء أن الاصوليين اخطأوا خطأً كبيراً حينما حولوا اسلوب عدائهم لأميركا من مجرد خطب وبيانات ومنشورات تهاجم "الشيطان الأعظم" رصاصات وقنابل ومتفجرات انطلقت الى اهداف اميركية. فالاصوليون المصريون ظلوا يستغلون الدولة التي يقيمون فيها لإدارة صراعهم مع الحكومة المصرية، مما جعل الاستجابات من اميركا والغرب خصوصا وباقي الدول عموماً غير كافية للنداءات المصرية. لكن عندما تخطى خطر الاصوليين الواقع المحلي المصري نصبت العولمة الامنية شباكها وبدأت اجهزة الامن في غالبية دول العالم في تتبع خطوات الاصوليين ورصد تحركاتهم وصيدهم ثم ترحيلهم. ومن المؤكد ان كل دولة قامت بالتسليم لها اسبابها الخاصة التي دفعتها الى التجاوب مع الدعوات المصرية، لكن النتيجة واحدة. فالسودان أنهكه الحظر واضطر الى طرد الاصوليين المصريين من دون ترحيلهم. والبوسنة التي احتضنت اعداداً منهم لفترة اغلقت ابوابها في وجوههم بفضل اتفاق "دايتون". وباكستان التي هزتها حادثة تفجير السفارة المصرية في "إسلام أباد" 1995 رأت انها اخطأت حينما سمحت للأفغان العرب بالوجود على اراضيها بعد انتهاء الحرب الافغانية. وحتى اليمن التي دخل المسؤولون فيها في سجال مع نظرائهم المصريين حول نشاط الاصوليين المصريين في المدن اليمنية، غيّرت قناعاتهم اعمال خطف السياح والمواجهة مع "جيش عدن الاسلامي"، وتخلوا عن إصرارهم على تسليم المعارضين اليمنيين المقيمين في القاهرة مقابل تسليم الاصوليين الذين تطالب بهم مصر. ويبدو أن انشغال التنظيمات الاصولية المصرية بأمورها الداخلية وارتباك قادتها في البحث عن مأوى للعشرات من العناصر المطاردة وتقوية اساليب الامن والحراسات والرصد والتنصت وسقوط عدد من تلك العناصر في الموانئ والمطارات، كما حدث في الاورجواي والاكوادور جعل من فرض السرية على عمليات القبض على الاصوليين المصريين في الخارج ثم تسليمهم أمراً صعباً. كما ان "العولمة" الامنية جعلت الدول التي كانت تخشى ردود الفعل الانتقامية تتجاوز مخاوفها. ثمة رأي آخر طرحه اصولي مقيم خارج مصر اعتبر فيه ان حادثة الاقصر التي وقعت في تشرين الثاني نوفمبر العام 1997، وأسفرت عن مقتل 58 سائحاً من جنسيات مختلفة اضافة الى اربعة مصريين "مثلت ضربة كبيرة للحركات الاسلامية المصرية، اذ أفقدتها ردود الفعل تجاه الحادثة أي تعاطف من جانب حكومات دول اخرى لا علاقة لها بذلك الصراع". ورغم أن انطباعاً يسود أن حادثتي تفجير سفارتي اميركا في نيروبي ودار السلام في آب اغسطس الماضي كانت رداً على قيام الاستخبارات الاميركية في القاهرة بالقبض على عدد من الاصوليين المصريين في ألبانيا وتسليمهم الى السلطات المصرية إلا ان واقع الأحداث جعل المثل المصري الذي يقول "مصائب قوم عند قوم فوائد" ينطبق على هذه الحال. فليس سراً أن الاميركيين شرعوا بشدة، عقب تفجير السفارتين، في ملاحقة أي شخص يشتبه في ان له علاقة بمنفذي الحادثتين. كما أن الظروف الدولية وعالم "القطب الواحد" جعلا كل الدول تسعى الى ابعاد شبهة مساندة الاصوليين او تقديم الدعم لهم. ولعل تطورات قضية المكان الموجود فيه الآن اسامة بن لادن دليل على ذلك، اذ أن حركة "طالبان" التي استمدت شرعيتها من كونها حركة اصولية لم تصمد طويلاً امام الضغوط الاميركية. فهل يمكن لدولة ان تصمد اكثر من صمود "طالبان"؟ اما بالنسبة الى تلك الدول الاوروبية التي مازال بعض الاصوليين يقيمون فيها فإن قوانينها تحول دون قيامها بتسليم من لديها من الاصوليين، غير ان الأشهر الماضية اثبتت ان تلك الدول تتفنن في افتعال المشاكل مع هؤلاء وإجبار بعضهم، وفقا لثغرات في قوانين الهجرة والجنسية، وربما انها اضطرت الى ذلك ارضاءً للأميركيين واستهلاكاً لعنصر الوقت.