في ذلك الصباح مضى الشاب الذي كنتُ إلى موعد مع صديقة إيطالية تعمل مصورة في الأسوشيتد برس. وبباب فندق الكومودور حيث كان الموعد، وصل صحافي اسرائيلي وقال لأصدقائه اليابانيين أن في المخيمات مذابح مروعة ترتكب منذ ثلاثة أيام وأربع ليال، ومن دون توقف. من هناك انطلقنا أنا وباولا كروتشياني نحو المخيم نريد دخوله من جهة المدينة الرياضية، فسمح لها الضابط الإسرائيلي بالدخول وردّني. كنت أعرف طريقاً أخرى، فسلكتها ووجدت نفسي في زقاق يسمونها "نزلة فتح". منذ ست عشرة سنة وأنا أحاول تدوين وقائع مما رأيت، وفي كلّ مرّة كنت أفشل، ربما بسبب اعتقاد بأن الكلمات أفشل من أن تنقل الصور، فلتبق الصور، إذن، في شريطها الأسود. أما وقد اخترت، اليوم، أن أكتب عن الشاب الذي كنت من خلال ذلك الحادث، فلم يعد أمامي إلا أن أقتطف من مدونتي الشخصية سطوراً من قصاصة. لا أذكر الآن كم مرّ عليّ في قعودي الذاهل في "نزلة فتح" المشرفة على شارع صبرا، كنت كمن يجلس في يوم قيامة لم تسبقه مقدمات تنبئ به. كانت حالتي مزيجاً من استثارة شعورية قصوى وتهالك جسدي، لا يشبهه إلا ما كان يتسبب لنا به فزع الطفل من عواقب تفوق قدرته على الإحتمال. خبرت هذا الشعور في أوقات من طفولتي. أفقت من هذه الحال على صلية رصاص في جهة لم أتمكن من تحديدها، تلتها طلقات متباعدة لعلها كانت من مسدس. خيل إلي أن أحداً من الفلسطينيين ما يزال يقاوم، وأن آخر كان يجهز على شخص ما يزال حياً. إذ ذاك شعرت أنني دفعت بنفسي في تجربة لن يكون في وسعي التنبؤ بنتائجها، ولم أعد أجرؤ على مغادرة مكاني. شلل نفسي واستسلام جسدي إلى الموضع الذي لبثت فيه وشعور فاجع. لا أستطيع أن أتابع المضي في المخيم، وبي خوف وتوجس شديدان من فكرة العودة. ربما كانت ساعة مرت أو أكثر غرقت خلالها في تداعيات حملتني إلى حوادث كثيرة شهدتها في حياتي، حوادث قديمة كان جلها يتصل بالشعور بالخطر، أو وقوع الموت. تذكرت طفلاً صغيراً كان أهله يقطنون في جوار بيت أهلي في دمشق، لم يكن تجاوز الخامسة من عمره عندما مضى به صبيان أخرون إلى النهر حيث حواكير الصبار، وبينما رجعوا هم إلى بيوتهم، واستحموا وناموا كان طفل الخامسة يرقد في قاع النهر ووالداه يطوفان المدينة بحثاً عنه. لم يروعني موت في الطفولة كما روعني موت هذا الطفل. كنت أكبره بست سنوات على الأقل. لكن كم كان عمر الطفلة الممددة ورائي الآن؟ لم أتمكن من المتابعة على هذا النحو لأن ضجة أصوات بعيدة، لكنها واضحة، انبعثت من أقصى الشارع ورائي ودبت فيه حياة ما. راحت الأصوات تقترب، وصرت أتميز فيها عويلاً وصراخاً، وسرعان ما تبين لي أن كل هذه الضجة مصدرها إمرأة يمسك بثيابها صبي صغير ويصرخ عليها شخص من مكان أبعد في أقصى الشارع، لم أتبين هويته، لكن الواضح أن المرأة التي مرت بي ولم يلفتها وجودي في شيء، والتي مزقت أكثر شعرها أو مزقه لها أحد، وذهلت عن الصبي شبه العاري الذي راح يتمسك بها، الواضح أن هذه المرأة تركت وراءها ما لم يبق فيها عقلاً. كانت تنوح وتلطم بوهن ووجهها غارق في الدم حتى رقبتها. لن يكون في وسعي أن أصف الدافع ولا القوة التي سرت في، ولا قدرة لي الآن علي تحديدها أكانت أخلاقية، أم روحية، أم محض جسدية، ولا إن كانت وليدة الخوف أم المهانة، أم الغضب، أم التهور. كان ما يزال في وسعي من مكاني الذي استعديت لمغادرته أن أرى جثتي الطفلة والشيخ اللذين قتلا وقذف بهما إلى عرض الشارع مقابل صناديق خشبية كثيرة تبعثرت وكانت قبلاً تشغل مكانها في مدخل دار السينما المقفلة منذ سنوات. لقد ألفت وجودهما على حالهما من دون أن أعود فأتأكد ما إذا كان المشهد الذي رأيت حقيقياً. شئ عميق فيَّ كان يكافح لاستيعاب الأمر. هل كانت حواسي طوال الفترة التي قضيتها قريباً من الجثتين تتدرب على امتلاك الجرأة التي لابد أن تبلغ درجة الشراسة حتى يمكنني أن أكون هنا وبالإستعداد الذي يعوزني لأواصل؟! لعلي لم أتحرك من مكاني ذاك في اتجاه المخيم إلا عندما هيئ لي أنني شاهد على جريمة ما أزال لم أعرف حدودها، لكن كل ما وقع ورأيت حتى الأن يؤكد أنني سأكون شاهداً على فاجعة كبيرة تفوق كل الفواجع التي رأيتها في حياتي من حوادث السير والغرق والموت مرضاً والإنتحار، وصولاً إلى المآسي التي شهدتها خلال فصول من الحرب اللبنانية، خصوصاً مذبحة الطيران الإسرائيلي في الفاكهاني صبيحة 17 تموز يوليو 1981 الذي ترك وراءه مئات القتلى والجرحى بينهم عدد كبير من الأطفال المحروقين والمشوهين، وصولاً إلى الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت. لقد مسني في قعودي بجوار طفلة وشيخ نائمين وسط الشارع بوداعة، وسلام مؤلمين، شعور قوي لا عقلاني، لكنه كياني، بأن الحياة والموت هما شيء واحد، وانتابني احساس بأنني لم أكن أرغب في اختبار حقيقية هذا الشعور كما أرغبه الآن. كانت تلك وداعة وسلام المنتهكين، وكانا معا طرفا كينونة، ومسيرة حياة، وأقصيا صورة لشعب بأكمله. خجلت من خوفي. أحاول الآن أن أكون أمينا ما أمكنني ذلك؟ هل أستطيع، وهل إن ما أدونه الآن هو المشاعر نفسها التي انتابتني؟ هل يعقل أن يحتفظ المرء في حال كتلك بالمشاعر والهواجس والأفكار نفسها، وهل تفلح ذاكرته باستبقاء التفاصيل المختلفة كبيرة وصغيرة. لقد نسيت تفاصيل كثيرة من المؤكد أنني رغبت في نسيانها لشدة ما كان يؤلمني أن تسارع ذاكرتي إلى استحضارها كلما كان هناك ما يستدعيها. أما الآن فإنني أرى المشهد حياً أمامي. ولن يتاح لي دافع قوي لأصفه بأدبية أو بتزويق لغوي أو بفلسفة توهم أنها تحيط بما فيه من معان وأبعاد مختلفة، سأظل أحاول أن تكون شهادتي تسجيلاً شخصياً ووصفاً لما رأيت وللأثر الذي تركته الأحداث في كياني كشخص. سأصف الطريق الذي عبرتُ. إنه شارع المخيم من ربعه الأول. كان ورائي بقايا أكمة صغيرة من الرمل الأحمر الذي جلبه المقاتلون أثناء الحصار ليتحصنوا وراءه. أظن الآن أن طول الشارع كان بضع مئات من الأمتار وعرضه لا يتجاوز السبعة أمتار. عند نهايته قبل أن ينعطف العابر ليبلغ مستشفى غزة هناك ساحة صغيرة جعلها القصف بما أحدثه من هدم أكبر، يتوسطها سبيل ماء. لعل جرافات عبرت من هناك لأن آثار جنازير وعجلات ضخمة كانت بادية في الأرض. لم يكن هناك بناء على امتداد الشارع إلا وفيه أثر بالغ من القصف. كان كل شبر من المخيم عرضة لقذائف البحر والطيران طوال أيام وليالي الحصار، وليس في وسع من لم يعرف المنطقة تمييز ما أنزلته الحرب في المخيم مما أنزلته وقائع الأيام الثلاثة الأخيرة فيه من هدم وتشويه لمعالمه. كانت كثير من البيوت قد سوي بالأرض، والواضح أن ذلك حدث مؤخراً. انتبهت إلى أن ثلة من المسلحين كانت تقف في النقطة الأبعد من مكاني في ساحة كان في جانب منها صنبور ماء أقيم كسبيل. أذكره، فلطالما شربت من مائه، لكنه الآن يظهر بماسورة مائلة وقد تعرى ما حوله. كانت هناك في جانب من الساحة التي باتت أكبر جرافة عملاقة ترفع أنقاضاً. تحسبت، ولبثت في مكاني لأنني قدرت أنني لو واصلت طريقي سأقع في أيديهم. لكن من هم؟ أهم من الفلسطينيين أم من أبناء محلة الفاكهاني أم هم من رجال "المكتب الثاني" أم من مليشيا سعد حداد التي لفظ الصحافي الإسرائيلي بباب فندق الكومودور اسمها مقروناً بما يحدث في المخيم؟ لم أواصل تكهناتي فقد لذت بمدخل بناء صغير، كان مهجوراً تماماً، وهناك عثرت على فجوة كبيرة فتحتها القذائف، نفذت منها إلى فسحة بين أبنية دكت دكاً ولم ينهض منها على الأرض إلا بقايا خرسانية ضئيلة هي عبارة عن أعمدة وقضبان حديد، من هناك لاح لي جوف المخيم، وربض عالياً بناء مستشفى غزة. أول مرة أرى المخيم صغيراً على حقيقته الجغرافية، وكان اكتظاظه السكاني والحركة الدؤوبة للناس فيه تجعله يبدو لي أكبر عندما أقول المخيم، فإنني أقصد مخيمي صبرا وشاتيلا معاً اللذين لا تتجاوز مساحتهما الإجمالية عن حوالي السبعمائة متر طولاً بستمائة متر عرضاً، وهما متداخلان إلى الحد الذي يجعل منهما مخيماً واحداً. لكن أزقتهما كثيرة وهي غالباً شديدة الضيق بحيث لا تتسع لمرور أكثر من شخصين معاً، وبعضها غير مسفلت في أحدى حاراته الضيقة بقيت أسابيع من أواخر العام 1981 أدرب على الرسم والكتابة أطفالاً تتراوح أعمارهم مابين أربع سنوات وإحدى عشرة سنة. كان جلهم من الفلسطينيين، وأقلهم من العرب المتطوعين في المقاومة. أين هم الآن؟ إنني أكاد أجزم أن تلك الحارة، وذلك البيت الصغير الذي دخلته مراراً لذلك الغرض هو بين الأنقاض التي أعبر فوقها الآن. كنت كلما اقتربت من قلب المخيم وأحيائه الداخلية أسمع ضجة تتعالى. كانت ضجة جرافات وضجة أناس، وخيل إلي أنني أسمع أصوات طلقات رصاص. ليس في وسع العابر أن يتميز حدود الطرق من حطام البيوت الصغيرة التي بنيت كيفما اتفق. كان بعضها مبنياً من الباطون، لكنها وقد تحطمت بانت على حقيقتها، فالصفيح كان يدخل في سقوف أكثرها. كنت أحاول العثور على شارع أعرفه يأخذ إلى شارع آخر أصغر منه كانوا يسمونه "شارع الديمقراطية" وهو اسم الجبهة التي افتتحت لها مقراً هناك. ولم يطل بي الوقت، حتى اهتديت ونفذت إلى ذلك الشارع. كانت ضجة الناس تنبعث من هناك. ولم يكن في الجهة نفسها أصوات محركات، وإنما جلبة حشد صغير من الناس بدا بعضهم مفجوعاً وبعضهم مذعوراً، وليس بينهم إسرائيلي واحد. كان بينهم اثنان أو أكثر من المدنين الفلسطينيين الشبان يحملون عصياً وقضبان حديد وصحافيون كلهم من الأجانب ونساء فلسطينيات ولبنانيات وصبية يافعون. وسرعان ما تبين لي أن هناك رجالاً كباراً في السن يصلون من بين الحطام بحركات ثقيلة. الواضح من حركة الجميع أن أغلبهم لم يكن في المخيم، وإنما جاء من الخارج متفقداً. كان البكاء واللطم يتعالى كلما اقتربت. ولقد تكرر اسم الله مراراً، وظل يدخل في كل الجمل المتقطعة والمذعورة والمفجوعة. وإلى أن أرى بعيني ما كانوا قد رأوا بأعينهم، هناك وراء شاحنة صغيرة، ما كانوا ربما يحاولون أن لايصدقوا رؤيته، كنت أحاول أن أصل إليهم موضحاً أنني صديق. رحت أرفع الكاميرا. كانت امرأة بينهم تمسك بثياب أحد الصحافيين وتجتذبه نحو جهة أخرى غير تلك التي اجتذبت إليها عدسات المصورين وانتباهتهم المفجوعة: أولادي وأختي وأبي كلهم هناك. ذبحوا كلهم وهم يتعشون! عشاؤهم مايزال هناك على الأرض... لمَ لمْ أكن معهم... لمَ لمٌ أكن معهم، يا ربي. كانت نساء أخريات يستنجدن بصحافيين آخرين ويقلن لهم شيئاً مشابهاً: "روحوا فوتوا البيوت وشوفوا... دبحوا كل الفلسطينية، العيل والطفالى... الحامل والعاجز، والصبيان، يا ربي، الصبيان!". كنت أقترب بوجل، رفعت كاميرتي بحركة مقصودة لأوضح أنني صديق، التفت نحو حطام ورحت أتظاهر أنني أصور. كانت يداي ترتجفان. "ماذا تصور؟" هرعت امرأة نحوي، كانت أماً في الخمسين ربما. "تعال صور الحبايب، تعال صور اللحم". كان بعض شباب آخرين يفدون. ووراءهم امرأة شابة، راحت تتكلم بلكنة لبنانية. وفهمت أنها تظن أن المليشيات قتلت كل آل مقداد، وانهم لبنانيون، وأن زوجها الفلسطيني ساقه قبل أربعة أيام إلى مكان مجهول رجال قيل أنهم من "المكتب الثاني" اللبناني، وأنها كانت في الضاحية عند أمها. كانت شديدة البأس. وراحت تشير للصحافيين بإنكليزية لا بأس بها على أزقة احتشدت فيها جثث كثيرة. الواضح أن الشبان الفلسطينيين الذين حملو العصي وقضبان الحديد كانوا يعرفون حجم المصاب، لكنهم كانوا يحاولون تهدئة النساء، وكان أحدهم يتوعد القتلة، والنساء ينتحبن ويضربن صدورهن وفي أيدي بعضهن خروق قماش متربة مبللة بالدموع. كانت الشاحنة الصغيرة مرتطمة بحائط متداع وقد ترك بابها لجهة السائق مفتوحاً. هناك وراء الشاحنة كان يربض المشهد الأقسى الذي رأيت في حياتي. مشهد يقلع العين كل ما أصفه الآن هو محاولة لتجنب وصف الجبل الصغير من الفتيان والرجال الرابض وراء تلك العربة. كان الحائط الذي ينهض فوقهم ملطخاً بالدم ومدروزاً بالرصاص. لكن المحير أن أقدام الضحايا كانت مربوطة بأسلاك كهربائية غليظة والأسلاك ما تزال موصولة بالشاحنة. هل طافت بأجسادهم أزقة المخيم أحياء، أم أن ذلك جرى بعد إعدامهم؟. كانوا يربون على العشرين فتى ورجلاً، وعلى أجسادهم الدامية أثار جمة من التنكيل بآلات مختلفة. بعضهم يرتدي الجينز، وبعضهم كان مفصول الرأس عن الجسد، وبعضهم بقميص مخطط، وبعضهم كان ممتلئ الجثة منفوخاً ببنطال بني تفتق عند مؤخرته، وكانوا كلهم في عناق الموت. كم مرّ عليهم وهم هكذا؟ ومن منهم رأى موت الآخر قبل أن يواجه موته. كانوا كلهم من المدنيين، والواضح أنهم ماتوا معاً، سحلوا معاً لأن ما بدا من وجوه أكثرهم وأذرعتهم وأكتافهم وسيقانهم كان مهشماً، ومن ثم معاً حصدوا بالرصاص، لأن دمهم الذي بات الآن قاتماً، ملأ الفراغات والفجوات مابين أجسادهم، ومن ثم سرى وتشعب في برك صغيرة جمدت وتيبس سطحها. فبدوا لحمة واحدة، وهاهي رائحة الدم تستجلب إليها الحشرات. ويئز الذباب على وجوههم وأطرافهم. "لا إله إلا الله" قال واحد كان يخفي وجهه بملء راحتيه. لسوف أكتفي بهذه الصورة الفاجعة التي طبعت نفسها، حية في ذاكرتي. يومذاك قال الشاب الذي كنتُ: في يوم سوف أكتب، وأكتب، وأكتب حول كل عين وذراع، وكتف، وجبهة، وقدم، وقميص وكل قطرة دم في ذلك الجبل الآدمي الذي نهض تحت حائط واطئ في المخيم. وسأكتب عن غفلتنا بينما نحن في قلب بيروت الآمن والمترف، لكن المهشم والمذعور أيضاً. سأكتب عما كان يدور في مخيلاتنا ونحن نتابع مشهد القنابل المضيئة التي رأيناها فوق المخيم لليال ثلاث قبل أن أقف أمام هذا الجبل الآدمي الصغير. نسيت الآن ما كنا اعتقدناه حول تلك الإضاءة القوية بالقنابل فوق المخيمات، لكن الواضح أنها كانت الإنارة الضرورية التي وفرها الإسرائيليون للضباع التي أدخلت إلى المخيمات لتفتك بالجسد الأعزل، بعدما أقلعت سفن الأوديسة المعاصرة من بحر بيروت بهشيم إنساني معذّب ومهزوم. شاعر سوري