"العملاق الأسمر ذو العينين الحمراوين، لفحته الشمس في معسكرات الجيش فجعلته أشبه ما يكون بتمثال من البرونز لفارس محارب مدرع من القرون الوسطى، دبت فيه الحياة بمعجزة، فخرج الى عالم المغامرات". هذا ما كتبه الصحافي محمد حسنين هيكل في وصف "القائمقام" يوسف صديق، أحد صانعي ثورة 23 تموز يوليو 1952 في مصر، والرجل الذي تحاول القاهرة الآن إعادة الاعتبار اليه بعد سنوات طويلة من التجاهل، اثر خلافه مع أعضاء مجلس قيادة الثورة عام 1953. وصدرت قبل ايام "أوراق يوسف صديق" في كتاب ضمن سلسلة "تاريخ المصريين" التي تصدرها دار النشر الرسمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، بمقدمة للدكتور عبدالعظيم رمضان. وصدرت أيضا الطبعة الأولى من ديوان "صنعوا الأقلام" الذي يضم قصائد كتبها يوسف صديق، وجمعها ابنه اللواء حسين يوسف. وهي قصائد "كلاسيكية" كتبها صاحبها في مناسبات درامية عاشها، واجتذبت اهتمام الشاعر الصحافي فاروق جويدة، الذي أشار اليها في مقال طويل في "الأهرام" ربط بين حساسية صاحبها ومواقفه المناصرة للديموقراطية. واللافت ان معظم صحف القاهرة لم يشر الى دعوى تقدم بها ورثة يوسف صديق قبل أربع سنوات أمام محكمة القضاء الاداري، وطالبوا فيها بإقامة تمثال له ضمن مجموعة تماثيل قادة حركة 1952 في المتحف الحربي أو في "متحف قيادة الثورة" في القاهرة. ولاحظ الورثة ان قاعة المتحف الحربي تخلو من تمثال لوالدهم على رغم أن كل من أرّخ للثورة يؤكد استمراره في مجلس قيادتها فترة تزيد قليلاً على خمسة شهور. وأجّلت محكمة القضاء الاداري اخيراً النظر في الدعوى. في "أوراقه" يشير صديق إلى دوره ليلة الثورة التي يسميها "ليلة عمري"، يقول: "تحركت على رأس قوة صغيرة منتصف ليلة 23 تموز يوليو فقابلت في طريقي من معسكر الهايكستب الى ادارة الحرس، قائد فرقة المشاة العسكرية فاعتقلته وأخذته اسيراً، ثم قابلت القائد الثاني في الطريق فاعتقلته، ثم صادفت البكباشي جمال عبدالناصر والصاغ عبدالحكيم عامر في ضاحية مصر الجديدة، وعلمت منهما ان أمر تنظيم الضباط الأحرار كُشِف، وأن رئيس اركان حرب الجيش يعقد اجتماعاً مهماً في رئاسة الجيش لإصدار أوامره بمقاومة الحركة فأسرعت الى مقر الاجتماع وهاجمت القيادة وقبضت على رئيس اركان الجيش وعلى معظم القادة الذين كانوا في الطريق إليه، وكذلك على عناصر القوات التي أُرسلت لتعزيز الحراسة على رئاسة اركان الجيش، فقبضت بذلك على المقاومة، وأصبح للضباط الأحرار أمر هذه البلاد". وعلى رغم إتفاق غالبية المؤرخين على صحة هذه الرواية، فإن الرئيس الراحل أنور السادات في كتابه "البحث عن الذات" تجاهل الدور الذي لعبه صديق ونسبه الى عبدالحكيم عامر وعبدالحميد شديد مساعد يوسف صديق، ما يمكن ان يعزى الى خلاف مبكر نشب بين صديق وأعضاء مجلس قيادة الثورة وتفاقم بعد أزمة آذار مارس 1954، ومحوره نقطة أساسية هي الموقف من الديموقراطية. اذ كان صديق ضد اعتقال السياسيين القدامى وضد الغاء الاحزاب، كما عارض اتجاهاً ساد مجلس قيادة الثورة في شأن تفرد الضباط بالسلطة، وفرض حكم عسكري ديكتاتوري. ووقف ضد محاكمة الضباط المعارضين. وأثناء ازمة آذار اقترح صديق، على رغم استقالته من مجلس قيادة الضباط الاحرار، تشكيل وزارة ائتلافية تضم كل القوى الوطنية الى حين اجراء انتخابات، على ان يكلف رئاسة الوزارة الفقيه الدستوري الدكتور وحيد رأفت، وهو اقتراح وصفه الصحافي مصطفى أمين في مقال له بأنه "سلاطة روسي" في اشارة الى علاقة صديق بالتنظيمات الشيوعية. والطريف ان صديق سخر من المقال وقال عبارته الشهيرة: "ان هذه الاتهامات تلقى جزافاً ولا يهمني ان اكون من عملاء موسكو او غيرها، ومن هم عملاء واشنطن؟ ولماذا لم نسمع عنهم"؟ الأكثر طرافة ان مصطفى أمين كتب عام 1991 يحيي ذكرى يوسف صديق مؤكداً انه "كان بطلاً يمشي كبطل ويفكر كبطل، اختلفت معه واحببته، طالب برأسي واحترمته، كان على حق وكنت انا على خطأ". وبعيداً عن ازمة آذار، تكشف "الاوراق" آراء صديق في التنظيمات السياسية التي عايشها، فيؤكد ان احد المسؤولين عن تجنيد الضباط لمصلحة "الاخوان المسلمين" حاول معه لكن الاتصالات سرعان ما توقفت. ويقول: "شعرت بأن الأخوان لم يكونوا منظمين تنظيماً عسكرياً مقبولاً". ويشير الى انه فكر في الانضمام الى جماعة "مصر الفتاة" لكن مسيرته لم تطل في العمل معها. ويوضح ان موقفه من الشيوعيين المصريين ظل متحفظا في شأن موقفهم من الدين، وكان يؤمن بأن الاسلام "دين له مضمون ثوري وتقدمي وديموقراطي". وتفسيراً لتركه تنظيم "حدتو" الشيوعي وانضمامه الى تنظيم "الضباط الأحرار"، يقول صديق انه فعل ذلك لإدراكه ان التنظيم الاخير "كان يقدم طريقاً عملياً لتغيير الاوضاع بالثورة المسلحة". ومعروف ان صديق انضم الى "الضباط الاحرار" في تشرين الاول اكتوبر 1951 وظل معهم الى ان استقال من مجلس قيادة الثورة، وبعد الاستقالة حددت اقامته في القاهرة. وصف صديق حاله وحال من انقلبوا عليه، قادة الثورة، بقوله: "من اطرف ما يمكن ان اذكره ان منزلي في ضاحية حلمية الزيتون، حيث حددت اقامتي لا يفصله عن منزل الزميل محمد نجيب إلا شارع واحد، وهو الممر الذي يفصل بين الحر المعتقل والمعتقل الحر". ورغم كل شيء ظل صديق مخلصاً لمبادئ ثورة تموز، وكتب في مذكراته عام 1961: "استدعيت ايام شبابي وانا استمع الى عبدالناصر وهو يعلن اجراءات الثورة الاجتماعية". ورثى عبدالناصر بعد وفاته في قصيدة عنوانها "دمع على البطل" نشرها في ديوانه، يقول مطلعها: "ابا الثوار هل سامحت دمعي يفيض وصوت نعيك ملء سمعي". ظل صديق مخلصاً للثورة حتى وفاته في 31 آذار مارس 1975، وهو الذي قال يوماً لمصطفى أمين: "كنت استطيع ان اصبح حاكم مصر، لكنني فضلت ان اتراجع خطوتين الى وراء خشية ان تفشل الثورة، ولست نادماً".