مات ستانلي كوبريك الأحد الماضي في سريره فجأة. نام ولم يفتح عينيه في الصباح، بعد أيام قلائل على انهائه توليف فيلمه الجديد "عيون مغلقة تحدق"، بطولة توم كروز ونيكول كيدمان. وفاته، عن سبعين عاماً، خطفت من الفن السابع واحداً من عباقرته في القرن العشرين، أمثال فيلليني وكيروساوا وفيسكونتي الذين صنعوا أفلاماً تتخطى محيطهم الاجتماعي الى رؤية أكثر كونية. ولد كوبريك في نيويورك عام 1928 ولم يكن مجلياً في دروسه أو منخرطاً في حياة الشارع، ويمكن القول ان مسيرته الابداعية بدأت حين أهداه والده كاميرا فوتوغرافية. في السابعة عشرة استطاع كوبريك ان يبيع صوره من مجلة "لوك" التي افسحت له المجال لابراز موهبته المميزة. عام 1953 موّل عمّه الشريط الأول لكوبريك، بالأسود والأبيض، وعنوانه "خوف ورغبة" عن أربعة جنود معزولين وراء خطوط العدو في حرب بلا اسم. وكان ذلك الشريط بطاقة دخوله الى هوليوود. لكنه آثر الاستمرار في مغامرته من جيبه الخاص، وراح يلعب البريدج لقاء 25 سنتاً للجولة في حدائق "غرينيتش فيليج" حتى جمع ما يكفي لتصوير فيلمه الثاني "قبلة القاتل". ويبدو ان لعبة البريدج كشفت لكوبريك مكامن الضعف في الانسان فعندما أبدى جورج. سي. سكوت عجرفة نجومية خلال تصوير "دكتور سترينغلاف" همس له كوبريك: "ما رأيك بجولة في البريدج؟". اعجب كيرك دوغلاس بشريط كوبريك الثالث "المقتلة" ووافق على لعب البطولة في "دروب المجد" الذي يصور مرحلة "صغيرة" في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى، فرنسا منعت الفيلم لسنوات طويلة كونه مهيناً للشعور الوطني، لكن النقاد صفقوا له بحرارة. وشاءت الصدف ان يطلب دوغلاس من كوبريك تنفيذ اخراج "سبارتاكوس" بعدما كاد التصوير أن يتوقف بسبب خلاف مع المخرج الأصلي. كان ذلك نهاية اقامته في الولاياتالمتحدة. فعام 1961 هاجر كوبريك مع زوجته وبناته الثلاث الى بريطانيا، ولم يعد. أي عاقل كان سيقول ان كوبريك انتحر مهنياً. لكن كوبريك بقي على اتصال دائم ب "الصناعة" ومركزها في هوليوود. ينام النهار ويسهر الليل ويجري محادثاته على الهاتف طوال ساعات مع كتاب السيناريو والمنتجين والمهنيين هناك. معروف ان فيلمه الأول في بريطانيا "لوليتا" أصاب نجاحاً هائلاً. إلا أن ضربته الكبرى كانت مع "2001 - ملحمة الفضاء". و"الملحمة" أخذته الى قمة الابداع الرؤيوي في السينما، وبالتالي عرّضت حياته الشخصية للاختراق. كان كوبريك طياراً مدرباً وفي جعبته أكثر من 150 ساعة في الهواء. لكنه اذ كان يقود طائرة صغيرة، بعد تصوير "سبارتاكوس"، عائداً من اسبانيا الى لندن، تعرّض لحادث بسبب اهماله أحد التفاصيل الضرورية، ونجا من الموت باعجوبة. مذ ذاك اعتبر كوبريك ان الثقة المطلقة بآلية الطيران خرافة، وقرر عدم ركوب الطائرة نهائياً! اضافة الى ذلك كان يأمر سائقه بعدم تجاوز الخمسين كيلومتراً في الساعة ويجلس متحصناً في مقعده. عام 1971 اخرج كوبريك "كلوكوورك أورينج" عن رواية انتوني بيرغيس المستقبلية. وأحدث الفيلم ضجة اخلاقية وفنية واسعة النطاق جعلت كل رقابات العالم تتهيأ لمنعه من دون جدوى. سرت اشاعات مفادها ان راهبات اغتصبن، وعجائز قتلوا في الشوارع سحقاً بالأقدام، على أثر مشاهدة الفيلم الذي يتنبأ بعنف عصابات الفتيان في المدن الأوروبية. حقق كوبريك 13 فيلماً، بينها خمس روائع على الأقل. لكنه مات متحسراً على فشله في تحقيق فيلم طوله ثلاث ساعات عن نابوليون. في بداية السبعينات كان المشروع ورشة ضخمة تورط فيها عشرات الباحثين والمؤرخين، وأعرب الجيش الروماني عن رغبته في المساهمة في كومبارس الفيلم بل وتجنيد أعداد اضافية إذا اقتضى الأمر. لكن كوبريك لم يستطع جمع المال الكافي وقيل يومئذ انه خسر في البريدج أمام الامبراطور! وبدا حزنه على ضياع تلك الفرصة في الفيلم الثقيل الكئيب "باري ليندون" عام 1975. بعد ثلاث سنوات حوّل كوبريك ضاحية إلستري المهجورة خارج لندن الى قرية يغمرها الثلج في جبال اوريغون الأميركية حيث صوّر "ذي شايننغ" مع جاك نيكولسون، عن رواية ستيفن كينغ المرعبة. عقب ذلك اقتحام من نوع آخر لدى تصويره "السترة الواقية من الرصاص" عن حرب فييتنام، في محطة غاز مهجورة على ضفاف نهر التايمز. عملت الجرافات طوال شهر لتهدم الأبنية المهجورة وجرى احراق العجلات المطاطية بالمئات لصبغ الجدران بالسخام الطبيعي، وجيء باسنادات بصرية من الشرق الأقصى حتى أصبحت منطقة بيكتون الانكليزية هي نفسها مدينة هيو في فييتنام. عام 1977 اشترى كوبريك منزلاً وسط غابة في شيليك بيري قرب سانت البانز، الى الشمال من لندن. واعتكف هناك بعيداً عن عيون الفضوليين، يعمل في حديقته ويقرأ ويشاهد برامج التلفزيون بلا انقطاع. واستمر تحضيره لشريطه الأخير سبع سنوات، كما استمر التصوير 15 شهراً متقطعة، غيّر خلالها كوبريك اثنين من ممثليه وأعاد تصوير مشاهدهما من جديد. ويروي الفيلم قصة زوجين يعيشان أحلامهما الجنسية في مواجهات متواصلة. اشتهر كوبريك بتنوعه المغاير للنوع الواحد. فكل واحد من أفلامه مستقل تماماً في الروح والمعالجة والأسلوب. إلا أن صفته التي لم تتزحزح هي الدقة اللامتناهية والقسوة في تتبع التفاصيل الى حد الهستيريا. كذلك هوسه بقدرة التكنولوجيا على التدمير، واهتماماته بالانحراف السيكولوجي، ما أدّى الى تعامله مع أبطال أفلامه كنماذج ورموز أكثر منهم بشراً من لحم ودم. قال ستيفن سبيلبيرغ إثر سماعه خبر وفاة كوبريك: "لم يكن مجرد مخرج كبير. أعطانا تجارب بيئية تتكثف أكثر فأكثر كلما شاهدناها، مع مرور الزمن. ولم ينسخ أو يقلد أحداً، وكنا جميعاً نلهث لتقليده"