أُفتتح بينالي القاهرة في دورته السابعة - كعادته - في منتصف كانون الثاني ديسمبر من عام 1998، وسيستمر عدة أشهر. وقد شاركت فيه أربع وخمسون دولة. قد يكون أحد أسباب تمايزه لهذا العام اضطلاع واحد من أكبر نقاد فرنسا وهو جيرار اكسيروغيرا بمهمة رئاسة لجنة التحكيم، فقد عرف عنه إلى جانب زميله ريستاني مسؤولية إقامة المهرجانات العالمية مثل مهرجان أولمبياد سيؤول عام 1988 وسواه، وهو يعتبر مؤرخاً بارزاً لفناني وفنون ما بعد الستينات أي الحداثة وما بعد الحداثة. ألّف أكثر من سبعين كتاباً، نافدة جميعها من المكتبات. كما قدّم مئات الفنانين المعاصرين في شتى أنحاء المحترفات العالمية، خصوصاً في آسيا اليابان وكوريا والصين، وكان وراء صعود العديد من صناع الفن المعاصر ابتداءً من جورج ماتيو وانتهاء بتابييس مروراً بايماي ودوبري، ويعتبر عالمياً من أهم منظري "الفن الاختصاري"، "المنماليست". جمعتني الأيام للتعاون معه في أكثر من مناسبة نقدية وفنية، وكان أهم أسبابها صداقته الحميمة للتشكيل العربي كجزء من ارتباطه الشمولي بما هو خارج أوروبا. فقد قدم ستة عشر فناناً من أصول عربية في مهرجان سيؤول المذكور، بعضهم لم يكونوا معروفين بعد في بلدهم مثل أحمد الحجري. وقد بدأ احتكاكه بالمحترفات التشكيلية العربية ابتداء من دعوته هذه الى بينالي القاهرة، وكان بيننا هذا الحوار بعد ساعات من عودته الى باريس، إثر أعمال لجنة التحكيم. بصفتك رئيس اللجنة السباعية للتحكيم، هل كنت تعرف سابقاً بعض الأعضاء؟ - أعرف بالطبع صديقنا المشترك أحمد نوار ممثلاً عن مصر، وفلانتينا انكر عن سويسرا، التي تملك ثقافة تشكيلية كبيرة، وتعرفت بسرعة على ابراهيم الصلحي ممثل السودان، وهو يتمتع بشخصية فنية عامرة بالخبرة والتواضع، ولم أكن أعرف الإيطاليين الينابو نتيجيا وكورلو كونتيفالي كما تعرفت لأول مرة على ممثل نيجيريا اكوي اتويزور. هل تذكر أسماء الفائزين؟ - بالطبع فقد استنزف اختيارهم أسبوعاً من الجدل والعمل. نال جائزة النيل الكبرى سليمان منصور فلسطين وقيمتها 40 ألف جنيه، تلتها خمسة جوائز متساوية قيمة كل منها عشرون ألف جنيه مصري، وهم: محمد القاسمي المغرب، عيناني مصر، ه.لوبير سويسري، كاظم العراق، سبيرو الولاياتالمتحدة، ثم هناك جوائز لجان التحكيم، وجوائز اليونسكو. هل تم الاقتراع بالطريقة المألوفة؟ - طبعاً، وكما تعرف، ابتدأ بالانتقاء السري، وعندما اجتمعنا ثبتنا الأسماء المشتركة، وتركز النقاش حول الأسماء المختلفة، وكان دوري أن أقود لعبة الأصواب بشكل ديموقراطي. هل أتت النتائج مخالفة لبعض قناعاتك؟ - نسبياً لا، ولكني ألححت على ضرورة مقاسمة الجائزة الكبرى بين اثنين، ولم يقبل الاقتراح. لا شك بأن ماضي سليمان التشكيلي وخصوبته لا تقتصر على أهمية ما عرضه أي أنه يستحق الجائزة الكبرى. - هذا ما أكده لي من يتابعونه. ما رأيك بالبقية؟ - وجدت أن التأويل الشخصي لإشارات الحضارة الفرعونية التي استعادتها الأميركية سبيرو بالغة الرهافة وحيوية الذاكرة. كذلك فإن تجربة نمر تثير الانتباه. هل تعلم أن محمد القاسمي نال الجائزة الكبرى قبل دورتين؟ - وأعرف أنك كنت من أعضاء اللجنة المتحمسين له، أنا لا أشاركك شدة الحماسة هذه وان كنت من الذين شاركوا في اختياره. أثار انتباهي في هذه المناسبة إعادة ترشيحه؟ - معك حق، مثل هذا التكرار لا يحصل في البينالات عادة. كان عليه هو نفسه ألا يتقدم مرة ثانية. هل لعبت الحساسية السياسية دوراً ولو كان ثانوياً في قرارات التحكيم التي تزامنت مع أزمة ضرب العراق؟ - بالنسبة لي بالطبع لا، فمن الضروري عدم خلط الأشياء، أنا مثلاً لم أفهم مغزى التفريق التقويمي بين المدعوين وذلك بتقسيمهم الى مدعوين عاديين ومدعوي شرف، خصوصاً وأن المكرمين من نفس جيل البقية، علماً بأن التكريم يفهم في حالات الشيخوخة أو الوفاة، لم أفهم مثلاً معنى تخصيص منى حاطوم بالتكريم؟ هل لأنها فلسطينية؟ بل لأنها حازت على شهادة نقدية من بلدكم، وذلك بعرضكم لها في "مركز بومبيدو". - أنت تعرف كيف تجري الأمور، لماذا لا نعتمد على امتحان التجربة بدلاً من هذه الإحالات؟ وشهادات الآخرين؟ حتى نكون منصفين، تفوقت في معرضها المذكور عروض الفيديو على الإنشاءات، وبما أن أصدقاءنا في ادارة البينالي يميلون - بطريقة تثير الانتباه - الى عرض الإنشاءات، فقد تم التكريم على هذا الأساس بحسب ما أعتقد، حتى أن فائزي الدورة السابقة كان جلّهم من فناني الإنشاءات الفراغية. - ولكن الحال تغير كما ترى هذه المرة، إلا إذا اعتبرت أن تجربة محمد القاسمي هي نوع من الإنشاءات. ليس المهم التسمية، إن حماستي لأمثال محمد القاسمي هو في كونهم يرفضون موت اللوحة وذاكرة التراكم فيها، ومهما يكن من أمر فكيف ترى بينالي القاهرة، هل حقق طموحه في أن يكون عالمياً؟ - بدرجة معقولة، ومحدودة لأن الطابع العربي غالب على العروض. ولكن، لا يمكن إنكار متانة بعض الأجنحة الغربية عادة، كنت ألاحظ دوماً جدية مستوى الجناح الإسباني في الدورات السابقة، كذلك الألماني والأميركي. - هذه المرة الجناح الإيطالي هو المهم، الإسباني متواضع، والفرنسي ضعيف. كما هو دائماً، لماذا لا تتعاون مع إدارة البينالي من أجل تقوية الجناح الفرنسي؟ - لقد ثبت لي أن الإمكانية المادية ليست على مستوى طموحاتهم، بدليل تعذر دعوة النقاد والفنانين الذين اقترحتهم. إذاً من الظلم مقارنة بينالي القاهرة بأمثاله في أوروبا بسبب الاختلاف في الميزانية. كان بودي أن يدعى أصحاب المجموعات وتجار الفن وشركات التسويق العالمية، فقد يكون هذا داعماً بشكل جزئي لمصاريف البينالي. من الضروري بالنتيجة اعتماد مبدأ الكوميسير الذي يشبه المراسل، يختار الفنانين من بلادهم، بمعزل عن الاعتبارات الرسمية، وغيرها، من الواجب اختيار كل كوميسير خارجي وفق نشاطه وقوته المهنية، عند ذلك يتهيأ للبينالي استقطاب الأسماء الكبيرة، وتحمل أعباء نقل الأعمال وإعادتها. ولكنك لم تخبرني عن مشاركتك في الندوة النظرية النقدية والموازية لمعرض البينالي؟ - أنا لم أشارك في الندوة لأني لا أحب خلط الأمور، فقد دُعيت من أجل التحكيم، ولم أكن أملك الوقت لكتابة المحاضرة، مع ذلك فقد حضرت وتابعت القسم الأعظم من جلساتها. كان المحاضرون متفاوتون بشكل صريح لجهة المستوى الثقافي. تصور أن أحدهم ظلّ يتحدث لما يقرب من الساعة، على رغم أن الوقت المخصص لكل متكلم عشر دقائق، وكان موضوعه عن السينما، أي لا علاقة له بالبينالي. بعضهم كان معجباً بالإحالات المدرسية الجامعية، يقوم في سطح الفكرة دون الغوص الى داخلها. أنا أرى طريقتين لتناول تاريخ الفن، واحدة تهتم بصيرورة أداة التعبير والثانية بالأفكار والمفاهيم، الندوة محصورة بالقسم الثاني، تتصدى الى مستقبل التصوير ومشكلة الهوية. ولكن هذه الإشكالية ملحة وشرعية في عصر الاجتياح التقني الذي يقتلع جذور أية خصائص ثقافية تشكيلية. - ولكنكم تخطئون في تشخيص مصدر هذا الاجتياح، انه أميركي بحت وليس أوروبياً، ونحن نعاني ما تعانوه من طمس التراكم الثقافي، ولكن الطبيعة الغنية مثل البشرية تتبع دوماً الأقوى وتحاول أن تتابع إضاءاته. ماذا تقترح - في النهاية - وبشكل عملي وإيجابي لدفع أسباب اللقاء والحوار التي أسرتك كما تقول في البينالي. - بينالي القاهرة لا يحتاج الى نصائح بل الى دعم، والتجربة كفيلة بصقل تجربته التي اندرجت ضمن تقاليده. ولكني أقترح على الدول العربية التي تخطط لإقامة معارض شبيهة، أن تفكر ببينالي يختص بالتصوير على الورق، بشتى تقنياته وأنواعه: المائي والباستيل والأكريليك واللاقي والتقنية المختلطة، وهو ما سيختصر المسؤولية والتكاليف حتى العُشر، عند ذلك سيصبح ممكناً أن تشارك أعمال المشهورين بمن فيهم بيكاسو، وذلك بسبب سهولة النقل والشحن، والتي قد تتم ببساطة عن طريق شباك البريد. ماذا تأمل في حال تمت دعوتك في الدورة المقبلة؟ - أن يتهيأ لي الوقت للتعرف على بقية الفنانين المصريين، فالتشكيل المحلي يتجاوز حتماً حدود البينالي، جدران عرضه، وحوارات ندوته.