اضافت مشاركة الرئيس حافظ الأسد في تشييع المغفور له الملك حسين الاسبوع الماضي، بعداً آخر على الاستفتاء الذي اقترع فيه السوريون على ولاية خامسة للرئيس، وأكدت أن البعد القومي يلعب دوراً مفتاحياً في فهم السياسة السورية. وكانت الحكومة السورية ارسلت سلسلة من الاشارات السياسية المهمة الى الاردن بدأت في قرار تأجيل الاستفتاء العام الذي كان مقرراً في اليوم نفسه لتشييع جثمان الملك حسين، واعلان الحداد الرسمي وتنكيس الاعلام، وتوجه الرئيس الأسد ونائبه عبدالحليم خدام ووزير الخارجية فاروق الشرع إلى عمّان للمشاركة في التشييع على رغم وجود المسؤولين الاسرائيليين في الحكم والمعارضة، وانتهاء بعقد لقاء بين الاسد والملك الاردني عبدالله بن الحسين بهدف "فتح صفحة جديدة" في العلاقات الثنائية. نظرياً كان توقع هذه الاشارات صعباً، خصوصاً أن الجمود السياسي كان مسيطراً منذ قرار الملك حسين توقيع اتفاق "وادي عربة" في نهاية العام 1994 بعيداً عن التنسيق مع سورية، وانطلاق مسيرة سريعة من "التطبيع" او "السلام الدافئ" بين عمان وتل ابيب، الامر الذي اقلق دمشق لاعتقادها أنه يضعف الموقف التفاوضي العربي عموماً والسوري خصوصاً، ومحاولة عزلها خصوصاً بعد الحديث عن تشكيل "جبهة السلام" لا تضمها. لكن واقعياً واستناداً الى مساعي الاسد لعدم رفع وتيرة الخلافات العربية والبحث عن نقاط تقارب والحرص على الاستقرار في الاردن على رغم الخلاف السياسي، على اعتبار ان عدم الاستقرار يخدم مصالح إسرائيل، كان يمكن توقع خطوات الرئيس السوري باتجاه العهد الأردني الجديد. ولفهم أهمية هذه الخطوات يكفي تصور يوم تشييع جثمان الملك حسين من دون حضور الاسد. كان سيكون الحضور الاسرائيلي هو الطاغي، وسيكون حديث الشارع العربي والأردني غياب الرئيس السوري. غير ان وسائل الاعلام والمحطات الفضائية العربية وبعض اهم المؤسسات الدولية، اعتبرت حضوره الخبر الأساسي. كان ذلك بمثابة تصويت ومشاركة في الاستفتاء على حنكة الأسد السياسية وحضوره اللافت. وقال وزير الدفاع السوري العماد اول مصطفى طلاس ان الأسد "ألغى في قضائه أربع ساعات في الاردن، أربع سنوات من المساعي الاسرائيلية، للتطبيع بعد توقيع اتفاق وادي عربة". وزاد: "وجه ضربة قاضية للجهود الاسرائيلية للتطبيع". واستمرت تلك المبادرة خلال أيام نقطة للنقاش والتحليل، في وقت كانت تجرى في دمشق ندوات ومحاضرات شارك فيها صحافيون ومفكرون عرب وأجانب مثل المستشار السياسي للرئيس المصري الدكتور اسامة الباز، والصحافي الفرنسي لوسيان بترلان والصحافي البريطاني باتريك سيل، ووزيرا الخارجية والدفاع السوريان، اضافة الى ندوات اجراها خبراء اقتصاديون بينما كانت تقوم في البلاد مسيرات واحتفالات شعبية ورسمية منذ منتصف كانون الثاني يناير الماضي الى ما بعد اعلان نتائج الاستفتاء وفوزه بغالبية 99.987 في المئة من اصوات المقترعين. واجمع هؤلاء على مميزات اساسية لسياسة الاسد تقوم على قدرته الفائقة على تحويل سورية من "دولة صغيرة تتقاذفها الاقدار" الى "لاعب بارز في الساحة الاقليمية" في القياس إلى مساحتها الجغرافية واقتصادها والظروف القاسية المحيطة بها نتيجة ذلك. كما ركز المتحدثون على قدرة الاسد على تحقيق "الاستقرار والاستمرار والامن" في البلاد بعدما عرف عنها كثرة الانقلابات منذ استقلالها عن الانتداب الفرنسي في العام 1946. جرت في سورية سبعة انقلابات قبل ان يصل الأسد إلى الحكم على أثر "الحركة التصحيحية" في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970، أي أن فترة حكمه هي "الأطول والأكثر استقراراً في تاريخ سورية منذ الحكم الأموي" حسب قول أحدهم. واستطاع الاسد 69سنة الاستمرار نتيجة قدراته المميزة التي يعزوها البعض الى كونه طياراًً وما يحتاج ذلك من تركيز وقدرة ذهنية وضرورة الجمع بين رؤية التفاصيل الدقيقة والصورة الشاملة التي تبدو من الجو. وتبدو قدرات الرئيس السوري في النظر الى المراحل التي مرت فيها البلاد داخلياً وخارجياً، اذ كان عليه بعد "ثورة الثامن من اذار مارس 1963"، التي احضرت حزب البعث إلى الحكم بعد الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة في العام 1961، تجاوز جناح متطرف في الحزب. وأحد الخلافات الاساسية كان طريقة التعامل مع الكتلة الشرقية، اذ ان الاسد كان يريد ان تكون الخطوط مفتوحة على كل القوى الدولية، أي "تحالف" مع الاتحاد السوفياتي السابق و"حوار" مع الولاياتالمتحدة، بما يوفر لسورية السباحة بين التغيرات الدولية والاقليمية. وقال الشرع" "كان يريد ان تكون النوافذ والخيارات مفتوحة لكل ما يعزز دور سورية". استطراداً، فإن هذه العقلية جنبت البلاد الانهيار مرات عدة، ابرزها العبور من نهاية الثمانينات الى التسعينات بسلام مع ان دولاً مشابهة لسورية انهارت لأنها "وضعت جل أوراقها في السلة السوفياتية". وأوضح وزير الخارجية ان "السنوات العشر الاخيرة كانت الاصعب في تاريخ سورية الحديث، حين سقط كثيرون في المشرق والمغرب. ويئس الكثيرون ولم تعد لهم نفحة من الصمود، لكن سورية صمدت ولم تتراجع عن مبادئها على رغم الضغوط والتهديدات المباشرة وغير المباشرة" التي مورست عليها. واضاف "ان شيئاً من المعجزة كان الحفاظ على الثوابت والمبادئ من قبل الرئيس الاسد". وكان الاسد خاض مع الرئيس المصري انور السادات حرباً في 6 تشرين الاول اكتوبر 1973، أقل ما يقال فيها انها حققت الكثير لإرادة الجانب العربي، واخذت المبادرة من الجانب الاسرائيلي. ويعتقد مسؤولون سوريون ان الرغبة السورية في تحقيق السلام تولدت آنذاك وصولاً الى الانخراط في مسيرة السلام بعد انعقاد "مؤتمر مدريد" في العام 1991 استناداً الى تحليل ووعي سورية لمغزى التغيرات الدولية مثل انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز "النظام العالمي الجديد"، واقليمية مثل فرض الحصار على العراق الذي هو عمق جغرافي لسورية على رغم الخلافات السياسية بين دمشق وبغداد. وقال الدكتور الباز إن الأسد "يملك رؤية شاملة ونظرة دقيقة للأوضاع الاقليمية والعالمية والقومية، تقوم على تحليل موضوعي للأمور وعلى التمييز بين الحلم والواقع"، وانه يتميز ب "صلابة التمسك بالحق وعدم الانجرار الى مغامرات أو أعمال غير محسوبة"، لافتاً الى طرح الرئيس السوري صيغة "سلام الشجعان وحرص سورية على تحقيق السلام العادل والشامل المبني على قرارات الشرعية الدولية ومرجعية مدريد القائمة على مبدأ الارض مقابل السلام"، وإلى مساعيه تحقيق "التوازن الاستراتيجي". قدرة تفاوضية واثبتت التجربة التفاوضية السورية مع الجانب الاسرائيلي بين 1991و 1996 امكان عدم جعل الطاولة التفاوضية انعكاساً للميزان العسكري، ذلك ان الجانب السوري استطاع الحصول على موافقة اسرائيلية من قبل حكومة اسحق رابين بالانسحاب الكامل من الجولان الى ما وراء خطوط 4 حزيران يونيو 1967، والموافقة على ترتيبات أمنية "متوازنة" و"متكافئة" بين سورية واسرائيل، ويعزو خبراء ذلك الى اصرار الاسد وتصميمه وقدرته التفاوضية. وهذه العناصر ساهمت بعد عملية رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شمعون بيريز عناقيد الغضب في جنوبلبنان في نيسان ابريل 1996، في الحصول على انجازين: الاول، اعتراف اميركي واسرائيلي بشرعية المقاومة اللبنانية في جنوبلبنان، الثاني، دخول لاعب دولي اقرب الى الطرف العربي، في مجموعة مراقبة "تفاهم نيسان"، فصار لفرنسا دور مماثل للدور الاميركي في المجموعة على رغم الاعتراضات الأميركية والاسرائيلية. من التجارب الاخرى التي تعكس قدرات الاسد، الازمة الاخطر بين تركيا وسورية التي حصلت في تشرين الأول الماضي، ذلك ان سورية مارست منتهى ضبط النفس على رغم التهديدات والتصريحات التركية الاستفزازية لسورية، ولم تحرك دمشق جندياً واحداً إلى حدودها الشمالية مع ان الأتراك حشدوا آلاف الجنود. وكان رد الفعل السوري الصامت لأيام عدة محيراً ومحطة لطرح تساؤلات من قبل الاتراك، الى ان تدخل الرئيس المصري حسني مبارك وحلت الأزمة سياسياً بتوقيع اتفاق أمني في 20 تشرين الأول في مدينة اضنا التركية. وقال مسؤول سوري ان الرئيس الاسد "عالج الازمة الاخيرة مع تركيا بمنتهى الصبر وبمنتهى الذكاء ما جنب المنطقة اندلاع حرب، وجنب سورية الدخول في مواجهة مع جار مسلم". وأضاف ان "اعصاب الاسد الفولاذية فوتت الفرصة على من كان يقف وراء تركيا ويدفعها للتصعيد والحرب" في إشارة الى اسرائيل التي وقعت اتفاقات عسكرية مع تركيا في مطلع العام 1996. الاخوان المسلمون داخلياً، كان التحدي الاكبر مواجهة حركة "الاخوان المسلمين" التي اجرت في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات عدداً كبيراً من العمليات العسكرية ضد مفكرين وعسكريين ومسؤولين، بهدف الوصول الى السلطة. وأسفرت المواجهة عن دخول عدد كبير منهم في السجون وهروب آخرين الى الدول التي كانت تدعمهم. وما ان انتهت المشكلة حتى أصدر الرئيس الأسد في العام 1995 عفواً رئاسياً قضى بخروج آلاف منهم من السجون وعودة آخرين الى البلاد بعد تقديم التماسات شخصية الى الأسد اعترافاً بالخطأ ومهد الطريق لبعضهم الدخول إلى البرلمان. كما كان للأسد رؤية مختلفة في المجال الاقتصادي اعتمدت على سياسة القطاعات الثلاثة الخاص والعام والمشترك. وكانت أهمية كل قطاع تزداد وتتراجع حسب المتغيرات والحاجة، واذا كان معظم الخبراء يعتبر العام 1991 وصدور قانون الاستثمار رقم 10 الذي سمح للقطاع الخاص العمل بحرية، تاريخاً للانفتاح الاقتصادي، فإن الواقع يدل الى ان السبعينات شهد الجرعة الاولى للانفتاح بالسماح للمستثمرين في اقامة مشاريع خاصة في المجال السياحي والفندقي، وشهد الثمانينات الجرعة الثانية بالسماح للقطاع الخاص الاستثمار في القطاع الزراعي. لكن المسؤولين السوريين والخبراء يشيرون الى ضرورة تحقيق المزيد من الخطوات التي تدعم الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد مثل ازالة العقبات أمام تدفق الاستثمارات الاجنبية الى الداخل وتغيير او تعديل بعض القوانين القديمة وتطوير العمل الاداري ومواجهة التحدي التكنولوجي، اضافة الى تطوير العمل السياسي في ضوء الكلام السابق عن تطوير صيغة "الجبهة الوطنية التقدمية" التي تضم الاحزاب السياسية الفاعلة في البلاد منذ العام 1972. وكان لافتاً ان المسؤولين تحدثوا في تصريحات الاسبوع الماضي، عن اعتمادهم الأساسي على الأسد لمواجهة تحديات جديدة يفرضها القرن المقبل مثل "الضغوط الأجنبية" و"تحرير الارض" و"العدوان الصهيوني" و"تحقيق التضامن العربي"، وصولاً إلى تحديات من نوع جديد مثل مواجهة "العولمة" بأبعادها الاقتصادية والثقافية، وضرورة تحقيق "المناعة الوطنية"، مؤكدين "الثقة المطلقة" بقيادة الأسد وقدرته على "قيادة دفة السفينة على رغم الامواج".