يفتقد العابر على طريق مطار بيروت الدولي الصور والشعارات واليافطات والرسوم الجدارية، التي كانت تَسِمُ هذه الطريق كعلامة مميزة وفارقة على شاكلة مثيلاتها من الطرق داخل بيروت وضواحيها. وكانت هذه الصور والشعارات معالمَ يحتاجها العابر دليلاً له في سلوك الطريق، دخولاً إليها أو خروجاً منها. أما الإشارة الأكثرُ إصراراً إلى سيطرة "حزب الله" على طريق المطار فمصدرها الجانب الأميركي، أو سفارته في عوكر الى الشرق من بيروت، والتي اتخذت خطاً جوياً خاصاً لتنقلات العاملين فيها، من قبرص وإليها من دون استخدام مطار بيروت. ويبدو ان انتفاء هذه الصورة هو نتيجة قرار من تلك القرارات السرية التي يتخذها "حزب الله"، وينفذها ناشطوه بدقة. وغالباً ما يكون التنفيذ قبل الإعلان عن القرار المتخذ، لا سيما في الأمور التنظيمية أو التنفيذية. وهذا ما عمدت اليه بلدية الغبيري التي يقع معظم طريق المطار في نطاقها البلدي. ميدان الإختبار هذه البلدية، هي ثالث بلدية لبنانية، بعد بيروت وطرابلس، في ميزان الخدمات والمحال التجارية والمراكز الصناعية والمالية والعيادات الطبية. وتتفوق الغبيري على البلدتين الكبيرتين بموقعها الجغرافي. فهي المعبر الأساسي إلى بيروت، ومن الأطراف، وهي إلى لبنان من مطاره. وهي، بمساحتها البالغة خمسة كيلومترات مربعة تقريباً تفصل بين بيروت والبقاع والجبل، وبين بيروت والجنوب. فهي المثلث الذي تتلاقى عنده طرق الدخول إلى العاصمة والخروج منها، الى اشتمالها على معظم حدود بيروت الجنوبية، فتمتد نحو ثلاثة كيلومترات على طول الشاطىء البحري بين الجناح والأوزاعي. وتحيط بالغبيري أربع بلديات، عدا بلدية بيروت، هي فرن الشباك، والشياح، وحارة حريك، وبرج البراجنة. ويقطنها 200 ألف نسمة من سكان أصليين ووافدين، أتى معظمهم من الجنوب والبقاع. وعائلات سكانها الأوائل 158 عائلة، في السجلات الإحصائية المحلية. ومن عائلاتها آل الخنساء، والخليل، وكنج، وفرحات، وعلامة، والحركة، والحاج، ورعد. وبلغ عدد الأصوات الناخبة في السجلات، بحسب الانتخابات البلدية عام 1998، 13 ألف صوت للشيعة، وثلاثة آلاف صوت للسُنّة. وهؤلاء استحصل المئات منهم على الجنسية حديثاً، ومعظمهم من سكان مخيمي صبرا وشاتيلا الواقعين في حيز الغبيري البلدي. ومداخل المخيمين مركز لإقامة العمال السوريين في لبنان، ولتجمعاتهم، ولإقامة مئات المصريين وغيرهم من العمال المتعددي الجنسية. وعليه، يمكن تقسيم بلدة الغبيري إلى ثلاث مناطق رئيسية الأولى، وهي الى الشرق من المطار، وفيها كثير المدارس الكبيرة والمراكز التجارية المحدثة ويحظى هذا القسم ببنية تحتية كاملة. ويشمل القسم الثاني، مشروع "إليسار" وهي مؤسسة تتولى تنظيم منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة بيروت، أو 65 في المئة من هذا المشروع الذي يتعهد انشاء 1100 مسكن، لنحو 60 ألف نسمة على مساحة تقدر بپ560 هكتاراً، يضاف اليها نحو 25 هكتاراً من المساحة التي ردمت على شاطىء الأوزاعي قرب المدرج الغربي المستحدث لمطار بيروت. وتقع في نطاق القسم الثالث من بلدية منطقة سكنية فخمة تشمل بئر حسن، وجوار فندق الماريوت. وهذا القسم يضم بعض أبرز المراكز السياحية في لبنان وبعض أكبر الفنادق السياحية، مثل السمرلند، والكورال بيتش، والماريوت. وما زال مشروع فندق ضخم لشركة أبيلا قيد الإنشاء تحت اسم "الكوت دا زور". وإذا لعب موقع البلدية الجغرافي دوراً أساسياً في انتعاشها ونموها، فالحرب أدت كذلك دوراً قد لا يقل أهمية وشأناً في ازدهارها وعمرانها. ذلك أن بُعْدَ الغبيري عن خطوط التماس جعل عدد الوافدين إليها يرتفع إلى ضعفي العدد الذي كان يقيم فيها قبل الحرب. وأسهم في هذا الأمر غياب الدولة عنها، ودخول الأحزاب اليها، ومع الأحزاب موجات من النازحين والمهجرين. فنشأت أحياء سكن جديدة في حرش القتيل وبئر حسن، أكثر سكانها جاؤوا من بلدات الشريط الحدودي المحتل، وخصوصاً من صلحة، وهونين، وشبعا، ورامية. ونسبة 70 إلى 80 في المئة من المنشآت التجارية والصناعية الخفيفة والاقتصادية في دائرة الغبيري، اليوم، أقيمت بعد اندلاع الحرب الداخلية في لبنان، عام 1975. وبوّأت هذه المنشآت الغبيري مركزاً ودوراً عالياً ودوراً أساسياً في الحركة الاقتصادية والتجارية والمحلية. وجعلت منها مصباً لتوظيف الرساميل المتوسطة والصغيرة التي يتعاطاها، في الأغلب، أهل البلدات الأصليون الذين ينتمي معظمهم إلى الطبقة المتوسطة. وتعتاش المنشآت والرساميل الموظفة من الحركة الناشطة في المحلة، ومن مستهلكي الخدمات المصرفية والتجارية ومكاتب السياحة والسفر. ويتولى 19 مصرفاً أو فرعاً مصرفياً، أداء هذه الخدمات. وتتخذ من منطقة بئر حسن، وهي من احياء الغبيري، موئلاً، بعضُ السفارات الأجنبية والعربية. وفيها ثلاثة فروع للأمم المتحدة، إلى فرعٍ للأونروا، التي ترعى شؤون الفلسطينيين المقيمين في لبنان، وبعض الإدارات والوزارات مثل مقر وزارة المغتربين، والمركز الرئيسي "لأوجيرو"، والهاتف، ومصلحة مياه نهر الليطاني، ومجلس الجنوب، ودار المعلمين والمعلمات، ومهنية بئر حسن الفنية العالية، وكلية إدارة الأعمال والعلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية، ومنازل الضباط، وثكنة العقيد هنري شهاب. وتقع بأراضيها منشآت المدينة الرياضية، باستثناء مدرجها الشرقي، وبعض المقرات والحوزات والمبرات الدينية، مثل مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وحوزة الرسول الأعظم، والمعهد الشرعي الإسلامي، وكلية الدعوة الإسلامية. فالغبيري أول معقل للمراكز الدينية الشيعية في بيروت والضاحية. وشهرتها مصدرها أهميتها كمركز أساسي لبيع قطع السيارات المستعملة والجديدة. وفي منطقة الغبيري أربعة مستشفيات، هي: مستشفى بيروت الحكومي، أكبر مستشفى أنشأته الدولة اللبنانية، مساحته 21 ألف متر مربع ويضم 750 سريراً" ومستشفى الزهراء، موّل بناءه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى على مساحة 15 ألف متر مربع ويضم 118 سريراً" ومستشفى دار العجزة الإسلامي، المقام على أربعة آلاف متر مربع، ويضم 800 سرير" ومستشفى عكا، التابع للهلال الأحمر الفلسطيني، وهو خصص لأمراض التأهيل من الإعاقات الجسدية. على صعيد آخر، تتمتع الغبيري بشبكة طرق رئيسية هي الأهم قرب العاصمة وفي محيطها فقد شهدت بلدية الغبيري في تشرين الثاني نوفمبر الفائت تدشين جادة الرئيس حافظ الأسد، ويقع معظمها في نطاق أراضيها. أطلق اسم هادي نصرالله، نجل الأمين العام لپ"حزب الله"، الذي سقط في مواجهة مع الإسرائيليين، على الشارع الممتد من مستديرة شاتيلا حتى منطقة الكفاءات، وذلك بالتعاون بين بلديتي بيروت والغبيري. في حين أن الجادة الثالثة هي جادة موسى الصدر، الممتدة من السلطان ابراهيم مروراً بالغبيري والمشرفية، إلى كنيسة مار مخايل في الشياح. وكانت هذه الطرقات العريضة والسريعة اختطت بين عام 1964 وعام 1965 على أراضٍ استملكتها البلدية. وأدت مكانة الغبيري السكانية والاقتصادية إلى نشوء معركة قاسية على القرار فيها بين حركة "أمل" و"حزب الله"، وجرى فيها استخدام كل وسائل الاستمالة والاستقطاب للعائلات فيها. واتيح ل"حزب الله" أن يدخلها منتصراً مرتين. الأولى، في عام 1987، بقوة السلاح عندما أخرج مقاتلي حركة "أمل" منها غداة إخراجهم من الضاحية الجنوبية كلها، باستثناء منطقة الشياح. والثانية في حزيران يونيو الماضي، عندما حصدت لائحة الحزب فوزاً واضحاً لأعضائها جميعاً في الانتخابات البلدية، واكتسحت يومها اللائحة المنافسة التي أيدها رئيسا المجلس النيابي، نبيه بري والحكومة السابق رفيق الحريري. وأوكل الحريري قيادة معركته إلى وزير اعلامه السابق، النائب باسم السبع، ابن برج البراجنة القريبة. ونجم عن استئثار "حزب الله" بالبلدية المهمة والمحيطة بالمطار الدولي، والطريق إليه، مراقبة السفارة الاميركية كل ملابسات المعركة الانتخابية. فتباهت جماعات "حزب الله" ومناصروه بانتصارهم على "المخططات الأميركية المشبوهة". محاولة النموذج اليوم، وبعد نحو عشرة أشهر على الانتخابات يحاول "حزب الله" تقديم أنموذجٍ مميزٍ لما يمكن أن يقدمه من أداءٍ مختلفٍ عن غيره من الأحزاب والتنظيمات في البلديات اللبنانية. فالبلدية هي المجال الوحيد الذي يتيح للحزب أن يتواصل مع المواطنين، بعيداً عن أطره التنظيمية والعقائدية. فبلدية الغبيري، البلدية الأبرز، تَضَع الحزب على محك العمل البلدي، وفق القانون اللبناني ووفق التشريع المدني، وهو لم يُغفل هذا الأمر، ولم يُسقِطهُ من حساباته عندما كان يتهيأ للانتخابات في هذه المنطقة. فأوكل إلى ادارة لائحته فيها، وإلى رئاسة بلديتها، شخصاً يُعدُّ من أعضاء اللجنة المؤسسة لپ"حزب الله" في لبنان الحاج محمد سعيد الخنسا. والخنسا، كما يسمى، راكم خبرة واسعة في حقول العمل الاجتماعي والصحي والنقابي لا تضاهيها سعة إلا خبرته التنظيمية في "حزب الله". فهو تولى أعلى المناصب في المؤسسات التابعة للحزب، مثل جهاد البناء، ومؤسسة الشهيد، والهيئة الصحية الإسلامية. وهذه المؤسسات هي بمنزلة العمود الفقري ل"حزب الله". ومحمد سعيد الخنسا هو أحد أقرب مسؤولي الحزب إلى أمينه العام السيد حسن نصرالله، ويرجع، منبتاً ومنشأ، الى الغبيري. ولعل نجاحه في العمل الاجتماعي والنقابي، داخل الحزب، شجع على نقل تجربته إلى العمل البلدي، وهو الأكثر التصاقاً بالناس وقرباً من أحوالهم وأمورهم. ويعول الحزب على تقديم أنموذج عن ادارة سلطةٍ قرارها محلي تتمتعُ بإمكانات مالية مستقلة خارج أجهزة الحزب وأطره التنظيمية. وفضلاً عما تقدم، استطاع الخنسا أن ينسج شبكة مهمة من العلاقات مع الأحزاب اللبنانية والفلسطينية على اختلاف مشاربها، وأبرزها علاقته الوثيقة برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط. ولا تقل علاقته بالسيد محمد حسين فضل الله قوة عن علاقته بالنائب جنبلاط. ولا يبتعد الخنسا عن الشعار الذي رفعه في انتخاباته البلدية: "إننا حزب مؤسسات وسنؤسس لنهج مؤسساتي"، عندما يتابع بواسطه هاتفه الخليوي حركة السير في المنطقة، سائلاً عن شرطي البلدية بالإسم، وعن الموقع والإلتزام بالدوام، أو عندما يبادر بالقول: "إن كل معاملة لأي مواطن تبقى أكثر من 24 ساعة في قلم البلدية، من دون البت بأمرها سلباً أو إيجاباً، يحاسب المسؤول عنها مباشرة". ويصرّ "أبو سعيد"، وهي كنيته، على أن "حزب الله" كان وما يزال يمارس العمل المؤسساتي، بواسطة المؤسسات الإجتماعية والتربوية والصحية والخدماتية، نظراً لغياب الدولة. فقبل الانتخابات كان مسؤولاً، على ما يقول، عن لائحة "حزب الله التنظيمية وعن العوائل وبعد الانتخابات أصبحنا مسؤولين قانوناً وشرعاً عن رعاية أبناء البلدة الغبيري كافة، لأن من يتصدى لمسؤوليته وواجبه الوطني والشرعي، يجب أن يقوم برعاية واحدة موحدة، من دون تمييز بين المواطنين، أياً تكن انتماءاتهم المختلفة. والسؤال دائماً هو عن حاجة المواطن. فالانتقال، اليوم، هو من عملٍ شعبي إلى عملٍ ذي صلاحيةٍ يرتبط مباشرة، وغير مباشرة، بأجهزة ومفاصل محددة في الدولة اللبنانية. إذ أننا مرتبطون بها عبر المحافظة، ووزارة الداخلية، ووزارة البلديات، والأجهزة الأخرى، بحسب طبيعة عمل كل منها". والمسؤولية واحدة وإن على مراتب: "كما كنا أوفياء للوطن وما زلنا، سنكون أوفياء للوطن وما زلنا، وأوفياء لبلدتنا ومناطقنا، فالمسؤولية الأولى هي أمام الله". أما المسؤولية الثانية فهي "أمام شعبنا الذي أعطانا ثقته لتطوير البلدة، ورفع الإهمال التاريخي عنها، فتكون نموذجاً حضارياً". ولا يُخفي الخنسا حجم المهمات الملقاة على عاتق مجلسه البلدي. ففي الغبيري، على ما يلاحظ، "أحياء لم تكن، إلى فترةٍ قصيرة خلت، معبدةً، وهي على تماسٍ مع العاصمة. وهذا عدا عن التعديات على الأملاك العامة التابعة للبلدة". وكان بعض النافذين وضع يده عليها. وينجز الترهل الإداري الأجهزة البلدية، الى هدرٍ كبير في الاموال. فأجهزة البلدية تستخدم 140 موظفاً وأجيراً معظمهم كان لا يمارس أيَّ عمل، ولا يلتزم الدوام. فصرف المجلس البلدي الجديد عشرة من هؤلاء، ووزِّع الباقين على إدارة البلدية، ومفرزتها الصحية، والشرطة، والدائرة، فضلاً عن قسمي الأشغال والبيئة. وجرى التنسيق مع وزارة الإصلاح الإداري من أجل تدريب موظفي البلدية في إطار دورة مستقلة. وتسعى البلدية كذلك في اقامة نظام سيرٍ حديث على الطرق الرئيسية والفرعية، نظراً لحركة المرور التي تشهدها، التي تقدر آلياتها بمئة ألف آلية. وتخطط لإنشاء مشاريع حدائق داخل الأحياء بعدما تم استرداد معظم الأراضي "المصادرة". ويتوقع المجلس إنجاز حدائق الأطفال خلال سنة، بعدما جرى غرس ألف شجرة. أما مشاريع البنى التحتية فيجري تمويلها من موازنة البلدية. وتجاوزت الموازنة هذه السنة 35 بليون ليرة لبنانية 22 مليون دولار. وكانت 30 بليون ليرة لبنانية في السنة الماضية. ويبلغ الرصيد البلدي المالي 15 بليون ليرة لبنانية ونصف البليون. والمورد الأول هو الرسوم التي تقوم بجبايتها الأجهزة المختصة في البلدية من معاملات البناء والعقارات، إلى الرسوم المتأتية من الفنادق والمؤسسات والمصانع ومن رديّات على الكهرباء والماء والهاتف. وتعمل البلدية على استرداد أموالها من الصندوق البلدي المستقل، ووزارة الموارد المائية والكهربائية، ورسوم الرمول، المتروكة منذ البدء بحفر المدينة الرياضية قبل أربع سنوات. واسترجعت مشروع الحدائق والمواقف، قرب فندق الماريوت، ومقابل أسواق الروشة، بعد ثلاثة أشهر من الإجراءات والمناقشات مع المعنيين في الدولة، وجلسةٍ واحدةٍ مع رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. وتولت البلدية، مطلع السنة المدرسية، تسديد 15 مليون ليرة للعائلات الفقيرة عن تسجيل أولادها في المدارس الرسمية. وقدمت بعض المساعدات الاجتماعية والمرضية الى عائلات تعيش دون خطِّ الفقر. ولا يفوت الخنسا الحديث عن تجهيز مبنى البلدية الجديد لاستيعاب دوائرها ومكاتبها في المبنى الذي تمَّ شراؤهُ أخيراً، وكان مقراً لإقامة السفير الجزائري. فهل ان نجاح عمل الحزب البلدي هو الاحتياط لمرحلة ما بعد مقاومة الاحتلال.