تنحو مقالات بعض المثقفين الإيرانيين وآراؤهم نحواً يتخلص تدريجاً من التردد والحياء اللذين غلبا على المقالات والآراء هذه إلى وقت قريب، وما زالا غالبين على أجزاء منها. فغداة سنتين ونصف السنة على انتخاب محمد خاتمي رئيساً للجمهورية الإيرانية، الإسلامية، ظهر انشقاق في صفوف سلك العلماء، وهم الطبقة الحاكمة، المباشرة الحكم، المضطلعة بمهمات تسويغ مباشرتها الحكم، وإرساء حكمها على علل وحجج "ضرورية"، معاً وجميعاً. واضطلاعها بالحكم وتسويغه يقربها من الإيديوقراطية، أو حكم الجهاز الإيديولوجي والموظفين الإيديولوجيين، وانتساب الطبقة الحاكمة إلى سلك أو جهاز "علمائي"، على ما يصنعون أنفسهم، يقرب نظامها السياسي من الدولة - الحزب ومراتبها. وكان من أثر ظهور الإنشقاق في صفوف الطبقة السياسية والإدارية والإيديولوجية الخمينية، امتحان مسلماتها المشتركة والجامعة. فما بقي الخلاف الظاهر والعلني خلافاً بين بعض الجماعات السياسية المدنية - مثل الحركات الوطنية المتحدرة من سياسة محمد مصدق، رئيس الحكومة الإيرانية الذي أمم النفط في 1951، على خلاف رأي محمد رضا بهلوي شاه إيران" أو مثل تيار أبو الحسن بني صدر، و"مجاهدين خلق"، وحزب فوروهار الذي اغتالته استخبارات "الدولة"... وبين "القادة العلماء"، على ما رسم مرشد الثورة الأول، تماسكت الطبقة الحاكمة الخمينية، وأحلت خلافاتها محلاً ثانوياً، وقصرت الخلافات على شؤون التدبير الإقتصادي والإداري. وكانت رئاسة السيد رفسنجاني الجمهورية ولايتين، بعد ترؤسه مجلس الشورى البرلمان، وهو السياسي العملي والشاطر، قرينة على تقدم الخلافات العملية والإجرائية على الخلافات السياسية و"الثقافية"، إذا جازت العبارة. وعلى خلاف رفسنجاني، قام انتخاب خاتمي دليلاً على عمق انقسام الجهاز العلمائي الحاكم، وعلى استئناف هذا الجهاز انقسامات المجتمع الإيراني، والدولة الإيرانية، في أعقاب نحو عقدين من استبداد الجهاز هذا بالحكم. ولكن الجناح الإصلاحي، الخاتمي، التزم، طوال النصف الأول من ولاية الرئيس الجديد، التحفظ عن نقد أركان "الحكومة" الخمينية ودولتها - السلك إن لم يكن دولتها - الحزب. فقصرت صحف هذا الجناح، المختلط والكثير الروافد والواحد قسراً ومؤقتاً، قصرت مطاعنها ونقدها على بعض وجوه السياسة الثقافية والإعلامية والاجتماعية المتزمتة، إلى نقد سياسة اقتصادية تترجح بين الإنكماش والتضخم، وكان ابتدأها رفسنجاني، الضالع فيها. فبقيت ولاية الفقيه، وهي تسويغ وضع جهاز المعممين يده على السلطة والمجتمع، وما يترتب عليها من إملاء الرأي الصحيح والقويم والشرعي في أمور السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد ومن اختصاص "القادة العلماء" بهذا الرأي وصناعته، بمنأى من النقد الصريح، ومن "الجَرح"، على معنى أهل النقل. وعلى هذا بقي القول في رأي أو عمل بأنه مخالف لما ذهب اليه مرشد الثورة على الشاه البهلوي، أو خارج عما سنَّه، سبباً كافياً في أطراحه وتهمته بالنفاق والمروق والكفر والخيانة، إلى آخر النعوت التي ينعت بها رجل مثل حسين منتظري منذ عشرة أعوام، واستبعاده من خلافة خميني. ولم يُظهِر الإصلاحيون، في أول أمرهم، التشكك في جمع الثورة الخمينية شرائط الشرعية التاريخية، إلى جمع صاحبها، على زعمه وزعم أنصاره، شرائط "الولاية على المسلمين". فكان الاحتجاج بها، وبحوادثها واجراءاتها والمشاركة فيها، حجة يستقوي بها من يستطيع الاحتجاج. ف"الثورة" هي مرجع الأمة الإيرانية الإسلامية، ووالدتها أو باعثتها من العدم الذي كانت ملقية فيه وقابعة. ومن ليس من "الثورة"، أو يمت اليها بسبب ضعيف، لا رأي له، أو هو عدو و"طاغوتي" ومنافق. ويعود الفصل فيمن هو من "الثورة" أو ليس منها إلى صاحبها، أو إلى صحابته الأقربين، وصحابة صحابته، إلى آخر "باسيج" متطوع في ريف ناءٍ من الأرياف التي تصورها أشرطة كياروستامي أو مخملباف أو جليلي وغيرهم من السينمائيين الإيرانيين. ولم يسلم من ثقل هذا المعنى، معنى "الثورة"، بعض أول من بادروا إلى نقد سياسات السلك المستبد بالسلطة، ثم إلى نقد قيمه المضمرة والمعلنة، مثل عبدالكريم سروش، "المتكلم" في أصول الشريعة. والحق أن حملَ "الثورة" "الإسلامية"، هو على ابتداء غير مقيد بسوابق، وغير مترتب على مقدمات، ونسبتها إلى روح الله خميني، و"إذابة" خميني في الإسلام، هذه الرسوم الذهنية والثقافية قضت بجَبِّ كل التاريخ الإيراني السابق، المدني والديني على حد سواء. فذهب خميني إلى أن الفقهاء الذين سبقوه غفلوا عن طبيعة الفقه والإسلام، وصرفوا همهم وعقلهم إلى استنباط أحكام "الحيض والنَّفاس"، وتركوا جوهر الإسلام وهو، بحسب فقيه خمين وقم، السلطة والإمامة والقوة التي "تمسك الأرض والسماء أن تسوخا"، بحسب أحد أئمة الإمامية. وفي ضوء هذه المسألة، وصدارتها، تبدو مرافعة السيد عبدالله نوري، وزير داخلية خاتمي السابق، المُقال كرهاً، وعضو مجلس بلدية طهران بأكبر عدد من أصوات الناخبين، ورئيس تحرير صحيفة "خرداد" "الحياة" في 17 تشرين الثاني / نوفمبر، خروجاً صريحاً، ولو متردداً، على مزاعم الابتداء والجب الخمينية. ولعل الخروج هذا، وإعلانه، وإدراك نتائجه، هي السبب في أصداء مقاضاة نوري، وفي توقع تجديده انجاز خاتمي الرئاسي جمعه 70 في المئة من الناخبين عليه في انتخابات آذار مارس العام الآتي. وما ذهب اليه الصحافي والوزير السابق وفقيه الشرع "حجة الإسلام" لا يعدو البدائه. والبدائه في المجتمعات التي تُقسر على مسلمات وأحكام عامة تخرج على الدوام مخرج الأفكار الناصعة والجديدة. فهو قال ان تاريخ ايران المعاصر يشتمل على اسم محمد مصدق، وعلى الحوادث والأفعال المتصلة بهذا الإسم، اشتمالاً لا فكاك منه. ولا يفك تلازم مصدق ومهدي بازركان وتاريخ ايران الوطني رأي مهما كان مأذوناً، وكانت مرتبته في الاجتهاد والسلطان عالية. ويطعن هذا الرأي، على رغم إنكاره الأمر، في سعي سلك العلماء في شطب 19 آذار مارس 1951، تاريخ قانون تأميم النفط، من تقويم الأعياد الإيرانية. ويطعن، من وجه آخر، في فتوى خميني بأن مصدق "وطني" وليس "مسلماً"، وفي فتواه الأخرى بأن جبهة بازركان الوطنية لتحرير ايران "لم تطرح الإسلام بل اهتمت بالوطنية فحسب"، وهذا على مذهب قاضي محكمة رجال الدين التي تقاضي نوري، محمد سليمي، "ردة على الدين" - وحكم المرتد معروف. فإذا ثبت، على ما يزعم نوري وأصحابه من "شريحة رجال الدين الشباب" على قول سروش، "النهار" اللبنانية في 2 أيلول / سبتمبر 1999، أن الحركة الشعبية الإيرانية التي أطاحت حكم محمد رضا بهلوي قبل عقدين ليست خمينية، ولا يستوفي خميني حوادثها ولا معانيها، ولا يقضي وحده ومقلدوه من بعده في هذه المعاني، ولا في الهيئات السياسية والثقافية والاجتماعية المنعقدة على هذه المعاني - أبطل هذا معظم مزاعم الجهاز العلمائي في "الثورة" أولاً، ثم في الاستبداد بالدولة والمجتمع والمعاني المشتركة التي تنظم علاقات الإيرانيين بعضهم ببعض. ويتصدى هذا الرأي "الزمني" والتاريخاني والعقلاني، للمنطق النبوي والإمامي الذي تصدر عنه "ولاية الفقيه"، أصلاً وفروعاً، وتزعم لنفسها القوة على تجديده وإنفاذه في كل وقت. وإذا بسط نوري، وأصحابه، مذهبهم في هذه المسائل، على ما فعلوا في بيان من ست عشرة مسألة "الوسط"، في 22 تشرين الثاني، أوجبوا أصولاً عامة مثل "إحالة امتلاك الحقيقة المطلقة"" ووصفوا "المعرفة الدينية" وهي غير "الدين"، بحسب سروش بالمعرفة "الجمهورية"، أي المقسومة في الجمهور وغير الموقوفة على أهل العلم السلكي والصنفي في الفقهاء المحترفين" وأقروا اخراج مضمار الثقافة من حكم السلطة السياسية... وهذه قضايا يخالف القضاء بها فقه الخمينية مخالفة تامة. وترقى المخالفة إلى مرتبة تعلو مرتبة فقيه قم، ويصدر هو عنها وعن تراثها. وتنزع المتحالفة منزعاً يبدو القول بأصل التراث الإسلامي "الكثير" والتوسل ب"النبوة المتجددة"، علاجاً للتحجر عليها - وهي مقالة أدونيس، الشاعر - قياساً عليه على المنزع، حيياً ومستسلماً. فما ييمم نوري وأصحابه شطره، وقد يكون عبدالكريم سروش رائده الفكري، ليس أقل من إرساء الدولة والمجتمع الإيرانيين على مذهب دستوري متماسك، على مثال مدني وإنسانوي "جمهوري" على معنى ميكيافيلي الذي يستعيده روسو "العقد الاجتماعي" عام. وركن هذا المثال هو تعريف القانون ب"تبلور الإرادة العامة"، من طريق الهيئات المنتخبة، والفصل بين "التشخيص" وبين "التنفيذ"، وتخويل "الجميع" التمهيد للتشخيص والتدخل فيه بواسطة المداولة والرأي، صحافة وأحزاباً وجمعيات وتنادياً وتظاهراً، إلخ. وعلى هذا، لا تصدر "السياسة"، لا الشرعية ولا المدنية، عن المعرفة الدينية و"أدلتها"، بل تصدر الإثنتان عن "أسباب سياسية وسلطوية" سروش، ولا شأن لها بمقاصد الدين "الأساسية" وهي "التوحيد والعبادة واجتناب الطاغوت وحفظ النفس"، على ما يقول سروش" وكان يصح أن يصدر مثل هذا القول عن كل متدبري الحروب الدينية الأوروبية منذ أواسط القرن السادس عشر. ويتضافر هذا كله، وليس أقله شأناً "نعمة" انقسام السلك العلمائي أو الطبقة الحاكمة الإيرانية، على بلورة السياسة بلورة مستقلة، وعلى حدة من مرتبة مفارقة تمتنع من الرأي وتمنع منه. وقد يرهص هذا، إذا قيض له بعض الدوام والاستمرار، بما يشبه "الوقت المكيافيلي"، على ما ذهب اليه بوكوك، الأوسترالي الأميركي، في الثقافة السياسية الأوروبية، أي تدبر السياسة تدبراً مدنياً وعامياً وتاريخانياً. ويقتضي هذا إدارة السياسة، أو السياسات على قول أرسطي، على أهواء الدنيا ومعارفها ومصالحها وروابطها وأحكام عملها أخلاقها، وإدارة تاريخها على هذه. فينبغي ألا تحمل السياسة، إذا انفكت من التصوف واللاهوت، على "الانحطاط"، ولا الرغبة فيها على الدنية. فتعريف مقاصدها جزء أساسي من إرساء استقلالها على ركن قوي وجامع يبدو طيف "مدينة" أوغسطينوس الملح والمدمر. * كاتب لبناني.