إذا اقتصرنا على الحكم الشخصي المتداول في أوساط اكتفت "بنوعية" صوتها "الرجولي" بعيداً عن الخشبة والأسطوانة... نقع بدورنا في مطب المواقف الجائرة بامتياز! كيف؟". ولعلّ كاتب هذه السطور يعترف أنه "صُدِم" يوم تحدث معها بمناسبة ليلة تلفزيونية رمضانية نشطها فريدريك ميتران العام الماضي. لقد أبهرت في تلك الليلة "صديق العرب". وأسَّرت جمهوراً مكوناً من الفرنسيين والعرب المهاجرين، وأسعدتهم بصوتها الأندلسي الدافىء، والمرادف لحضارة عربية إسلامية أندلسية سادت ثم بادت بسبب الانحراف عن الجوهر. انها المطربة الجميلة والعذبة بهيجة رحال التي تُُحَوِل صوتها الرجولي وهي تواجه الجمهور الى ينبوع متعة وسعادة تقضيان على ارهاق اليوم وتفتحان باب الأنس والانشراح. بهيجة التي تتألق هذه الأيام في باريس في سياق الهجرة الجزائرية الثانية والنافعة أكثر بحكم طابعها الثقافي والعلمي، هي أحد رموز الإبداع الفني الأصيل الذي هاجر تحت وطأة "رداءة حضارية" وتاريخية، وأخرى جديدة يعجز المرء على وصفها!. يرتبط اسم بهيجة بتجربة موسيقية وتراثية كبيرة لم يصل صداها الى خارج الحدود الوطنية... ولم تُقم حتى في عقر دارها قبل أو بعد بروز فن "الراي": "انني أفتخر كوني رمزاً للموسيقى الأندلسية التي تحمل روح تأصيل فني وأدبي فريد من نوعه على رغم الاهمال الذي عرفته منذ الاستقلال والى يومنا هذا". انها ثمرة مدرسة موسيقية استثنائية كرسها أساتذة وشيوخ كبار تتحدث عنهم بعزة واعتزاز قل نظيرهما: "انني خريجة المعهد الوطني للموسيقى الكائن في الجزائر العاصمة عام 1969، وقد حصل لي شرف تعلم هذه "الموسيقى الذاكرة" على أيدي السادة خشخاشي وخزناجي وفخارجي... هؤلاء الذين رحلوا وتركوا تراثاً أحاول الحفاظ عليه اليوم بكل ما أملك من قوة. ولعل انتسابي الى جمعية الفخارجية عام 1982 نسبة الى مؤسسها الراحل عبدالرزاق فخارجي مسؤولية أكثر مما هو شرف، وأنا سعيدة اليوم بتمثيلي هذا التراث في عدد غير قليل من الدول الأوروبية في مهرجانات موسيقية شهيرة تعرض "أرواح الشعوب". بدأت بهجة رحال في تسلق سلم الشهرة كمطربة وعازفة عود وأستاذة وعضو في جمعية الفخارجية انطلاقاً من عام 1986. وتعمقت خصوصيتها الفنية من جديد اثر التحاقها بجمعية "السندوسية" المرجعية الموسيقية الأندلسية الثانية التي ضمت من خلالها مكانة تحت الشمس: "سجلت 4 أسطوانات سي دي روم مع جمعية "السندوسية" ما بين أعوام 1986 و1992 تاريخ التحاقي بباريس". بهيجة من مواليد الجزائر العاصمة عام 1962، وتربت في عائلة تتنفس الموسيقى على حد تعبيرها. واللافت للانتباه في مشوارها الفني توفيقها بين دراستها الجامعية لعلم الأحياء ومتابعتها للنشاط الفني مجسدةً معادلة يصعب ضمان التوازن بين طرفيها: "بفضل احساسي الموسيقي وحبي للعلوم بوجه عام... لم أجد صعوبة في اكمال دراستي الجامعية والحصول على ليسانس في الاختصاص الذي ولعت به دائماً ومزاولتي التدريس في الحين نفسه، وقد وفقت في ذلك بفضل تشبثي الدائم بالموسيقى العربية الكلاسيكية التي تربيت في أحضانها، وجديتي الشخصية. ولم أفكر يوماً في ترك الموسيقى لحساب الدراسة والعكس صحيح". مغنية وعازفة وخلافاً لعدد غير قليل من "المطربات" العربيات والجزائريات - وخصوصاً اللائي ركبن موجة الإيقاع السريع في المشرق بوجه عام و"الراي" في الجزائر، تعد بهيجة موسيقية مهنية بأتم المعنى، وترفض أن تعتبر مطربة تنطق أدباً كلاسيكياً جميلاً وأصيلاً فقط: "ان أدائي الغنائي ليس موهبة فقط... والموسيقى الكلاسيكية الأندلسية تفرض معايشة روحية تضمنها المعرفة الموسيقية الأمر الذي يكشف عن الفرق بين نوعية أداء هذا المطرب أو ذاك". وعلى الرغم من نجاحاتها في أكثر من مناسبة عربية وأوروبية في باريس وخارجها وسعادتها بتمكنها من تمثيل الأغنية الأندلسية العربية الإسلامية... ما زالت بهيجة تتحدث بمرارة عن التهميش الذي تعرضت له في الجزائر على رغم من قيمتها الحضارية والتربوية: "لقد فنَّد تعامل المسؤولين المعنيين بالقطاع الثقافي صحة خطابهم، ولقد ضحوا بها على مذبح الموسيقى التجارية والهابطة، وأتذكر أن مسؤول قاعة قال لي مرة قبل ظهوري أمام الجمهور: "هل أنت واثقة أنك قادرة على ملىء القاعة"! في حضور أميرتين اثنتين في عمان، أحدثت بهيجة المفاجأة وغنت أمام جمهور عربي صفّق لهذه المطربة التي تقطر عذوبة، وتغني باللغة العربية الفصحى شعر الحضارة العربية الإسلامية"!! وبعيداً عن وطنها الذي تركته مكرهة "ولا بطلة"...، تحاول استغلال المحيط الفني والإمكانات التقنية لتسجيل اسطوانات جديدة أثر صدور البومها الثاني أخيراً...، ولا تكتفي بهيجة بالإبداع الفني المحض، وفي كل مناسبة تؤكد للصحافيين الفرنسيين والأجانب أنها نتاج جزائر الحس المرهف والعواطف النبيلة... واسمها لا يرادف الدم والدموع والدمار كما يريدون تكرار ذلك تكريساً لماركنتلية إعلامية مغرضة ورخيصة. "لم أهاجر هرباً من الجحيم كما يتصور البعض وأذهب باستمرار الى بلدي الذي تكونت فيه على رغم الداء والاعداء وسأغني فيه ما دمت على قيد الحياة، وسأعمل على تحويل المنفى الموقت الى فرصة للتعريف بأغنية أصلح أكثر من أي وقت مضى في زمن الضجيج الفني والصخب الحضاري والنزوع المادي". لعلّ من يستمع الى هذه المطربة الجزائرية بهيجة رحال يتهيأ له انه يستمع الى صوت طالع من عمق التراث العربي الإسلامي الأصيل ومن مخزون الذاكرة الأندلسية التي لم يستطع الزمن الراهن ان يمحوها. وصوتها الى أصالته هو صوت حديث ومتقن وقد أضفت عليه خبرتها الموسيقية بعداً آخر.