في كل يوم من ايامنا هذه، نرى ونسمع سيولاً، لا بل طوفانات كلام وأفعال، وامتشاقات سيوف وتصويبات بنادق. كلها تتغنى بأمم هبطت على كوكبنا منذ آدم عليه السلام. وبلغات تجوهرت منذ ايام القطيع، يحرسها جند من الملائكة بكامل ألبستهم المصنوعة من التبر واللجين. وبأديان ومذاهب ومعتقدات، كل منها وحده هو الناجي، حاملاً جواز سفره الى الفردوس، وغيره، هم من "الغوييم" الغرباء، الذين ما من مصير ينتظرهم سوى الجحيم. من حق الجماعات الانسانية ان تذود عن هوياتها وانتماءاتها وتقرير مصيرها. فالمرء بلا هوية عار وفي حالة خواء، كما الشيء بلا شكل عدم وتلاش. ولكن ما ليس بحق هو ان تماهي الجماعات الانسانية هوياتها بأصولها فالهوية ليست الأصل. فالأصل بداية نشوء وتكون وتشكل. بينما الهوية منتج تاريخي يفقد على الطريق اشياء، ويكتسب أشياء. فالهوية لا تعبّر سوى عن الراهن والحاضر، وهي تنويعة اشكال او بالأحرى تركيبة انتماءات. بعض انتماءاتها مشتركة بين افرادها وبعضها الآخر ليس كذلك. ان الهوية من "هو"، الضمير للغائب، الموجود ضمناً في كل جملة اسمية تخبر عن صفة او هوية، وهذا الضمير يعبر عن مضارع فعل الكون المحذوف في هذه الجملة، كما هي الحال في اللغتين العربية والروسية على سبيل المثال، بينما يتواجد مرافقاً لحاضر فعل الكون في بعض اللغات الاخرى كالفرنسية والانكليزية. طبعاً بين الهوية والماضي ليست هنالك من قطيعة، ولكنها ليست الماضي ابداً بل هي المضارع بكامل أوصافه. وعلينا ان لا ننسى "سيبويه" وكل النحويين الذين تألقوا إبان العصر الذهبي من الحضارة العربية الاسلامية، الذين قالوا عن المضارع انه بالاضافة الى دلالاته على الحاضر والحقيقي والواقعي، فهو يستغرق بعض المستقبل. وهذه الدلالة المستقبلية موجودة في مضارع كل اللغات الاخرى. ان الهوية في اية حقبة زمنية تعبر عن تركيبة انتماءات راهنة ومختلفة، وان تفكيكها الى انتماءات وحيدة متفردة، أزلية وسرمدية، لا يعني سوى الصراع الدائم بين اطرافها على رغم وجود انتماءات اخرى مشتركة في ما بينها. ونحن نعتقد، اذا واصلت هذه الجماعات تفكيك هوياتها وفردنة انتماءاتها التي لا تشترك فيها مع الآخرين. ضاربة عرض الحائط بالانتماءات الاخرى داخل الهوية الوطنية المتنوعة، بأن هذا لا يعني في نهاية المطاف سوى الدخول في نفق القتل على الهوية او الاسم او اللون. من يدري، فلربما - اذا ادخلت نظرية بريجينسكي في التفتيت الاثني والمذهبي الى حيز تشغيلها كاملاً - يأتي ذلك اليوم الذي نرى فيه بطاقة الهوية الشخصية. ممهورة بالاضافة الى الاسم والكنية ولون العينين والعلامات الفارقة، باسم الكانتون والقبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب والطريقة الصوفية والمدينة والحي والشارع. ولربما ايضاً سيضيق بناء "علبة الكبريت" في العاصمة الاميركية الثانية نيويورك، عن استيعاب ممثلي عشرات الألوف من الميكرو-دويلات من نمط "ميكرونيزيا"* الى هيئة الأممالمتحدة. وأخيراً لنتساءل: هل ما يجري الآن من بلقنة على مستوى العالم هو مرحلة انتقالية، لكي يسهل على الرساميل العالمية اختراق الحدود الوطنية للدول وهدمها؟ وهل يا ترى في نهاية المطاف ستحترق اصابع الطباخين في الغرب، وفي الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص، بلعبة الفسيفساء الإثنية والمذهبية وتفريخ الميكرودويلات، خصوصاً ان الاخيرة واسرائيل هما من اكثر دول العالم اكتظاظاً بالهويات والجاليات والاثنيات والأديان المختلفة؟ * ميكرونيزيا: جزيرة صغيرة جداً في جنوب شرقي آسيا وهي من اصغر الدول في هيئة الأممالمتحدة. نقولا الزه