"مدن المغرب السلالية" عنوان كتاب صدر أخيراً عن دار "تيّراي" في باريس يضم نصّاً وضعه محمد مطالسي وصوراً فوتوغرافية التقطها ميشال رويز وسيسيل تريال. ويأتي الكتاب في وقت تحتفل فرنسا ب"زمن المغرب" من خلال تظاهرات ثقافية عدّة المعارض والندوات والحفلات الموسيقية في باريس ومدن فرنسية أخرى. فاسومراكشومكناسوالرباط، أربع مدن تاريخية تأسّست مع السلالات الست التي حكمت المغرب منذ القرن الثامن، فكان الملوك يبسطون سلطاتهم على مقاطعات واسعة ومزدهرة وكانوا يحرصون على نقش قوّة عهودهم في الحجر. "لكل ملك كبير مدينة كبرى"، هذا ما قاله ابن خلدون في القرن الرابع عشر… وهذا ما حصل في المغرب. فعندما كانت سلالة مغربية تختار إقامتها في فاس او مراكش او الرباط أو مكناس، كانت المدينة تتحوّل الى "عاصمة" وتتحلّى بأجمل الأنصاب والأبنية قصور، مساجد، ضرائح... كي تشهد على نفوذ أمير في عيون معاصريه، وكي تبقى شاهدة للتاريخ. يكتب محمد مطالسي: "عالم من العظمة، من الرفاهة ومن البذخ، تشكّل المدينة الملكية أيضاً عالماً خرافياً يُلهم كتّاب القرون الوسطى بصور من الأساطير. يحدّد وجود البلاد في مدينة مظهر مبانيها النصبّي والفخم، والإتقان في هندستها المعمارية وفي فنّها، في حجمها وسعتها. من أجل استقبال الحياة الرسمية للملك، بحفلاتها ومراسمها، وحياته الخاصة كذلك، كان يجب على المدينة أن تكون أكمل تعبير عن الإنجازات المعمارية في ذلك الوقت". وتعتبر فاس التي أسّسها مولاي ادريس العام 789 أقدم مدينة سلالية في المغرب وأوّل مدينة إسلامية في البلد، وهي شكّلت في العام 818 ملجأ لآلاف العائلات الأندلسية التي طردت من قرطبة على يد الأمويين. وفي حدود العام 824، عندما أسّس ادريس الثاني في الضفة اليسرى من واد فاس مدينة أخرى، صارت هذه ملجأ للعائلات العربية التي أُجبرت على مغادرة مدينة قيروان في تونس، وأصبحت تالياً تُعرف بالقرويين. ومع مرور الزمن، شهدت المدينة تحوّلات عدّة.، فبعد مرحلة من الدمار والإنحطاط، عادت الى رونقها مع سلالة المرابطين التي أعطت إهتماماً كبيراً لفاس على رغم تأسيس عاصمتهم في مراكش. وعرفت فاس إزدهاراً لا مثيل له في تلك المرحلة وأصبحت تضم، إبتداء من القرن الثالث عشر، 120 ألف منزل و700 جامع إضافة الى الجامعات والمدارس القرآنية. وبفضل الإدارة المتطوّرة التي تمتعت بها كان يُنظر إليها كعاصمة للمغرب اقتصادياً وثقافياً. وعندما تمكّن المرينيّون من السيطرة على المدينة في العام 1250، إستعادت مركزها ك"عاصمة" للمملكة وأُضيف إليها جزء جديد عُرف ب"المدينة البيضاء" شمل قصر الخليفة والمساجد والمقابر. ومن أبرز إنشاءات المرينيين في المدينة المدارس القرآنية التي كانت تستقبل الطلبة وتعمل حسب نظام المنح. كما بسط جامع جامعة القرويين نفوذه وفرض سمعة شهيرة بفضل مكتبته الغنية بالمخطوطات القديمة وبفضل العلماء البارزين الذين كانوا يدّرسون فيه العلوم والقانون والقواعد وعلم الدين وعلم المنطق... وهذا العصر الذهبي استمرّ قرنين دخلت بعدهما فاس في مرحلة طويلة من الإنحطاط والنسيان الى أن عاد اليها أوّل سلطان من سلالة العلويين، مولاي رشيد، واختارها عاصمة له سنة 1666. ولكنها نُسيت من جديد عندما نقل السلطان مولاي اسماعيل 1646 - 1727 عاصمته الى مكناس، لتعود الى السلطة مع مولاي محمد بن عبدالله… فتقاسمت دور العاصمة مع مراكش حتى مطلع القرن العشرين. وهكذا، بين الازدهار والنسيان، بقيت فاس مدينة غنية بمساجدها وقصورها وأسواقها وفنادقها ومدارسها حتى مرحلة الحماية الفرنسية سنة 1912 وبداية ظهور مدينة حديثة في مواجهة المدينة التقليدية التي لا تزال تنبض بحياة حقيقية على رغم تراجعها وإنحطاط مقامها. من فاس، مدينة الآداب، ينتقل مطالسي الى مراكش مدينة القدّيسين السبعة، ومنها الى مكناس عاصمة الأمير، فالى الرباط العاصمة العلوية… ليخبّر بتوثيق دقيق وأسلوب سلس عن تاريخ مضطرّب لمدن صعدت وهبطت مع تعاقب الملوك والسلالات، وعن الهندسة المعمارية والتقليد الفنّي في تلك المدن التي لا تزال تتحلّى بتراث معماري بارز... وترافق الصور الفوتوغرافية الملوّنة تفاصيل المكان بطريقة جميلة فتضفي حيوية على النصّ وتسمح بالتعرّف بصرياً على الأمكنة في محيطها الطبيعي.