بسبب الأحداث المأسوية التي صبغت جبل لبنان طوال القرن التاسع عشر بالدماء، توارث اللبنانيون عداوات تاريخية كانت تبرز بوضوح أثناء الانتخابات النيابية والبلدية. ومع ان لبنان كان السبّاق في العالم العربي الى ممارسة حق الاقتراع، إلا أن هذا التميز لم يسعف شعبه بطريقة يرتقي معها بالعملية الانتخابية الى مستوى الدول الديموقراطية. وربما كان "مجلس الادارة" - الموازي في حينه لمجلس الشعب اليوم - أول خطأ ارتكبته الدول الراعية السبع عام 1914، لأنها اختارت ممثلين على أساس مذهبي، مُدشنة بذلك سياسة الانتماء الى الزعامات الطائفية. ولقد اختارت 13 عضواً اعتبرتهم يمثلون مجمل القوى، ثم وزعت النسب حسب الترتيب العددي للمذاهب على النحو التالي: خمسة للموارنة، ثلاثة للدروز، اثنين للارثوذكس، اثنين للسنة، واحد للكاثوليك. لم يعمر ذلك المجلس أكثر من عام واحد بسبب الحرب العالمية الأولى التي عطلت أعماله لمدة تزيد على الثلاث سنوات. ولكن الدول الراعية تعمدت إحياءه في 18 كانون الاول ديسمبر 1918، وذلك ضمن اطار مختلف عن الإطار الذي ولد في ظله المجلس الأول. وكان من نتيجة تغيير أجواء السياسة الدولية، عودة أهم لاعبين سياسيين من الاسكندرية هما اميل اده وبشاره الخوري. وكانا قد هربا الى مصر خوفاً من اضطهاد العثمانيين، ومن الرقابة المشددة على نشاطهما السياسي. وحدث ان تزامنت عودتهما مع اعلان تحرر لبنان من وصاية الامبراطورية العثمانية التي قضى عليها انتصار الحلفاء. وبعد عامين، أي في عام 1920 أعلنت "دولة لبنان الكبير" تحت الوصاية الفرنسية التي عينتها عصبة الأمم دولة منتدبة على لبنان وسورية. ولكن الوصاية الفرنسية لم تمنع ولادة أول دستور لبناني، في 23 أيار مايو 1926. وبسبب وجود ثغرات تتعلق بالمواد الخاصة بالسلطات، تعرضت بعض النصوص للتعديل الى أن صدر في صيغته النهائية يوم 17/10/1927. وذكرت المادة 16 ان السلطة التشريعية تتألف من هيئتين: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. وتقول المادة اياها ان مجلس الشيوخ يتألف من ستة عشر عضواً يعين رئيس الحكومة سبعة منهم بعد استطلاع رأي الوزراء، بينما ينتخب الباقون لمدة ست سنوات. وكما أجازت الحكومة اللبنانية لنفسها حق تعيين بعض النواب سنة 1990 كذلك أجاز دستور 1927 لرئيس الجمهورية حق تعيين بعض النواب، شرط ان يكون عدد النواب المعينين موازياً لعدد النواب المنتخبين. أول تعديل لدستور 1926 جرى في مطلع تشرين الثاني نوفمبر 1943. وكانت الحكومة قد قدمت الى المجلس النيابي مشروع تعديل للمواد التي تتعارض مع الاستقلال. وصدرت التعديلات في كانون الثاني يناير 1947 ملغية كل المواد المتعلقة بتعيين النواب، على إعتبار ان التعيين يتعارض مع أبسط قواعد التمثيل الشعبي الصحيح. لذلك أُلغيت المادة السابقة المتعلقة بالسلطة التشريعية، وحلت محلها مادة تقول: "يتألف مجلس النواب من نواب منتخبين يكون عددهم وكيفية انتخابهم وفقاً لقوانين الانتخاب المرعية الاجراء". وبدلاً من ان تراعي هذه القوانين أهداف الاصلاحات الاجتماعية، وتعطي المواطنين الفرصة للتعبير عن رغابتهم السياسية، شرع كل رئيس جمهورية في "تفصيل" القوانين بما يتناسب مع مقاس حكمه وعهده. وكان من نتيجة ذلك ان ضعف التمثيل الوطني وقوي التمثيل الطائفي والفئوي والمناطقي، مع كل ما يستتبع ذلك من توسيع نفوذ الزعامات المحلية. وفي ضوء هذا الواقع برزت خلال تلك المرحلة قوى مؤيدة لرئيس الجمهورية أعاقت عملية الانصهار الوطني ومنعت بناء الدولة العصرية. ويستدل من مراجعة الحقبة الممتدة من عام 1943 حتى عام 1960، ان الولاء الانتخابي انحصر في اثنتي عشرة شخصية سياسية لُعبت ب"الثوابت" لأن النواب الآخرين كانوا يدورون في أفكلالها. وتتقدم هذه "الثوابت" عائلات معروفة مثل: آل كرامي في طرابلس بحيث ان الافندي كان يجرّ خلف قاطرته الانتخابية سبعة نواب 5 من طرابلس و2 من سير الضنية… وآل فرنجية في قضاءي زغرتا والكورة… وآل جنبلاط في الشوف… وسليمان العلي في عكار… وصبري حماده وجوزيف سكاف في البقاع والهرمل… وآل الأسعد وآل عسيران في الجنوب. ويكفي التذكير بأن صبري حماده تولى رئاسة المجلس 21 مرة… وان كامل الأسعد انتخب 6 مرات رئيساً لمجلس النواب، لكي ندرك ان العائلات السياسية كانت تمثل التوازن الطائفي والجغرافي أكثر من تمثيلها للتيارات الحزبية. ومع ان الرئيس فؤاد شهاب حاول في مطلع ولايته ان يحلّ الدولة من الروابط التقليدية ويحررها من سيطرة العائلات ومركزيتها الطاغية… إلا انه عاد ليتعاون معها في مجلس أل 99 ويوليها الاهتمام الكافي. وكان في طليعة أصحاب الخطوة لدى الشهابية: رشيد كرامي، وصبري حماده، وكمال جنبلاط، ورينيه معوض وبيار الجميل. وفي عهده قفزت "الكتائب" لأول مرة الى الصفوف المتقدمة في الدورات الانتخابية، وذلك بفضل المناخ السياسي الذي وفره لها. وثيقة الطائف الصادرة عام 1989 إعتمدت قانون انتخاب جديد على أساس المحافظة. وقيل في تبرير الختيار أنها تراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين وتؤمن صحة التمثيل السياسي لشتى الفئات بعد اعادة النظر في التقسيم الاداري ضمن إطار وحدة الأرض والشعب والمؤسسات". وكما تجاوزت الدولة، لأسباب معروفة، غالبية مبادئ وثيقة الطائف، كذلك تجاوزت الشرط المسبق المتعلق بالتنظيم الاداري. والسبب ان الحكومات المتعاقبة فشلت في ايجاد آلية قانونية تؤمن الاستقرار للموظفين وتمنعهم من سوء استخدام السلطة. يعترف الذين شاركوا في كتابة بنود اتفاق الطائف، ان الزعماء الأقطاب هم الذين طالبوا باعتماد المحافظة، مبررين ذلك بالقول ان إتساع الرقعة الانتخابية يؤمن الانصهار الوطني. ومن المؤكد ان هذه الخطوة الضرورية لا تحقق الهدف المطلوب إلا في ظل انتخابات تجري على أساس مبادئ حزبية، لا على أساس صور الزعماء المعلقة على جدران الشوارع وأعمدة الكهرباء. وكان من الطبيعي ان يعطي هذا الطرح المريب عكس المطلوب، بدليل ان الاندماج لم يحصل إلا بين زعماء القوائم ونواب التبعية. أي النواب الذين ينالون رضا الباب العالي بحيث تشملهم رعاية الزعيم المحظوظ، فيضمهم الى لائحته بأثمان باهظة، سياسية ومادية. وفي زحمة طغيان الغالبية المذهبية لا بد وان تشعر الأقليات بالاجحاف لأنها هُمشت وجُردت من حق المشاركة. والملاحظ من نتائج التجربة الانتخابية الماضية في 1996 ان "المحافظة" أحيت تيار "ألثوابت"، وملأت مجلس النواب بممثلين تابعين لإرادتهم لا لإرادة الناخبين. ويستدل من مواقف الزعماء السياسيين والروحيين ان معايير قانون الانتخاب لا تعكس الانسجام بين غالبية القوى. رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص يعارض في المبدأ تقسيم بيروت الى دائرتين أو ثلاث، على اعتبار انه انتخب مرتين عن بيروت الموحدة. ولكن هذه المعارضة لن تقوده الى المقاطعة، ولو ان مصلحته السياسية تقضي بألا يكون نائباً عن ثلث بيروت أو نصفها. بينما يطالب العميد ريمون أده بالتمديد لمجلس النواب لأن الانتخابات في رأيه، لن تكون حرة في ظل الاحتلال الاسرائيلي والوجود السوري. وفي حال أصرّت الدولة على إجراء الانتخاب، إقترح العميد الدائرة الفردية لكي يأتي التمثيل للناخبين صحيحاً وواقعياً. ويرى البطريرك الماروني نصرالله صفير ان المشاركة تقتضي وجود حد أدنى من الثقافة الديموقراطية بحيث يتمكن المواطن من اختيار ممثليه على أساس الخدمات الوطنية لا الخدمات الشخصية: وطرح مثل هذا التصور رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الامام محمد مهدي شمس الدين، الذي طالب بقانون يراعي مصلحة المواطن العادي لا مصلحة الأشخاص والطوائف. أما وليد جنبلاط فقد بدأ حملته ضد قانون الانتخاب لأن المحافظة في عرفه تؤدي الى ذوبان الدروز في مجتمعات طائفية أكبر. وقال ان شعار الانصهار الوطني كذبة لأن الاقطاع العددي والمالي يتحكم بالنتائج. وهو يفضل تقسيم الجبل الى دائرتين، في وقت طالبت القيادات المسيحية بتقسيم الجبل الى أربع دوائر. ويعتقد الرئيس حسين الحسيني ان الانتخابات المرتقبة يجب ان تتم على أساس قانون خال من الاستثناءات لكي ينتج مجلساً نيابياً يتمكن من تشكيل حكومة وفاق وطني تؤمن التساوي في مؤسسات الدولة. أما النائب بطرس حرب فقد أعرب عن خشيته من فشل المحافظة في تلبية صحة التمثيل الشعبي، لذلك طالب باعتماد النظام النسبي في الدائرة الكبيرة. واعتبر الرئيس رفيق الحريري ان تقسيم العاصمة لن يكون مصدر خلاف بينه وبين رئيس الجمهورية، علمّاً بأنه مثل الدكتور الحص وتمّام سلام، يفضل خوض الانتخابات عن بيروت الواحدة الموحدة. وكان الوزير سليمان فرنجيه مصراً على جمع زغرتا وطرابلس في دائرة واحدة لأن مجرد فصلهما يعني تشجيع الانقسام الطائفي. وفي تصوره ان ضم قضاءي الكورة والبترون الى طرابلس وزغرتا من شأنه ان يعزز الانصهار الوطني ويساعد على توحيد المجتمع والبلاد. وحول هذا الموضوع أعلن النائب عصام فارس بأنه لا يجوز تفصيل سترة على قياس المرشحين، بل على قياس الوطن، مُشدداً على أهمية إصدار البطاقة الانتخابية ومكننة عملية الاقتراع. وانتقد النائب نسيب لحود انتخابات 1992 و1996 للتمثيل من مواصفات كفالة التعددية السياسية، واحتكارهما لتتمثيل الشعبي بطريقة استفزازية مشوهة. وتخوف من ان تقود النتائج المعلبة سلفاً الى ظهور دولة بدون معارضة تمثل هي دور الحكومة والمعارضة معاً. يبقى السؤال الأهم: هل فعلاً يساعد القانون الجديد على توحيد البلاد أم على شرذمة العباد؟ وصف الوزير السابق فؤاد بطرس هذا المشروع بأنه "إعتباطي وكيفي هدفه مساندة بعض التيارات والشخصيات، ومحاربة البعض الآخر". أما الوزير السابق ادمون رزق فقد رأى فيه مخططاً لاسقاط لبنان نهائياً من حال الديموقراطية والحاقه بالديموقراطيات الشعبية. ومع ان تعليقات بطرس ورزق صدرت إثر زيارتهما للبطريرك صفير، إلا ان بكركي ظلت متحفظة عن إعلان موقفها النهائي، وان كانت عدة صحف قد تكهنت باحتمال نشوء أزمة في حال شعر المسيحيون المعارضون بالعزل والغبن وبتجريدهم من وسائل المشاركة الفعالة. وهذا يستدعي بالضرورة تأليف حكومة غير منحازة وغير متورطة في المعارك الانتخابية، بحيث يتساوى أداؤها في طريقة التعاطي مع جميع المرشحين والقوى السياسية. ويبدو ان جواً من التشكيك قد رافق هذا المشروع الذي يعتقد المراقبون المحايدون انه ينطوي على مفاجآت أقلها اسقاط خمسة نواب تعتقد الحكومة أنهم غير منسجمين مع خطها الداخلي، علماً بأنهم منسجمون مع خط سورية. أي مع خط الحزب الوحيد الذي تنضوي كل الاحزاب والتيارات والشخصيات والزعامات تحت لوائه. ويرى البطريرك صغير ان الذين حرموا المجلس في الماضي من نواب وطنيين شعبيين، خصوصاً عندما لعبوا دور الخصم والحكم، يمكن ان يجعلوا من الشارع اللبناني بديلاً من مجلس النواب. * كاتب وصحافي لبناني