القضية التي سأعرض لها الآن ذات حساسية شديدة، لأن الحديث في مثل هذه القضايا الساخنة متهم غالباً... فكثير من الحقائق والقناعات التي نحاذر أن نفوه بها تصبح أدواء سامة وأوراماً قاتلة. وأول الخاسرين من ذكر الحقائق هم أولئك الذين يستعبدون عقول الناس. كان المهدي العباسي أول من أنشأ ديوان الزنادقة يتتبع أعلامهم ويحصي ألفاظهم ويرصد تحركاتهم، فقتل الكثيرون جراء ذلك، منهم من كان من الزنادقة والمارقين من الدين، ومنهم من كان بريئاً ألصقت به تهمة الزندقة لبواعث سياسية كاتهام المهدي شريكاً القاضي بالزندقة لموقفه المعادي للعباسيين، ومنهم من رمي بالزندقة لوشاية من عدو أو سوء فهم لعبارة. بيد أن موقف السلطة لم يكن في كل الأحوال موقفاً واحداً، فقد كان عاملا القرابة والسياسة يتدخلان أحياناً فيتغاضى صاحب الأمر عن إيقاع العقاب بمن ثبتت في حقه تهمة المروق بينما لم تكن تأخذ أندى شفقة بمن لا تربطه به صلة القرابة ووشيجة السياسة. بقي الحلاج متمتعاً بحريته إلى اليوم الذي ثبت فيه للخليفة وجود اتفاق سري بينه وبين رئيس القرامطة على الثورة المسلحة والخروج على الخلافة عندها عقدت له المحاكمة وقتل متهماً بالزندقة والإلحاد، وظل أحمد بن نصر الخزاعي حراً طليقاً يشنع على بني العباس في مجالسه ويعلن كفرهم لامتحانهم الناس على خلق القرآن حتى جمع للثورة وأعد للخروج على الواثق، فلما أدخل عليه أعرض الواثق عن كل ذلك وسأله عن اعتقاده في القرآن ورؤية المؤمنين لربهم في الجنة.... ثم ذبحه وعلق رأسه وأعلن كفره. لقد كان الوحيد الذي قتل من القراء. وكانت جواسيس المأمون ترفع إليه التقارير عن أبي مُسْهِر محدث أهل الشام فقد كان يعيب على المأمون إسرافه وعبثه بأموال الأمة فحفظها عليه المأمون حتى ابتلى الناس بخلق القرآن فاستدعى أبا مسهر واستجوبه وعرضه على السيف فأجاب، ولكن المأمون الذي كان موصوفاً بالحلم والعفو والذي كان يعفو عن بعض الزنادقة بعد تظاهرهم بالتوبة لم تطب نفسه بإطلاق سراح أبي مسهر بل أبقاه في السجن حتى توفي بعد أشهر قلائل في سجنه وشاع أنه مات مسموماً. كتب الخليفة العباسي بقتل الإمام محمد بن حِبَّان البُستي من أعلم أهل عصره بالحديث، وحكم عليه بالزندقة لقوله "النبوة العلم والعمل" فنُسب إليه إنكار النبوة. قال أبو إسماعيل الأنصاري سألت يحيى بن عمار الواعظ عن ابن حبان فقال نحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين. قدم علينا فأنكر أن يكون لله حد فأخرجناه. لقد كان بالإمكان فهم ما نسبوه إلى إبن حبان على وجه صحيح كما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء وهو أن أعظم صفات النبوة العلم بالله الكامل والعمل الصالح كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له. ومن المفارقات أن ابن عمار وصف ابن حبان بضعف الدين لأنه لم يثبت لله الحد ومسألة الحد كمسألة الجهة والجسم والجوهر من الأوصاف التي لم يرد إطلاق نفيها ولا إثباتها في القرآن وصحيح السنة. وقد كان الأولى بابن عمار السكوت عنها أسوة بكبار أهل الحديث الذين يتوقفون في إطلاق هذه الألفاظ نفياً أو إثباتاً. شارك يحيى بن عمار في إخراج ابن حبان وطرده من سجستان، وهكذا الحال حينما يسود الناس القصاص لقد ابتلي المسلمون بجهال وضلال يدعون الحقائق والأحوال وهم لم يعرفوا معرفة عموم المسلمين من النساء والرجال بغية المرتاد، ابن تيمية. وأبو إسماعيل الأنصاري الراوي لهذه القصة هو مؤلف منازل السائرين ومن عجائبه أنه كان يكفر أبا الحسن الأشعري، ويناظر المخالفين بأقوال أحمد بن حنبل رحمه الله ويحاكمهم إليها، وذكر في منازل السائرين عبارات تدل على اعتقاده بالحلول ووحدة الوجود ما هو اخطر بمرات مما انتقده على أبي الحسن وكفره عليه. ولما قال أبو الوليد الباجي الفقيه المالكي الأندلسي، بظاهر الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه وفيه ان رسول الله كتب اسمه في صلح الحديبية أنكر عليه جماعة من الفقهاء وتكلم به الخطباء في الجمع وأفتى بكفره الفقيه أبو بكر الصائغ لنسبته الكتابة إلى رسول الله ورماه بتكذيب القرآن فأطلقت عليه العامة الفتنة كما ذكر الذهبي. فألف أبو الوليد كتاباً بيّن فيه أن نسبة الكتابة إلى رسول الله مرة واحدة غير قادح في كونه أمياً. قال الباجي بظاهر حديث البخاري فكفره بعض الفقهاء، وقال بعض كبار أهل الحديث بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن لحديث يروى في ذلك، فاعتُبِر هذا أحد القولين عند أهل السنة، وبالغ عبدالوهاب الوراق فقال: من لم يقل إن الله خلق آدم على صورة الرحمن فهو جهمي. مع أن هذا الحديث مناقض لقوله تعالى ليس كمثله شيء. وربما طال التكفير أشخاصاً من الأعلام الكبار كانوا على صواب في ما ذكروه، فعدة الجهلة زندقة وتجديفاً وانتقاصاً لمقام الألوهية أو النبوة، كما وقع لأبي حامد الغزالي في كلامه على عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وإمكان وقوع الخطأ منه في ما لم يبلغه عن الله بوحي يوحى، وهي مسألة قال بها جمهور أهل العلم. سئل ابن تيمية عن رجلين تكلما في مسألة التكفير فقال أحدهما: إن من تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم بما يدل على النقص كفر ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزم أن نكفر الإمام أبا حامد الغزالي فإنه ذكر في بعض كتبه تخطئة الرسول في مسألة تأبير النخل فهل يلزم من ذلك تنقيصه أم يلزم تعزير من كفر العلماء. فأجاب الشيخ: لا يجوز تكفير عالم من علماء المسلمين إذا اجتهد في مسألة وأخطأ فيها، فإن تسليط الجهال على تكفير علماء الإسلام أعظم المنكرات وليس كل من ترك كلامه لخطئه يُكفَر أو يُفَسَّق بل ولا يُؤَثَّم. ولما توفي ابن جرير الطبري المفسر والمؤرخ حاول بعض العوام منع دفنه واتهموه بالإلحاد، وكان الوزير علي بن عيسى يقول: والله لو سئل هؤلاء عن معنى الإلحاد ما عرفوه. قد يذكر الكاتب عبارة فضفاضة قاصداً بها معنى صحيحاً ولكن عبارته لا تدل بدقة على المدلول والمعنى الصحيح الذي أراده، فتفهم عبارته على غير وجهها الصحيح وتحمل على أسوأ المحامل وذلك لذكره تلك الألفاظ الموهمة وتكون من العبارات التي لها تعلق بحق الله أو كتابه أو رسوله، إضافة إلى أن الكاتب قد يكون غير خبير بدلالة الألفاظ التي أطلقها، وهنا تلعب الأهواء والانتماءات والخصومات دوراً كبيراً، وغالباً ما يكون للحزبية والمذهبية والعصبية الفكرية أثر كبير في تلطيف الأمر ودفنه في مهده وتجاوزه أو في إذكاء الفتنة وإثارة الكامن واستعادة الماضي، فقد يتقادم الزمن على عبارة زلت وكلمة فلتت ولكن يحتفظ بها الخصوم ليومها الأسود يشهرون بمن قالها يؤلبون ضده ويرجعون إلى كتبه لينقبوا بالمجهر عن عبارة موهمة وجملة مشكلة. أصدر قاضي غرناطة حكماً بكفر لسان الدين بن الخطيب الأديب الأندلسي وسجل عليه بالزندقة لكلمات وجدت له في بعض تآليفه وأفتى بعض الفقهاء بقتله فدخل العامة عليه في السجن وخنقوه ثم أخرجوه فأحرقوه. وقد يكون للكاتب والمفكر خصوم، ويكون ثم ما يمنعهم من إيذائه والتعرض له إما لمنزلته عند المجتمع والسلطة وقبوله عند أهل العلم والفكر إضافة إلى تقواه وصلاحه ونفعه للناس وقيامه بقضايا الأمة ولكنه يعامل مخالفيه بعنف وشدة يجهل كبارهم ويسحق متعالميهم ويقذفهم بقاسي الخطاب، حتى تحين الساعة وتسنح الفرصة، فتقتنص عباراته وتحصى ألفاظه، وينتقل الأمر من الخلاف والجدل إلى الأحقاد وتسوية الحسابات، وهذا ما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول فيه تليمذه الذهبي "أطلق عبارات أحجم عنها غيره حتى قام عليه خلق من العلماء بمصر والشام فبدعوه وناظروه". وعمد خصومه إلى فتوى كان أفتاها عن السفر إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد مضى عليها سبع عشرة سنة فأثاروا عليه السلطة واشتدّ مخالفوه في أمره فكفره بعضهم وعده آخرون زنديقاً وطالبوا بقتله. أفتى ابن تيمية بكفر جماعة ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين لعباراتٍ وجدها لهم، ولكن أبا العباس لم يكن بمأمن فقد أفتى بكفره بعض معاصريه وغيرهم ممن جاء بعدهم ونسبوا إليه من كتبه القول بقدم العالم وتسلسل حوادث لا أول لها وشتم علي رضي الله عنه. حدث هذا قديماً ونراه اليوم على الصحف والمطبوعات بين الإسلاميين ومخالفيهم وبين الإسلاميين أنفسهم... مسلسل تكفير لا ينتهي. وإذا كان الأنصاري لقي من ابن القيم في مدارج السالكين تعذيراً له وترقيعاً وحملاً لكلامه على أحسن المحامل وتأويل عباراته على أصح الوجوه، فإن ابن عربي لم يعدم من يتعامل مع كتبه وعباراته بالروح نفسها التي لقيها الأنصاري من ابن القيم، كالسيوطي والبوطي من المعاصرين. وأحياناً تبلغ المسألة من الإحراج حداً يُوجِب التعامل مع مثل هذه القضايا بأسلوب آخر وذلك بإنتاج وضخ أكبر كمية مستطاعة من الأقوال والتزكيات وشهادات البراءة، فالتأويل لا يغني شيئاً ، فقد ذكر عبدالله بن أحمد في كتاب السنة وابن حبان في المجروحين والخطيب في تاريخ بغداد ذكروا نقولاً كثيرة بالأسانيد الصحيحة عن بعض أئمة الحديث من السلف الذين يشكلون القاعدة الأساسية لأهل السنة والجماعة كلها تطعن في أبي حنيفة رحمه الله وتتهمه بالقول بخلق القرآن والكفر حتى روى بعضهم أن أكثر أئمة السلف قالوا بتضليله. مثل هذه النقول والشهادات أحدثت إرباكاً داخل المنظومة السلفية فطعن كبار أهل الحديث في أبي حنيفة يثير إشكالية كبرى عند الخاصة والعامة، ويبعث على الشك والحيرة، ولهذا أعرض كبار أهل العلم من المتأخرين عنه مكتفين بالثناء على أبي حنيفة، وهذا ما حدا ببعض الأحناف وغيرهم إلى اللجوء إلى إنتاج ما أمكن من النقول عن أبي حنيفة وغيره تنفي عنه ما ذكر ولكنها ظلت إشكالية تحتاج إلى حسم. وكثيراً ما يقع القارئ في سوء الفهم فينقل كلام المؤلف حسب ما فهمه. وقد يذكر أحدهم عبارة لفكرة صحيحة ومعنى هو حق في نفسه ولكن عبارته الموهمة تجلب ضجيجاً وتثير خصوماً ولو استبدلها بأخرى تدل على كبد المعنى لكف عنه ألسنة الناس وأقلام المضللين. يعثر الكاتب ويزل المفكر فلا يكون القصد تقويمه والأخذ بيده، وإعانته على النهوض بقدر ما يتشفى منه بقصم ظهره وإرهابه والقضاء عليه، وليتنا عملنا بما قاله أحد خصوم فولتير حينما قال: تجنبوا أن تؤذوا رأسه فقد يخرج من ذلك الرأس شيء صالح. * كاتب سعودي.