كنت وليلى نشترك في حمى فترة امتحانات السنة النهائية. يوم في بيتنا ويوم في بيتها. كنت أحب بيتها أكثر، أشعر بارتياح شديد، وبخصوصية دافئة، لأكتشف فيما بعد بأنها تحب بيتنا أكثر من بيتها، يعطيها شعوراً بالأمان والاطمئنان ويمنحها حيوية تفتقد اليها. نفتح الكتب ونبدأ الكلام. ثم نتذكر اننا اجتمعنا في اجازة دراسية. أنا في اجازة من العمل وهي في اجازة من كل شيء. الزوج والطفلة والطبخ. تُذكِّر احدانا الاخرى من وقت لآخر ان علينا ان نذاكر. فيدبّ فينا الحماس وتمسك كلانا كتابها بجدية مفتعلة ثم نبدأ في قراءة صامتة. كنت استمد منها العزم لأدرك بأنها تستمده مني أنا. مفارقة مضحكة. منذ ان جئت الى هذا البلد تبلد ذهني المتقد دوماً وأبداً. وتوقف نموي الفكري بصورة تدعو الى الرثاء. ليس لديّ رغبة ملحّة في الدراسة. ما قيمة الشهادة الجامعية…! بل ما معنى الحياة في زمن الاغتصاب، لا زمن الاجتهاد. ولكنه طموح الماضي الذي ينغض عيش الحاضر. فاذا ذهبنا الى الجامعة قضينا يومنا في الكافتيريا. وغالباً ما ينضم الينا، عبدالله بن عبدالله، زميلي في قسم الفلسفة. ثم سرعان ما تتسع الحلقة. اكواب الشاي الاحمر تتقافز من صينية النادل الى الطاولة يرافقها بعض اطباق الحلوى، تنشغل يدي بتقشير قطعة "الجاتوه" بواسطة سكين او شوكة لأنزع عنها الكريما. وينشغل ذهني برحلة استجمامية قصيرة. ليلى تنهرني كالعادة: - تضربي شو قليلة ذوق. اي شيء تأكلينه لازم تفليه في الاول. ثم تنهي تعليقها بابتسامة رقيقة يشع منها الحب والحنان. اتنبه الى من حولي واشرع في تناول ما تبقى من قطعة "الجاتوه" بعد تقشيرها. عبدالله بن عبدالله، يجلس قبالتنا. انا وليلى نجلس دائماً جنباً الى جنب، نهمس، نتحادث بنظرة، بابتسامة متبادلة. يجلس عبدالله رافعاً ساقاً فوق ساق، يرتدي بدلة كاكية واسعة، ويلف سيجارة نحيلة تتناسب مع نحول اصابعه ونحول جسمه اللافت للنظر. يتدلى شعره الاشعث فوق كتفيه، ليلتقي بشعر لحيته التي تتدلى فوق صدره، فتغطي بعضاً من عظامه البارزة. ما ان يبدأ الحديث حتى تتحول الجلسة الى مناظرة في الفلسفة، الوجودية، الماركسية، الافكار التحررية التي تنعش الأفئدة المأسورة، وترّن في الآذان اسماء غريبة الطنين. اما ليلى فتجلس صامتة تسند خدّها بكفّ يدها المسندة على الطاولة، وتصغي بانتباه شديد. هي قليلة الكلام عميقة التفكير، كثيراً ما كانت تعقد مقارنة صامتة بينه وبين زوجها. اعرف ذلك من خلال معرفتي الحميمة بها. استطيع ان اقرأها وتقرأني بوضوح من طول معرفتنا ببعض، ربما قست علينا الظروف وخانتنا الحظوظ ولكن القدر اكرمنا فوصل ما بيننا من انقطاع بعد مرحلة الطفولة لنلتقي مرة اخرى في مرحلة النضج. كريم، زوجها، وسيم وساذج ولكنه طيب القلب وسخي جداً. مستعد ان يضحي بكل ما يملك لاسعادها. اما عبدالله فهو محنّك، جذّاب الكلمة. حديثه يعجبها كثيراً. وكلماته تسحرها. فهي امرأة واسعة الأفق، شديدة التأمل، تحتاج الى من يخاطب عقلها. لذلك وجدت في صحبة عبدالله تعويضاً عما ينقصها. كثيراً ما كنت انا وهي نتفاهم بالنظرات واحياناً بالعبارات القصيرة. وعندما تعلّق على حديثه هامسة: - يا الله شو فهمان!!! اشعر كأنها كانت معه في رحلة روحية بعيدة، ثم عادت لتتواصل معي من جديد. تضم كوب الشاي بكفّها وتشربه رشفة رشفة. ثم تطلق الكوب من كفها وتضعه على الطاولة. فاذا جاء النادل يجمع الاكواب امسكت بكوبها من جديد. اما اذا سبقها النادل اليه مدّت يدها وسحبت الكوب اليها معتذرة منه بابتسامة. أمتع قطرات الشاي بالنسبة اليها كانت في القاع. يأتي زوجها - مع غروب الشمس - الى الجامعة لينقلها الى البيت. فما ان ترى السيارة من بعيد حتى يعود اليها الحاضر فتبتسم له. هكذا هي… متصالحة ومتسامحة. كنت استلقي في بيتها على المقعد المريح واغمض عيني في استرخاءة لذيذة. اعيد ترتيب العالم برؤيتي. عالمي الخاص فقط. صوت شادية يصل اليّ منساباً من النافذة فيزيدني استرخاء… ولكن ماذا عن الفلسفة!! أفيق. فجأة.. فيعود اليّ الواقع بثقله فأنهض الى النافذة لاستنشاق الهواء. احد العمال اغتنم فرصة القيلولة، وخلو الساحة من المارة، فاستلقى فوق الرمال، وعرض سوءته مقابل نافذتنا. اشتطت غضباً وغيظاً، وراودتني افكار شريرة لمعاقبة هذا الابله، كأن أدلق فوقه برميل ماء ساخن اسبب له عاهة تذكّره بفعلته مدى الحياة. ولكني صفقت دفتي النافذة وعدت الى مقعدي. ليلى في الغرفة الاخرى، لا بد انها سبقتني، هي ذكية جداً وشديدة التأمل. من حين لآخر انادي عليها لأتأكد اننا معاً وان كنا في غرفتين منفصلتين. نجتمع على الشاي والطعام، ونحكي كثيراً. نحكي عن الطفولة والحماس، عن الثورة واحلام العودة. اعرف حكاياتها وتعرف حكاياتي. ولكن يحلو لنا ان نعيد بعضها على مسامعنا من جديد. نستحضر المشاعر الاولى، نضحك تارة ونبكي تارة اخرى. اما ليلى فكانت مسيرة حياتها ذات خصوصية بالغة. والدها اعتقل بسبب نشاطه السياسي ولأسباب غامضة انفصلت امها عن العائلة. وانتقلت ليلى مع اخيها للعيش في بيت جدها الكبير. كنت رفيقتها الحميمة، دائماً معها، اخفّف عنها حزنها بفقدان الاب والام، واعوضها عن غياب اخيها الذي سافر الى الخارج طلباً للعلم. وكنت كاتمة اسرارها، تسري لي بشجونها، فأحيطها بصدق العاطفة والمحبة. وفجأة تبدلت تعابير الوجه البريء وانقشعت عنه مسحة الألم والحزن الذي لازمته منذ الطفولة، ورقص القلب الذي طالما لحقه الظلم، وتهادى على عزف نبضاته الوجدان… انه الحب… هذا يقع فجأة وبدون استئذان. ولأول مرة تشعر ان لحياتها معنى ولوجودها قيمة. اين كانت من كل هذا الفرح والمرح الذي يحيطها من كل جانب. الورود التي كانت بالامس جماداً لا حياة فيها… راحت الآن تناغيها وتبتسم لها، وحفيف اوراقها يشدو في مسامعها قصائد رقيقة. ولكن القدر الملعون ابى الا وان يعاندها، فالاخ الذي رعاها وغمرها بالحب والحنان في طفولتها، تصدى لهذا الحب وهذا الوفاق. لم يكن ليخطر ببالها ان يكون بمثل هذه القسوة وهذا التخلّف… وهو الذي طالما رفع الشعارات الثورية، وتغنى بالقيم الانسانية، والمساواة بين البشر. الآن ظهرت شخصيته، بتركيبتها الطبقية، ومفاهيمه البالية، وراح يهدد ويتوعد. ولكي يحول دون استمرار هذه العلاقة، فرض عليها حصاراً شديداً ومنعها من الخروج من المنزل، اما بالنسبة لصديقه الحميم، نضال، الذي شاركه مقاعد الدراسة ودروب النضال… نضالهما السياسي والقومي… فقد تنكّر له، واتهمه بالخيانة والانتهازية، ودافع نضال باستماتة عن حبه وصدق عواطفه ونبل مقصده، لكن محاولاته لم تنجح. وللمرة الثانية تجد نفسها ضحية، ضحية مفاهيم لا تعني لها شيئاً، تجد نفسها سجينة وتحت المراقبة، الا ان ارادة الحياة تفتح امامهما دروب اللقاء فيلتقيان ويتفقان على ان يديرا ظهريهما لكل من يعترض حياتهما، ويقنعها نضال بالهروب من المنزل ليتزوجها على سنّة الله ورسوله، زواجاً تقرّه السماء والارض، فتوافق على ذلك ويحددا موعداً للقاء. ورغم الخوف والرعب الذي يعتريها، الا انها تصمم على مواصلة المشوار، اذ لا خيار امامها، فإما ان تدافع عن حبها وحياتها، او ان تعيش ضحية مسلوبة الارادة والشخصية. وفي اليوم المتفق عليه خرجت من بيت جدها مولية ظهرها لرحلة طويلة وحافلة بالآلام متطلعة الى غد ترى فيه المستقبل الذي تحلم به، تعيش السعادة التي حُرمت منها. لم يبق امامها سوى ساعات قليلة، ويصير الحلم حقيقة ملك يديها، ولن ينتزع منها هذا الحلم ايّ كان على وجه البسيطة. وفي المكان المحدد… وقفت وانتظرت… ساعات وساعات… ولكنه لم يأت…! وعندما أدلهم الظلام يئست من طول الانتظار وعادت الى البيت خائبة تجرّ ذيول الأسى والحيرة. لماذا لم يأت…؟ لماذا… لماذا؟ وصلها الخبر كصاعقة ذهبت بصوابها وراحت طريحة فراش المرض. لقد خرج نضال من منزله وبيده حقيبة ملابسه، ذاهباً لملاقاتها تماما كما اتفقا، ولكن يد الشؤم كان اسبق، فقد استهدفه قنّاص لحظة خروجه من منزله، وامام باب بيته، ورماه بطلقة واردته قتيلاً… فجنّ جنونها وقررت الرحيل مع اول عريس يتقدم لها.