منذ صيف عام 1997 وخريفه، أي منذ انفجار الأزمة النقدية والمالية الآسيوية، ثم الروسية، والعولمة مفهوم اضطراري لا تخلو منه المقالات المتفرقة، مهما تنوعت موضوعاتها وتباينت. ولما اتفق انفجار الأزمة النقدية والمالية الآسيوية مع انتشار الحاسوب، وظهوره في الأعمال المكتبية والمصرفية اليومية في منتصف العقد العاشر الجاري، ثم مع يسر تناول "الأنترنت"، وتكاثر شركات الاتصال ومداخله، والإقبال على العنونة الألكترونية والمراسلة من طريقها - ساوى الكلام السائر، في المجالس والصحف وعلى الشاشات العربية، العولمة بالقرائن على الترابط والتفاعل بين الجهات المتباعدة، وعلى ارتفاع الحدود والحواجز بين الأماكن والثقافات. وهذا التناول أقرب الى الفهم والتفسير اللغويين منه الى وصف التظاهرات الكثيرة والداخلة في المفهوم أو في الباب. وهو يشتق المعنى من اللفظة. فالعولمة، على هذا، ليست إلا حضور العالم كله، بمواضعه وقواه وأنشطته المختلفة والمتباعدة، في كل موضع منه، قسراً، شاء أهل هذه المواضع أم أبوا. ويخمن الفهم والتفسير العربيان والسائران في العولمة قوة احتلال واجتياح غامضة، خلفت القوة الآلية والعسكرية والعلمية المعروفة على الفتوحات وعلى السيطرة والسلطان. وينسب الفهم والتفسير هذان الى العولمة حيلة ومراوغة غربيتين وأميركيتين تمكنانها من التسلل خلسة الى العقول والرغبات، ومن مراقبة الخفايا والطويات. وحَمَل فهمُ العولمة على هذا النحو بعض السياسيين العرب، من أهل المغرب وأهل المشرق، على تخوف تأثيرها "الثقافي"، والتهوين من آثارها الاقتصادية أو نسبة آثارها الاقتصادية الى السياسة وأغراضها. وتابع الكتابُ السياسيين على مخاوفهم، وعلى تأويلهم تظاهرات العولمة المرئية والمشهودة، وذلك على جاري عادة ثقافية عربية مألوفة، فانتبهوا الى شيوع الصور المتلفزة، وكانت الحرب العراقية على الكويت ثم إخراج التحالف الدولي القوات العراقية من الكويت، في 1990 - 1991، ذريعة التنبه الى هذا الشيوع، في أرجاء الأرض. وتحققوا الأثر الذي يخلفه شيوع الصور في السياسات الحكومية، لا سيما في سياسات الدول الأوروبية والأميركية. ولما كانت ترجمة هذا الأثر، في معظم الأحوال والأوقات، تدخلاً فظاً أو رفيقاً في شؤون الدول الداخلية، وفي صلاحيات سيادية كانت مصونة الى وقت قريب لا يتعدى عتبة العقد العاشر إياه، مزجت كثرة من السياسيين والكتّاب العرب العولمة بتعاظم نفوذ الدول الكبيرة والنافذة، ووحدت الأمرين. ويقضي هذا المنطق الموجز، والمختصر، بالمضي على الاختصار الى غايته، فتُقلب العولمة آلة تسلط ماحقة بيد الولاياتالمتحدة الأميركية تتوسلها هذه الى محو الهويات الثقافية والحضارية، وهي درع مقاومة الحضارات والمجتمعات التجانسَ والأمركةَ الزاحفين، على ما يحسب أصحاب الخصوصيات الحضارية، ومنهم كثرة من الكتّاب والسياسيين العرب. وعلى هذا دارت المناقشات العربية التي تناولت العولمة، وتتناولها منذ منتصف العقد أو بعده بقليل، على مقاومتها، وصد مفعولها "التذويبي"، على قول بعض الإيرانيين الخمينيين و"القوميين - الاجتماعيين" العرب. فحلت العولمة محل الإمبريالية، وكافأت الواحدة الأخرى في البداهة، وفي اختصار العدو "على الصعيد العالمي". فما كان يقال في الإمبريالية، وما أنشأ خطابها ومقالاتها والمقالات فيها، انتقل بقضه وقضيضه الى العولمة. فهي العدو الواحد والجامع، وهي الشر ومعدنه، وهي "بؤره التناقضات" والطرف الآخر الإضطراري فيها كلها. وزاد غموض "الشيء" وعمومه الإرتياب والشك اللذين أُصليا، من قبل، الإمبريالية. وبعث الغموض أهل النظر وأصحاب الأمر على الإدلاء بدلوهم في الموضوع المترامي الأطراف هذا، وهم على يقين من أنهم مصيبون مهما قالوا، وكيفما صوبوا. فما عليهم إلا تحديث بعض مصطلحهم، و"أمركته"، أي حمله على أميركا، ليماشوا، على حسبانهم، طور العدو الجديد. فوصفوا ب"ما بعد الحداثة" ما كانوا نسبوه قبل أعوام قليلة الى تشبيه الإيديولوجية والرأسمالية والبورجوازية. ولكنهم أنزلوا الثقافة منزلة الصدارة، وجعلوها البؤرة المستهدفة، ونواة المقاومة الصلبة، في آن. فسوغوا حماية النواة الثقافية والحضارية، والحال هذه، من طريق الرقابة القديمة على الكلمات والصور، ووسائط بثها وتناقلها وتداولها. ولعل الحرب الإيرانية، الثقافية والداخلية، بين غلاة الخمينية ومجدديها قرينة ظاهرة، وبعبارة ولغة محليتين، على أزمة لا يخلو مجتمع عربي منها، على الأرجح. فما يُنسب الى العولمة وشبهتها هو كل ما ليس من الداخل، أو "أصيلاً" فيه. وهو كل ما يتيح للخارج الاستقواء على الداخل، وحرفه عن وضعه، وعن استعماله على النحو الذي ترى استعماله عليه قوى الداخل "الأصيلة" والريعية. فإذا حدست قوى الداخل هذه في العولمة، أي في بعض تظاهراتها السائرة، والواقعة بمتناول الأبصار والأسماع، نازعاً الى بلورة قواسم مشتركة بين الأذواق والرغبات، وربما الأفهام والآراء والمصالح، وحدست فيها القوة على البلورة والتخليص والتداول، نسبت اليها السعيَ المتعمد في منازعة قوى الداخل، الريعية والمنكفئة، السيطرة على الأذواق والرغبات على الأفهام والآراء والمصالح جميعاً. وتحسب القوى التي تصدر سيطرتها على الإدارة والجماعات عن وظائفها الاعتقادية والشعائرية والاجتماعية، فوق صدورها عن وظيفتها السياسية والإدارية، تحسب أن كل ما يصيب سنن الفهم والرأي، أو التحسين والتقبيح، إنما يضعف سلطتها، ويستدرجها الى تقاسم سلطتها مع قوى أخرى توجب معايير فهم ورأي ومصلحة وحس مختلفة. وإنما تنتخب قوى الداخل "الأصيلة" من العولمة بعض نتاجها الظاهر والسطحي، وتقصرها عليه، لا لعلة إلا اقتصار إحساسها بالتهديد، وفهمها تالياً، على هذا النتاج وريوعه. فكل ما يصل بين داخل المجتمعات وبين خارجها، الكثير، يتصور في صورة تهديد الداخل المنكفىء على خصوصيته وأصالته، أي على ما ترغب قوى الداخل، الغالبة على ادارته وجماعاته في إبقائه على حاله من الانفصال والعزلة. والخصوصية والأصالة، على هذا، ليستا جسراً الى التعارف والاشتراك أو الى الجامع العام، على ما كان ابن المقفع يؤدي معنى "أونيفرسيل" أو يونيفرسل. وما يؤدي الى التوليد، والجامع العام إنما هو مولَّد دوماً وهو ثمرة تداول، يُظن فيه التسلط والتوحيد القسري والإزدراء المستعلي. فيُفوَّت من الجامع العام، والمتعاظم الجمع والعموم، بنيانه وجسده، إذا صحت العبارة. فيُغفل عن تحدر العولمة، الشاخصة في التداول والسلع والتبادل الى شخوصها في الصور والبث والتزامن، من ظاهرات اقتصادية أساسية مثل التنقيل، وتعود بداياته الى نيف وثلاثة عقود. فقبل خمسة وثلاثين عاماً عمدت شركات صناعية كبيرة الى نقل أجزاء من دورة انتاجها، ومن مراحل هذه الدورة، الى بلدان أخرى، بعيدة، آسيوية أو أميركية جنوبية أو أفريقية، أو قريبة، أوروبية أو أميركية شمالية وأوسترالية. ونشأت الشركات المتعددة الجنسيات عن هذا التنقيل. فحمل بعض أهل النظر الاقتصادي الأمر على تفصيل جزئي، وقصروه على تدويل رأس المال الساعي في تدارك تدني أرباحه من طريق يد عاملة رخيصة وضعيفة التأهيل. وتوقع بعض أهل النظر، جازمين، ألا يتعدى التنقيل الصناعات القديمة، مثل النسيج وصناعات البناء، أي تلك التي تستهلك يداً عاملة كثيرة العدد، فتية أو نسائية، ولا قيد اجتماعياً أو قانونياً على ساعات عملها. فلما تجاوز الأمر الدائرة الضيقة والهامشية المتوقعة، وظهر أن تدويل التداول والاستهلاك كان يمهد، على رغم نظريات التخلف و"نموّه"، وعلى رغم نظريات التراكم، لتدويل عوامل الإنتاج نفسها، ولنقلها خارج "المراكز" المزعومة، كانت عولمة الإنتاج خطت خطوات واسعة، وسندتها ثورة صناعية ثالثة. ويعود بعض انهيار الإمبراطورية الروسية السوفياتية، على خلاف الإمبراطورية الصينية، الى انكفائها، وتقديمها وظائف الحزب القائد الاعتقادية والشعائرية والاجتماعية المرتبية على وظيفته السياسية والإدارية المفترضة. ولم تحل دون الانهيار المزاعم السوفياتية في الأممية والعالمية، وفي امتلاك ناصية الاقتصاد، علماً وعملاً. ولكن هذه المزاعم لم تثبت أمام مزاعم "الشرعية التاريخية"، وريوعها التقليدية والسلفية المحافظة. فما الحال إذا اقتصر الأمر على الضرب الأخير من علل السيطرة. * كاتب لبناني.