ألقيت قبل أيام في كلية هامبشاير، تلك الجامعة الصغيرة في ولاية ماساشوسيتس، محاضرة في ذكرى الصديق الراحل اقبال أحمد، الذي مارس التدريس فيها خلال السنين ال15 الأخيرة. في نهاية المحاضرة التقيت زوجين فلسطينيين شابين لهما طفل عمره ستة أشهر، سألاني بلهجة تنم عن انزعاج بالغ: "هل عرفت أن عرفات قضى الليل في بيت ايهود باراك؟". قلت انني لم اعرف، ولم ابد الكثير من الاستغراب، لكنني فوجئت بامتعاضهما الحاد من الفكرة. وتساءلا: "الى أي حد سيذهب، شخصياً وباسم الفلسطينيين، في التنازل ارضاءً للاسرائيليين؟". كانت تلك من اللحظات التي يدرك فيها المرء مدى تماثل عرفات، في ذهن الغالبية، مع القضية الفلسطينية وعملية السلام والوضع المحزن لشعبنا. فالغالبية كما يبدو، لا تراه كما اراه، شخصاً راح ضحية ضعفه وأنانيته، بل تعتبره تجسيداً لما يواجهه شعبنا من هزيمة مهينة واستسلام. وكان هذا سبب شعور الزوجين الشابين بالألم والاشمئزاز مما يبدو من انحدارنا الى حد تخلينا فيه عن كرامتنا كشعب. لكن اذا أمكن القول ان رد فعلهما كان مبالغاً الى حد ما، فلا يمكن أبداً صرف النظر عن مشاعر كهذه، لأنها تمثل موقف الكثيرين من الفلسطينيين العاديين، الذين تفاقم عملية السلام من ادراكهم الحاد والعميق بالخسارة المتواصلة بدل ان تساعد على ابراء ذلك الجرح. لا شك ان كل متابع لعملية السلام يعرف المدى الكبير الذي جعل فيه عرفات مصير شعبه - على كل المستويات، من تفاصيل الحياة اليومية الى الشؤون العامة الكبرى - مطابقاً في شكل كامل تقريباً لمصيره. ولا شك ان تكتيكات الاسرائيليين والأميركيين وضعت هذا في الحساب، وكذلك الحكومات العربية والأوروبية، اضافة الى مؤسسات دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين يقوم دعمهما لعملية السلام، بل يرهنان الدعم تماماً، به شخصياً وبأفكاره ونفوذه، وكأنه سيدوم الى الأبد. هكذا كان الأمر مع الكثيرين من القادة اللامعين، مثل عبدالناصر وروزفلت ونهرو والقيصر اغسطس ونابوليون ولنكولن ولينين وتيتو ومانديلا. لكن الفارق بين عرفات وجميع هؤلاء هو أننا بمرور الزمن نجد صعوبة متزايدة في تحديد "العرفاتية"، من حيث أفكارها ورؤاها ومكوناتها. مع ذلك لا مجال للشك في ان قيادة عرفات تركت بصمتها الثابتة على الوضع الفلسطيني الحالي، وان اسلوبه - ذلك المزيج من الاهمال والارتجال والسرية والافتقار الى الدرس والتهيئة، كما تصفه سيرة ممتازة كتبها سعيد ابو الريش - اجتاح كل من حاول الوقوف في وجهه. لا عجب، اذن، ان شخصيات قوية حريصة على المبادىء كانت قريبة منه، مثل شفيق الحوت وحيدر عبد الشافي وحنان عشراوي وعبدالمحسن قطان وغيرهم، انفصلت عنه. اذ لم يستطع هؤلاء تخطي تلك الحدود الضميرية والمبدئية التي كان الولاء المطلق لعرفات يدفع الى تخطيها. واذا نظرنا بعناية الى من بقي مع عرفات الآن، من وزراء وممولين و"جوقة المأجورين" التي لا عمل لها سوى الائتمار بأمره والتغني بأمجاده بمناسبة ومن دون مناسبة، فلا نكاد نرى بينهم شخصيات قوية تتصف بالاستقامة والاخلاص. على رغم ذلك هناك بالطبع في وزاراته وسفاراته وكوادر حزبه الكثيرون من الطيبين الذين يرون ان عليهم الصمود والكفاح من داخل معسكر عرفات من اجل ما يعتبرونه مصلحة قضية فلسطين وشعبها. اذا استثنينا هؤلاء نجد ان عرفات هو الشخص الذي يطيعه الكل، الشخص الذي "يختار الاغنية ويدفع للعازف" على حد القول الغربي. أما البقية فليس امامها سوى الرضوخ، على رغم شكواها الدائمة وانتقادها المرير لأساليبه الرثة. انها تستمر في خدمته رغم كل شيء، وتبقى في صفوف المفاوضين والبيروقراطيين والوزراء والمخبرين ورجال الأمن الذين يشكلون حالياً جهاز عرفات. انه الوحيد في السلطة، انه الوحيد الذي يقرر ما يجب عمله. يواجه منتقدو عرفات منذ زمن طويل تهمة "شخصنة" ما يكتبون أو يقولون عنه، ما يجعل التركيز عليه يبدو ضرباً من التهجم الشخصي. لكن الواقع هو انه المسؤول تماماً عن هذا، مثلما هو مسؤول عن اكثر ما نجد في منظمة التحرير. فالكل يعرف ان ليس من قرار في أية قضية، من عملية السلام الى الإذن بتصليح سيارة او اخذ اجازة، من دون الحصول على توقيع عرفات او موافقته المباشرة. ولا أحد غيره يعرف مكان الأموال أو مصدرها أو وجهة انفاقها. وقد يعرف آخرون عن هذه القضية او تلك، لكن الصورة الكاملة، وبالتالي السيطرة عليها، لا تتوفر الا ل"الرئيس" وحده. هكذا كان اسلوبه عبر السنين، وقد أضعف من خلاله، وفي شكل متقصد كما اعتقد، فرصة شعبه في المشاركة السياسية الديموقراطية في صنع القرار، تاركاً الشعب دوماً في موقع المنتظر المتلهف، مثل المحتشدين في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، الذين ينتظرون بسلبية واستسلام كاملين تصاعد الدخان الذي يبلغهم قرار الاتفاق على تعيين البابا الجديد. هذا الافتقار الى المشاركة هو السمة الرئيسية لمرحلة عرفات، قبل اتفاق اوسلو وبعده. الفارق الوحيد هو انه كان في الماضي رمزاً للمقاومة والاستقلال، فيما يرمز حالياً الى العكس تماماً. ومن هنا فإن أي حدث، مهما كان عادياً وبسيطاً، مثلما اشيع عن قضائه ليلة في مسكن باراك، يكتسب اهمية استثنائية. لذا فمن الطبيعي أن نجد لدى الفلسطينيين الشعور المؤلم بأن هذا الرجل لا يعرف حدوداً، وانه لن يتورع عن أي شيء من اجل البقاء في تلك اللعبة الخاسرة مع اسرائيل والولايات المتحدة، اللتين لا تريدان الخير للفلسطينيين. وعندما يرد مؤيدوه بأنها اللعبة الوحيدة المتاحة فالجواب هو ان عرفات جعلها كذلك. ولنا ان نتساءل اذا كان تصريح ياسر عبدربه الأخير عن ضرورة طرح نتائج مفاوضات الوضع النهائي على الاستفتاء - وهي فكرة ممتازة يسرني القول انني اقترحتها سابقاً وأؤيدها حالياً - يعكس رغبة من عرفات في التملص من المسؤولية عن النهاية الكارثية التي تنتظر عملية السلام - النهاية التي يبدو ان لا مهرب منها له او لشعبه الشقي. ذلك ان المؤشرات كلها لا تدعو الى التفاؤل، فيما لا يفعل عرفات تجاهها غير التنازل عن كل شيء امام محدلة ايهود باراك. خذ مثلاً قضية الأسرى الفلسطينيين. فقد كان رئيس الوزراء السابق بنيامين نتانياهو وافق في "اتفاق واي" على اطلاق 750 من بين آلاف السجناء السياسيين الفلسطينيين في اسرائيل. وأطلق بالفعل 250 منهم، لكن 149 من هؤلاء كانوا من المجرمين العاديين. ووافق باراك اخيراً على اطلاق 350 سجيناً لكنه فرض مجموعة من الشروط الجديدة ان لا يكونوا من القدسالشرقية أو اسرائيل نفسها، ان لا تكون ايديهم "ملوثة بالدماء"، وهو شرط سخيف يتناسى ان يدي باراك نفسه ملوثتان بالدماء، فهو قاتل كمال ناصر وابو جهاد. ثم عاد باراك فغير العدد الى 200، ثم لم يطلق سوى 199 شخصاً، في ما بدا رسالة احتقار الى الطرف الفلسطيني، مؤداها: لن تحصلوا حتى على المئتين! كما لم يقدم باراك اي تنازل في ما يخص المستوطنات، بل دافع علناً عن توسيعها، اضافة الى تأكيده انه يريد ضم المستوطنات الأكبر الى اسرائيل. وفوق كل ذلك اعلن انه يريد التوصل الى "سلام" مع عرفات من دون تسوية من أي نوع لقضايا رئيسية مثل الحدود والمياه واللاجئين. أما جواب عرفات فكان المزيد من رسائل الود والثقة، لأن الظاهر ان الصفعات المتواترة له والمهانة العميقة لشعبه تزيده ميلاً الى التنازل. الاهانة التي لا اهانة بعدها هي الفكرة القائلة ان اسرائيل قد تعترف في النهاية بدولة فلسطينية يقودها عرفات وتحدد لها طبيعتها نعم! تحدد لها طبيعتها. ولا شك ان عثور اسرائيل، التي كان من بين أهدافها الغاء الوجود الفلسطيني، على مفاوض فلسطيني مستعد للتواطؤ ضد حق شعبه في تقرير المصير، يعطيها شعوراً بالانتصار الناجز والمشروعية الكاملة. فقد يقول باراك احياناً: نعترف اننا لم نكن دوماً في غاية اللطف مع الفلسطينيين، لكن انظروا، ها نحن نعطيهم دولة! اذن لماذا يشكون، خصوصاً بعدما ألغت محكمتنا العليا قرارها السماح بتعذيب الفلسطينيين؟ لكنها ألغته بعد 12 سنة من موافقتها على تلك الممارسات، وبعدما كانت وجهت ما يشبه الأمر الى الكنيست بإصدار قانون يسمح بالتعذيب ويحصره بالفلسطينيين وحدهم من دون غيرهم. يالهم من جاحدين! ألم نحول الصحراء الى جنة خضراء ونقم الديموقراطية؟ انه موقف يوافقنا عليه حتى عرفات. هذه، اذن، نهاية السياسة التي تقوم على الأشخاص: أن يخوّل الى شخص نفسه سلطة مطلقة، الى درجة تسمح لاعدائه باستعمالها وسيلة لتسريع استسلام شعبه، وأن يلعب هذا الدور من دون همسة احتجاج او شعور بالكرامة المهدورة، من دون اي شيء سوى الانحناء والاعتراف بالجميل الى قائد جيش الاحتلال وحامي المستوطنين، المستمر حتى الآن في رفض حق العودة لأربعة ملايين لاجيء فلسطيني. وماذا تسلم عرفات بالمقابل؟ بذلة جنرال، ودولة موقتة تحمل اسم فلسطين، واتفاقاً مرحلياً هو في الوقت نفسه نهائي، ودعوة مفتوحة لزيارة بيل كلينتون في البيت الأبيض كان في إمكان روجيه تمرز توفيرها له بسعر أخفض بكثير، واخيراً تعاسة شعبه، الذي سيلعن يوم سمح له بالتمادي الى هذا الحد. مع ذلك فإن لنا بعض الحق في مطالبته بأن يوضح الى اين ستأخذنا مفاوضاته، واين سيضمن لنا ان نستقر في النهاية، نحن أبناء الشتات. كل ما يستطيعه في معرض الجواب الاشارة الى لقاءاته المستمرة في امكنة مثل ستوكهولم وبكين وفيينا والقاهرة، اضافة الى حفنة من الصيغ الفارغة والكليشيهات البالية. اخيراً، ليس لنا سوى القول ان السياسات الشخصية التي يمارسها عرفات أوصلتنا الى حيث فشل البريطانيون والأميركيون والاسرائيليون في ايصالنا طوال المئة السنة الماضية. والمفجع ان ليس امامنا من نلوم سوى انفسنا. متى سنستيقظ لكي نقول تلك ال"لا" التي يبدو انه الآن يعجز تماماً، أو يرفض، قولها؟ لقد حان لعرفات، بسبب التطابق بين شخصه والوضع الفلسطيني، ان يتنحى، ان يستقيل بكرامة. اذ ليس هناك الكثير من الشك في ان وضعه سيضطره الى التوقيع على كل ما يطلبه الاسرائيليون والأميركيون. انه لم يعد قادراً على وقف هذا النهج، بل لا يستطيع حتى أن يدرك معنى ما فعله. لقد دخل مرحلة الشيخوخة والضعف، وهناك كل الشك بمؤهلاته لقيادة الكفاح الفلسطيني. وهو على قدر من النواقص والانفضاح لا يستطيع معه سوى التفرج على استكمال اهداف الخطة الاسرائيلية الرامية الى ازالتنا كقوة وطنية حقيقية. لكن هذا لن يدوم، حتى لو وقعوا على كل وثائق ذلك السلام. وربما لم يفت الأوان بعد لنصح عرفات وبطانته بالحصول على مساعدة شخصيات مثل سلمان أبو ستة وأنيس صائغ وشفيق الحوت، وكثيرين غيرهم ممن لا شك في مقدرتهم العلمية والتزامهم لكنهم خارج مظلة السلطة الفلسطينية. ذلك ان التفاوض على حق العودة وما خسره اللاجئون والقدس والمياه والحدود النهائية مهمة لا تقبل الارتجال او سلق القرار. ولو كنت مكان عرفات لألححت في طلب المشورة بشأن الخطوة المطلوبة التالية من كل قانوني فلسطيني يتمتع بالكفاءة والنزاهة. ان القضايا المطروحة هذه أكبر، والمعرفة المهنية المتعلقة بها اكثر اختصاصاً، والمعنى لما نواجه كشعب أكثثر تعقيداً، من ان تترك لمساعدين لا تتجاوز مؤهلاتهم ابتسامات الخنوع والولاء الأعمى لعرفات. عندما يتم كل هذا يمكن لعرفات ان يتنحى بكرامة، تاركاً مهمة تصحيح هذه الاخطاء المتراكمة الى قيادة شابة اكثر كفاءة. لقد دفعنا كشعب ثمناً فادحاً لافتقارنا الى المشاركة الديموقراطية وقبولنا بهذه السياسة المرتكزة على شخص. لكنه كان خطأنا بمقدار ما كان خطأه. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.