بعد أكثر من نصف قرن على صدورها تحتل رواية "الغريب" للكاتب ألبير كامو المرتبة الأولى في فرنسا ولكن ليس من كونها الرواية الأكثر رواجاً فحسب وإنما من كونها رواية القرن العشرين. وأياً كانت طبيعة الإحصاء الذي أجري أخيراً عشية انصرام القرن العشرين فإن الرواية هذه هي بحقّ رواية القرن. لكنها طبعاً لن تنطوي في انطوائه بل ستظلّ حاضرة وحاضرة بشدّة فهي رواية الماضي والمستقبل على السواء. ولم تكن مصادفة أن تصدر الرواية قبل أشهر من كتاب ألبير كامو الشهير "أسطورة سيزيف" في العام 1942 فهي بدت أقرب الى "التأليف" أو التجسيد السرديّ الحيّ والجميل للتأمّل الفلسفي العبثي الذي شرع فيه كامو منطلقاً من معطيات أسطورة سيزيف الإغريقية. لكنّ العبث في الرواية لن يتجلّى إلا في توالي فصول الحياة العادية جداً التي عاشها "مرسو" البطل السلبيّ وفي تتالي المصادفات التي جعلت منه قاتلاً بريئاً كل البراءة. ويتجلّى العبث خصوصاً في تلك "المزايدة" العبثية التي تبنّاها المجتمع و"الآلة" القضائية وتمثلت في "عقوبة الإعدام" أو ما يسمّيه كامو "الموت السابق أوانه"، تلك العقوبة التي حلّت بالبطل بعد محاكمته الطريفة جداً. قد يشعر مَن يكتب عن رواية "الغريب" أنه يكرّر ما قيل فيها من آراء وما كتب ويُكتب عنها منذ صدورها. وهي كانت حينذاك بمثابة الحدث الأدبي الكبير وقد مهّدت الطريق أمام صاحبها للفوز بجائزة نوبل لاحقاً. ونقلت الرواية الى معظم اللغات الحيّة حاملة بين صفحاتها أجواء الجزائر كما يرويها هذا الفرنسي - الجزائري الذي جسّد ملامح البطل العبثيّ الأول. إلا أن الرواية لم تفقد أي قبس من بريقها ولم تُمسِ رواية مرحلة أو موجة بل هي تجاوزت رهان الزمن لتبقى في طليعة الأدب المعاصر وتصبح رواية "اللازمن" أو رواية "الأزمنة" بامتياز. وما زال "مرسو" البطل - الضحية يمارس سحره على القارئ أياً كان، فرنسياً أم غير فرنسي، طالباً أم مثقفاً. وما برحت الرواية قادرة على إحداث حال من "الإضطراب" في وجدان قارئها عبر "غرابة" ذلك "الغريب" الذي ليس إلا موظفاً عادياً ومن خلال فرادة أسلوبها الروائي وبساطة التقنية السردية التي اعتمدها كامو. ما برحت الرواية أيضاً تحتفظ بأسرارها الخاصة التي جعلت منها رواية نخبوية وشعبية في آن، رواية العبث والحياة معاً، رواية البؤس والسعادة داخل البؤس. لم يُقدم "مرسو" في الرواية على قتل "العربي" الذي شهر عليه خنجره إلا بعدما وجد نفسه مدفوعاً الى القتل عبثاً ورغماً عنه. فهو كان تحاشى الحادثة التي وقعت على الشاطئ وقصد نبع الماء بحثاً عن بعض البرودة التي تردّ عنه الحر الشديد. لكنّ "العربي" لحق به منتقماً كما لو أن الموت قدره، بل قدرهما معاً. وحين التمع النصل أمام عينيه تحت نار الشمس الحارقة أطلق رصاصاته الأربع مردياً غريمه "العربي". وكانت تلك الطلقات أشبه ب"طرقات أربع صغيرة طرقتها على باب البؤس" كما يقول البطل الراوي. وأمام القاضي في المحكمة أصر "مرسو" صادقاً على أنه لم يقتل إلا تحت وطأة الشمس والتماع النصل الذي أعمى عينيه. ولم يصدّق أحد ذريعته تلك. وكيف تُصدّق مثل هذه الذريعة العبثية التي جسّدت ما يسمّى ب"القتل المجاني" الذي كان نيتشه سبّاقاً في "التبشير" به؟ أما أجمل ما قيل عن كامو كروائي انطلاقاً من روايته الفريدة هذه هو كونه "كافكا بحسب همنغواي". لكنّ كامو لن يستغرق كثيراً في سوداويّة كافكا فهو ابن الجزائر أولاً وأخيراً، ابن "أرض الشمس" والمتوسط. ولن يستسلم كذلك الى "هموم" العالم على غرار الروائيين الأميركيين فهو مفكّر في حالة من الدهشة الشعرية. وقد أصاب جداً، رولان بارت حين وصف رواية "الغريب" ب"الرواية الشمسية" التي تغني حب العالم. غريبة فعلاً رواية ألبير كامو هذه في بساطتها وعبثيتها الأليفة وفي طابعها اليومي. وغريب بطلها، هذا الموظف الضجران واللامبالي و"الغريب" عن العالم وعن نفسه، هذا البطل الصموت، الغامض الذي لا يملك من يقين سوى يقين الحياة الخالية من أي غاية، ولا يعرف من سعادة سوى سعادة العيش يوماً تلو يوم. لكنّه حين يقترب من الموت بعد الحكم الذي نزل به ينفجر رغبة في الحياة وخوفاً من الموت صارخاً غضبه ومعلناً تمرّده على "الحالة" البشرية وعلى المجتمع والقوانين. لا تحتاج رواية "الغريب" أن يُكتب عنها بعد كلّ ما كتب. ولا يحتاج "مرسو" أن يخضع للقراءة النقدية بعد ما شرحته مباضع النقاد. لكنّ عودة الرواية الى قرائها الذين لم ينسوها أصلاً واحتلالها المرتبة الأولى في فرنسا كرواية قرن هو قيد الانصرام، يشعلان في القارئ رغبة ما أو فضولاً في الكلام عنها. فالقارئ الذي شغف بها وبجوّها العبثي وبطلها "المغترب" يشعر في قرارته أن ثمة كلاماً لم يُقل عنها بعد. وعلى عكس ما فعل "مرسو" حين رفض أن يلقي نظرة وداع على جثمان أمه الميتة في المأوى يعود القارئ الى الرواية دوماً لا ليلقي تحيّة وداع على كامو و"مرسو" وإنّما ليذكّرهما أنّهما ما زالا حيين وأن رواية "الغريب" ما برحت رواية الروايات، روايات "الآحاد" الطويلة التي كان "مرسو" يكرهها، رواية الصيف والشتاء، رواية الشمس والمطر.