حين يقول أحمد زويل لمحمد عارف وقاسم حمادي "الحياة"، في 13 تشرين الاول / أكتوبر إن تمييزه بجائزة نوبل للكيمياء هو "يوم عظيم لمصر"، فربما ينبغي حمل القول، الوطني والأهلي، على محمل التواضع لل"أُم"، مصر "أم الدنيا" وأم المصريين أبنائها، من وجه، وعلى الإنفعال الصباحي، من وجه آخر. فصحافيا "الحياة" فاجآه بمكالمة هاتفية "وهو يستحم ... في الساعة الخامسة والنصف صباح 12 تشرين الأول بتوقيت باسادينا في الولاياتالمتحدة..."، على قولهما. وقد يكون الدليل على هذا الزعم تتمة كلام النوبلي الجديد. فهو ما أن ينسب إنجازه إلى مصر حتى يعود إلى تناول الحوادث تناولاً سببياً أقرب إلى الوقائع. فالجائزة "حصيلة عمل عشرين سنة متواصلة" قضاها الكيميائي الشاب، منذ ثلاثين سنة حصل على الماجستير في 1969، وترك إلى الولاياتالمتحدة، بين بنسلفانيا وجامعتها، حيث أعد الدكتوراه، وحازها في 1974، وهو في الثامنة والعشرين ولد في 1946. فما أفضى به إلى استوكهولم، و"حشره" في الواحد وتسعين مجازاً من مجازي الكيمياء، إنما هو "عمل متواصل" نهض به أحمد زويل، "المصري - الأميركي"، صاحب "هوية علامة الوصل"، على ما يقول الأميركيون قرينة على امتزاج أقوام المهاجرين، الكثيري المصادر، في مجتمع واحد وأمة دستورية جامعة. فما أجيز أولاً هو العمل، أو "ما قد فعل"، "الفتى" أحمد زويل، منذ كان فتى يافعاً أسلمته جامعة الاسكندرية، وهو في الثالثة والعشرين، إلى المهجر، فالوطن الأميركي. والعشرون عاماً التي صرفها بمعهد كاليفورنيا التكنولوجي، باحثاً ومدرساً، كان في أثنائها جزءاً، ولو بمنزلة القلب، من "مجموعة ... تعمل معه"، على ما أسرع زويل إلى القول والتنويه. فالجائزة تكافىء عمل باحث فذّ، أي فريد ومجلٍ، يبحث ومعه فريق باحثين متكاتفين ومتنافسين. فهو ليس وحيداً، بل يتولى عملاً، رائداً، يندرج في جملة أعمال مقسمة على فريق البحث. والفريق، بدوره، ينكب مفتشاً وباحثاً في موضع علمي وتقني دقيق التعريف والتعيين. وعلى هذا أعرب بعض الباحثين، مثل الفرنسي جان - لوي مارتان أحد الباحثين في مختبر أوروبي كبير، عن سبق توقعه ذهاب الجائزة إلى زويل، وعن بعض الدهشة لإهمال فِرق بحث أخرى، في الموضوع نفسه، مثل فريق مختبرات "بِلْ"، وفريق جامعة بيركلي بكاليفورنيا. ففريق زويل ليس وحيداً كذلك، بل هو يشارك فرق بحث أخرى معالجة المسألة نفسها - وهي، في هذا المعرض، تعقُّب الحوادث الناجمة عن الخليط الكيميائي منذ ابتداء التفاعل النووي والذري إلى استقرار نتائجه الآنية. فينشأ عن هذا نَسَب عملي وعلمي ضعيف التعلق بمصر، وب"كون" المجاز بنوبل في الكيمياء "عربياً"، على ما قال المجاز في نفسه معقباً على "أهمية الجائزة"، وبعيدٍ من إقامة أحمد زويل على "حمله في داخله كل القيم والتقاليد التي نشأ عليها في دسوق"، على ما ذهبت إليه شقيقته، السيدة سهام زويل، الأخصائية الإجتماعية في دسوق "المستقبل" اللبنانية، في 16 تشرين الأول، من رامي ابراهيم. وعلى حين أطنبت الصحف العربية، وخصوصاً المصرية، في حمل الكيميائي - وهو الأميركي العمل، والفريق، والإطار، والسياق، والآلات، والإرث العلمي، والجمهور، والتثمير - على "أصله وفصله" الأهليين والمحليين، سكت معظمها، ما خلا إشارات سريعة، عن أهله وعشيره، علماً وبحثاً وعملاً. فلا يبعد أن يجعل المديح العربي من ولادة أحمد زويل لوالده "عم حسن زويل"، سائق سيارة الإسعاف، بدسوق، المعروفة بضريح الولي سيدي ابراهيم الدسوقي وبمسجد الضريح الذي "يسمع دائماً أحمد صوت آذانه في أذنه طوال فترة وجوده في أميركا" على قول شقيقة أحمد الى مراسل "المستقبل" - لا يبعد أن يجعل المديح الأهلي والوطني من مثل هذه الحوادث "السبب" في كشوف العالم المصري - الأميركي. وإنما يردد هذا المديح، على بعض الحياء وعلى كثير من الفخر والإغتباط، لازمة الأصالة مصدراً "للعلم" و"آفاقه المذهلة"، وباعثاً عليه. وهذا ضرب من الرُّقْية. ففي معرض مفاخرة "الغرب" بالبروز في مضمار تنسبه الحكاية الشعبية، ومعها النخب السياسية والثقافية، إلى "العدو"، وتخصه به، تعود الحكاية نفسها، والنخب المزعومة في ركبها، فتستخرج من الأصالة النبوغَ العلمي الذي تزعم أن "العدو" ينكره عليها على الأصالة. فليست النفس الأصيلة، على هذا، إلا "الغير الغربي والأوروبي مقلوباً"، على قول جاك بيرك شارحاً سياسات الشعوب المستعمرة غداة استقلالها وتحررها في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين. ولكنها، في آن واحد، "غيرُ مقالاتِ هذا الغير" الغربي والأوروبي، وعلى ما تتوهمه النفس الأصيلة من الدونية والوضاعة، على زعم أحد أصحابنا. والحق أن مثل هذه الرُّقى، ولو تزيت بزي المقالات العقلانية وملأت الصحف والكتب والرسائل باحتجاجها، لما كانت تحمل على محمل الجد لولا قيامها حاجزاً دون تعقب الحوادث المعاصرة، ودون عقل العالم الذي يأتلف منها ويجتمع. وذلك أن رد الحوادث، العلمية والتقنية، والإبتكارات والصنائع، إلى هويات سياسية وحضارية قائمة في نفسها، وتتوالد من نفسها، فتتفتح وتبعث أو تذوي وتهجع من تلقاء نفسها، وطوع إرادتها الذاتية - لا يَغفل الرد عن التجريد الذي تفترضه العلوم على النفوس والعقول، وتشترطه عليها، وحسب، بل يزعم القدرة على تعليل القوة وتالضعف العلميين والتقنيين بالقوة والضعف الحضاريين والسياسيين. وينصب أصحاب هذا التعليل، وهو تعليل ب"الأصول" ومن طريقها، ينصبون أنفسهم، وسياستهم، الأصل والفصل والرواد و"القادة"، على قولٍ خميني مأثور. وحين يُغفل نسب أحمد زويل العلمي والتقني فقد لا يكون مرد الأمر إلى الرغبة في التخفيف على القارىء والتهوين عليه. ثقل الشرح العلمي. فلم يعدم مراسل أو معلق التلويح ب"الفيمتوثانية" وليس "الفيمتوتانيه"، على ما كتبت غير صحيفة، ونسبتها إلى المجاز الجديد بنوبل الكيمياء. وهذا من قبيل التقرب والتمسح والتأخيذ إعداد الأُخذة أو الرقية. فما يُغمط، والحال هذه، هو صيرورة الولد المصري، الدسوقي، العربي، المسلم، ابن حسن زويل وشقيق سهام زويل، "البار جداً بأسرته"، والمخلي بين عينيه وبين "الدموع" "لحظة سفره"، المجاز الواحد والتسعين بنوبل الكيمياء. والنسب العلمي، على خلاف الأصل والفصل و"الإيمان" على قول أنور السادات، على الواحد تعقبه في الصحافة "الغربية". فيتبدى أن تصوير الجزيئيات في أحوال الإنفكاك والإنكسار واللَّي والتفسخ وإيجاب التفاعلات، يرجع إلى أعمال نظرية كان أولها في العقد الرابع، قبل نحو سبعين عاماً، وانتهت هذه الأعمال إلى قياس سرعة التفاعلات بين النوى الفردية. فهذا "جد" أحمد زويل، أو "أبوه" الأول. وفي 1967 جاز الألماني مانغريد آيفين، والبريطانيان رونالد نوريش وجورج بورتير، جائزة نوبل في الكيمياء على اختبارات أدت الى ملاحظة ظواهر تدوم عشراً من بليون من الثانية و"الفيمتوثانية" الزويلية تدون ألف مرة وقتاً أقل، وآلة ليزره المصوِّرة أسرع ألف مرة. والثلاثة هم "آباء" المصري - الأميركي الأقربون. ولزويل "شقيق" لم تلده أمه، على قول العرب، هو تشارلز شانك، المتنقل بين مختبرات "بل" وبين جامعة بيركلي بكاليفورنيا. وإلى شانك هذا يعود إعداد جهاز التصوير السريع. وتوقع باحثون إشراك "الشقيقين" في الجائزة. أما ما يعود إلى أحمد زويل وحده فهو إطلاقه دفقاً نووياً في حجرة فراغ، فيتولى حافز ليزر أول إحداث التفاعل، بينما يتولى الحافز الثاني "التصوير" الفوتوغرافي، ولكنه تصوير غير مباشر، فموضع الجزيئيات إنما يستدل عليه احتساباً من طريق الطيف والبصمة اللذين تخلفهما النوى في الشعاع السابر. وهذا جائز، على قول الباحث الفرنسي في البصريات التطبيقية، جان - لوي مارتان، ما اقتصر عدد ذرات النواة على ثلاث. أما إذا زاد العدد على الثلاث ذرات فالإحتساب مستحيل. ويتوقع بعض الباحثين أن يوكل إلى الأشعة السينية، الغنية بالطاقة، خلافة الليزر وحوافزه الضوئية والمرئية. ويعمل أحمد زويل، وتشارلز شانك، وآخرون، في هذا السبيل. فهو، وغيره، "يلدون"، منذ اليوم، باحثين ومجازين آتين من "أصلابهم"، هم "ذراريهم"، على قول العربية، من أصقاع العالم وحضاراته المتفرقة. وعلى هؤلاء البناء على علوم "الآباء" لأجل الإحاطة بعمل الخلايا الحية، وصنع الكوابح التي تحول بين الأنزيمات وبين استقبال العوامل المَرَضية، على ما يُرى في علاج السيدا الإيدز الثلاثي، وفي علاج ضغط الدم، منذ اليوم. وشرط الأدوية المتوقعة التمكن من رسم خرائط لمسارات الأنزيمات الوسيطة في أثناء تفاعلاتها كلها. وإذا كنا لا نعرف غدنا، على قول السيدة كلوديا شيفر في مديحها سلعة "لوريال"، ولا نعرف تالياً من هم مجازو نوبل، أو غيرها من الجوائز، في الأعوام الآتية، فما نعرفه على وجه اليقين هو مصادرهم العلمية. فهم، قطعاً، يعملون منذ "عشرين سنة" أو ثلاثين، في مختبرات أوروبية أو أميركية أو أوسترالية، أو عملوا فيها، تحوطهم فرق باحثين خرجوا من جامعات أوروبية أو أميركية وأعدوا فيها، ودرسوا على أساتذة في جامعات من الضرب نفسه. ولا ريب في أن الباحثين والأساتذة والطلاب هؤلاء يستأنفون علوماً تحدرت اليهم من أمثالهم وأشباههم، تحصيلاً وتجريباً ومقارنة. أما من هم، ومن أين جاؤوا، فلا شك في أن فيهم، على شاكلة عبدوس سلام ومدوَّر وزويل اليوم، كل "علامات وصل" الهويات الجائزة والمحتملة. فهم مولَّدون، حداً وتعريفاً، ومهجَّنون، على شاكلة المهاجرين والساعين في الأرض. * كاتب لبناني.