هل يمكن مفكراً سياسياً وُلد في نهاية القرن التاسع عشر 1891، وكتب أهم ما كتب بين الحربين العالميتين، وتوفي في الخمسينات، ان ينسى هويته الدينية، ويخرج من جغرافية منطقته وتاريخها ليكتب الكيان والنظام اللبنانيين كما هما اليوم أو كما نتمناهما ان يكونا، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين. هذا ما يريده الكاتب فواز طرابلسي لميشال شيحا في كتابه "صلات بلا وصل: ميشال شيحا والايديولوجيا اللبنانية" الصادر حديثاً عن منشورات رياض الريس بيروت - لندن. يريده ان ينسى كونه من أقلية دينية، عانت ما عانت حتى نشوء الكيانات الحديثة، ويريده ان ينسى الوضع السياسي والاجتماعي الذي كان قائماً في لبنان منذ أواسط القرن التاسع عشر، والذي كان فيه لبنان يتمتّع منذ عهد الامراء المعنيين باستقلال اداري عن الادارة العثمانية المركزية في الأستانة تكرّس بعد حرب 1860 سنجقاً مستقلاً استقلالاً ادارياً تحت اشراف سفراء الدول الخمس في استانبول، ويريده ان ينسى الحالة الثقافية المهيمنة آنذاك التي تتمثّل بالنشاط التربوي الذي بدأته الارساليات الغربية في سورية ولبنان ومصر، والذي كان من نتائجه ان أفسح في المجال على أوسع وجه امام التيارات الهادفة الى احياء التراث العربي اللغوي والادبي من جهة، والتيارات الفكرية والعلمية والتربوية الوافدة من الغرب. وتجلّت هذه التيارات في الدعوة الى الوعي القومي مع احمد فارس الشدياق، وبطرس البستاني، وفي هاجس التحرر العربي من النير العثماني وهاجس الخطر اليهودي مع نجيب عازوري. وتجلّت كذلك في الدعوة الى التوفيق بين الدين والعلم عند شبلي الشميل وفرح انطون. ويريده ان ينسى ما للتاريخ والجغرافيا من أثر على عقلية الشعوب. فعلى صخور نهر الكلب اللبناني الى الشمال من بيروت نقوش ل17 فاتحاً أجنبياً مرّوا على المنطقة بدءاً برعمسيس الثاني في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وانتهاء بالجنرال البريطاني ولسون الذي دخل المنطقة عام 1941. ليس تاريخ هذه البقعة التي ينتمي اليها لبنان من منطقة المشرق العربي بسيطاً لتكون كتابات شيحا بسيطة في العناصر التي لا بد من اعتبارها في كل كتابة عن رجاله المفكرين لا يمكن ان تركن الى فهمنا للحاضر ولا الى تطلعاتنا الى المستقبل وانما يجب ان يُراعى فيها الاصل والعارض، الثابت والمتحرك بنيوياً من خلال العلاقة غير الواضحة بين الاستقلال النسبي والتبعية، والعلاقة المتميزة من التعاون والصدام بين جماعاته، والعلاقة مع المحيط العربي، والخارج الاجنبي، ثم التطور الدائم لميزان القوى المحلي والاقليمي والدولي. هذا التعقيد الذي يعيشه لبنان التاريخ والشعب والكيان والنظام، هو الذي سمح بانتشار نظريات خاض في بعض منها ميشال شيحا ففشل في بعضها، ووفّق في بعضها الآخر وهذا ما ينكره مؤلف الكتاب نظراً الى ثقافته الماركسية التي لا تميل كثيراً الى رحابة الصدر، والتسامح، وبُعد الرؤية وتنوّعها. ان إسقاطات طرابلسي على ميشال شيحا أو كما "يريده ان يكون" حملته على مراجعة كتابات شيحا بعين مغرضة في زمنيتها، مغرضة في نقدها، وفي تفسيرها والسؤال لحساب من؟ ولصالح أي فكر أو أية عقيدة؟ يأخذ ميشال شيحا في تصوّره لجغرافية لبنان بالثقافة السائدة آنذاك عند الاب لامنس والمؤرخ اللبناني جواد بولس والبريطاني أرنولد توينبي الذي اعتبر "لبنان نتاج تضاريسه الطبيعية" فيوضح مقتدياً بهؤلاء ان لبنان يقع على مفترق الطرق لقارات ثلاث أوروبا، اسيا، وأفريقيا ولبنان هو وحدة البحر والجبل. البحر بحكم الجغرافيا والتاريخ هو فينيقيا، اما الجبل فهو جبل لبنان الذي كان على الدوام أو قل منذ الفتح العربي - الاسلامي "حضن الأقليات". ويعلّق فواز على مفاهيم طرابلسيين بقوله "يصعب فهم هذه البهلوانيات التعريفية والتمييزية اذا نحن لم نأخذ في الاعتبار هاجساً أولاً وأخيراً يحرّك المؤلف هو هاجس تمييز اللبنانيين قومياً عن العرب". ويعتبر شيحا آخذاً بثقافة زمنه، وجرياً على تعريف الفرنسي أرنست رنان ان القومية اللبنانية هي "شكل جماعي من أشكال حُبّ الذات" وان ما يوحّد اللبنانيين هو "إرادة العيش المشترك". ويعلّق طرابلسي: "في هاتين الإجابتين كلّ التناقض في فكرة شيحا القومية في مطلع عملية التعريف، كما يقول صاحب الكتاب "كنا إزاء لبنان يحكمه العامل الجغرافي الثابت فاذا نحن في نهاية المطاف إزاء تعريف يقوم على الإرادة. "وهذا هو الانفصام المنهجي الذي لا يني يتكرر في كل منظومة شيحا الفكرية بين الجبرية المطلقة والإرادوية المطلقة". ينظر شيحا الى موقع لبنان الجغرافي على البحر المتوسط فيرى دوره الاقتصادي يتمثل في وجهين بارزين: أولاً هو بلد تجارة وخدمات، وثانياً: الاقتصاد اللبناني ليس مجرّد اقتصاد تجارة وخدمات فحسب، بل هو اقتصاد تجارة وخدمات موجّه للخارج" لكونه "حلقة وصل" و"رأس جسد" و"طريق دولية" و"منطقة حرّة"، و"ملجأ للبشر والرساميل"، وبهذا المعنى الأخير، فلبنان هو "سويسرا الشرق"، وهو ايضاً شبيه إمارة موناكو، بما هو "جُنّة ضريبية". واذ يتطوّر دور لبنان بما هو حلقة وصل بين السوق العالمية والداخل العربي، يعرّف شيحا الكون كلّه بأنه سوق للبنانيين يتاجرون فيه لصالح جميع العرب. ويعلّق فوّاز طرابلسي ناقداً منتقداً، ان شيحا كرّس القسط الأوفر من كتاباته للدفاع عن قطاع التجارة والخدمات وتغليبه على القطاعات الإنتاجية ناهياً عن التصنيع، مبيّناً مضاره تماشياً مع نظرته الاستثارية والاختزالية للاقتصاد اللبناني. يصف شيحا اليوم الذي أعلن فيه الجنرال غورو انشاء لبنان الكبير في الاول من ايلول عام 1940 بانه يوم "استعادة الوطن اللبناني"، ويرى في هذا اليوم تتويجاً لقرون من النضال والتضحيات وضعت حداً للاحتضار البطيء الذي كان يعانيه. إن ذاك اليوم الذي هو "يوم العزّ والسلام بل يوم الانتصار" يشكل عند شيحا، الحدث التأسيسي للاستقلال اللبناني. ويتدخل هنا طرابلسي كاشفاً عن النوايا قائلاً: لماذا استعادة الوطن اللبناني؟ ويوضح ان الوطن مستعاد لانه موجود منذ فجر التاريخ، أي منذ ما قبل فينيقيا. و"الاحتضار البطيء" الذي خرج منه كان حاله في عصور الانحطاط زمن الحكم العثماني. ولا حاجة لكبير تفكّر كما يزعم طرابلسي لإدراك ان "الاستقلال" المقصود هنا إنما هو انفصال لبنان عن المقاطعات العربية التابعة سابقاً للسلطنة العثمانية وخصوصاً عن سورية. انطلاقاً من فهمه لموقع لبنان البحري والجبلي ولجغرافيته السكانية المكوّنة من أقليات متشاركة في الحكم، ولكيانه، ونظامه يقترح شيحا ثلاثة مبادىء أساسية لسياسة لبنان الخارجية: أولها ضرورة تعيين "تراتب للاخطار وبخاصة الخطر الذي يتهدد لبنان والمنطقة والعالم، وهو الخطر الشيوعي، وثانيها "التبعيات المتبادلة بين الأمم" وثالثها دور لبنان في الدائرة المتوسطية يكتب ميشال شيحا: "في ما يتعدّى الاستقلالات، توجد التبعيات في الطبيعة ومثالنا على ذلك "طبيعة الأشياء" هي تبعيات لا يفلت منها أي تجمّع بشري". ويعلّق طرابلسي على فهم شيحا لعلاقة لبنان بالخارج محمّلاً هذا القول أكثر مما يحمل: "بهذا المعنى فان ميشال شيحا من دعاة الحماية المتحمّسين. على صعيد السياسي العملي، كان من أوائل الساعين الى استبدال حماية غربية بحماية غربية أخرى، إن لم نقل منذ إعلان الاستقلال السياسي والقانوني، فعلى الأقلّ منذ ان غادرت القوات الفرنسية الاراضي اللبنانية عام 1945". وجد ميشال شيحا في الاستيطان الصهيوني ومشروع قيام الدولة العبرية خطراً يتهدد دور لبنان الاقتصادي في المنطقة، بل يتهدد وجوده ذاته، وقد عبّر في كتاباته منذ عام 1945 عن تحسّسه الخطر الصهيوني، وعمل عبرها على دحض الادعاءات الصهيونية والتبريرات الغربية بصدد بناء دولة يهودية في فلسطين. تساءل ميشال شيحا حول ما اذا كان قيام الدولة اليهودية يشكّل حلاً للقضية اليهودية في العالم، وأجاب بالنفي لان مساحة فلسطين لن تسمح بايواء يهود العالم البالغ عددهم 16 مليوناً، ولن تشكّل بالتالي حلاً للمسألة اليهودية على النطاق العالمي. وتساءل شيحا إن كان لليهود حقوق تاريخية في فلسطين وأجاب ان العمل بهذا المنطق يقضي باعادة الولاياتالمتحدة الى الهنود الحمر. وتساءل شيحا اذا ما كان اضطهاد اليهود في أوروبا هو بمثابة مبرر لانشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وأجاب بانه يجب معاقبة المسؤولين عن اضطهاد اليهود ولكن لماذا يجب ان يتمّ العقاب على حساب شعب آخر هو الشعب الفلسطيني. الى هذا لا يتأفف طرابلسي من القول ان المحاججة الدينية كانت حاضرة عند شيحا منذ البداية. فقد عارض تحويل الأماكن المقدسة للمسيحيين والمسلمين في فلسطين الى مختبر لدسائس اسرائيل وألاعيبها. ويعلّق طرابلسي على مواقف شيحا من اسرائيل بالقول: "لا يمكن فهم تميّز شيحا... الا بالنظر الى اعتبارات الموقع والتمثيل الطبقيين التي يغلبها شيحا في هذه المسألة على أي اعتبارات أخرى. تعني مصالح البورجوازية التجارية المالية اللبنانية وتمثيلها في التحدي الصهيوني". وشعر شيحا بخطر اسرائيل الاقتصادي والسياسي على لبنان، فأشار الى ان "اسرائيل لا يلين لها عيش من دون صناعة ضخمة. فاذا صنّعت نفسها بما لديها من مسائل تقنية ومالية اكتسحت جوارها بأسره وقضت على كل شيء". وأشار ايضاً الى التناقض السياسي بين الصيغتين اللبنانية والاسرائيلية قائلاً: ان الصهيونية التي هي مدرسة العنصرية بعينها إنما تشكل النقيض من النموذج الحاسم للبنان حيث الطوائف والأقليات متوازنة لانها جميعاً تنال حقوقها". ويعلّق طرابلسي ان تعريف المواطن وفقاً لانتمائه الديني ليس هو اسرائيلياً فحسب، وإنما هو قاعدة النظام السياسي اللبناني سواء حصّلت الطوائف في ظلّه حقوقها أو لم تحصّل. إن قارىء كتاب فواز طرابلسي عن ميشال شيحا يكتشف كم ان نقده الأكاديمي الموثّق ونهجه البحثي يعملان على تهديم عمارة شيحا الفكرية، والسؤال مرة اخرى لحساب من؟ ولصالح أية عقيدة؟. وتهديم طرابلسي لعمارة شيحا من أجل لبنان آخر يقدّم مواصفاته في صفحات كتابه الاخير أمر مستهجن لان ما يجوز من حيث الوصف اليوم لا ينطبق على الأسس، فالفكر ابن زمانه، والرجال ابناء بيئاتهم، والاوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية متقلّبة متغيّرة. فمن الظلم ان نحاكم ابن خلدون لانه لم يلحظ صراع الطبقات كما تصوّره ماركس، ومن الحيف ان نحاكم فينيقياً قديماً عاش بين الحربين العالميتين لانه لم يلحظ قيام دولة ديموقراطية كانت في السبعينات اشتراكية كما يتصورها ماركسي جديد.