"زارعو الريح" في مطلع التسعينات حصدوا العاصفة عام 1998، وغداً "الحنظل" سيد الغلال في روسيا. وسيدخل "الاثنين الأسود" تاريخ روسيا، ففي 17 آب اغسطس اشهر رئيس الوزراء آنذاك سيرغي كيريينكو إفلاس بلاده واعلن وقف التعامل بسندات الدولة وتسديد ديونها الخارجية. إلا ان هذه الخطوة كانت إفرازاً لتراكمات كثيرة بدأت مع "الإصلاحات" التي غدت وبالاً وكارثة. وفي محاولة لوقف الانهيار قرر الرئيس بوريس يلتسن إقصاء حكومة فيكتور تشيرنوميردين التي دامت زهاء ستة أعوام واسناد رئاسة الوزارة الى كيريينكو 35 عاماً الشاب الذي لم يعرفه سوى القلائل. والى جانب الدافع الاقتصادي اتخذ يلتسن قراره لأسباب سياسية في مقدمها ان تشيرنوميردين بدأ يتحول من "ظل" لرئيس الدولة الى منافس له ولم يعد يخفي طموحه الى تبوء الكرسي الأول، خصوصاً بعدما كثر تردد يلتسن على المستشفيات والمصحات. وذكرت احصاءات صحافية ان رئيس الدولة لم يداوم في الكرملين أكثر من ثلاثة اشهر فيما أمضى الفترة المتبقية من السنة متنقلاً بين المؤسسات العلاجية وقصوره المنتشرة في ضواحي موسكو وعلى ساحل البحر وفي منتجعات اخرى. ولم يكشف النقاب عن حقيقة أمراض يلتسن فالمكتب الصحافي للكرملين يذكر مرة انه مصاب بپ"نزلة برد" واخرى انه مبتلي بپ"التهاب رئة"، لكن الألسن الخبيثة تحدثت عن مضاعفات الأدمان على الكحول وما سببه من أضرار بالكبد والقلب، بل ان أحد كبار الخبراء تحدث عن "خرف الشيخوخة" لدى رئيس الدولة. وبسبب أمراض يلتسن، تزايد الصراع على السلطة وكان ذلك عاملاً آخر أدى الى زعزعة الوضع الاقتصادي. ولم تتمكن حكومة كيريينكو من مواجهة الأزمة فعملت على تعميقها بإصدار قرارات 17 آب اغسطس التي غدت في واقع الحال اعلاناً عن فشل مرحلة الاصلاحات الراديكالية ونهايتها. وحاول يلتسن ان يخرج من الأزمة فألقى المسؤولية على عاتق رئيس الوزراء الشاب وقرر اعادة تشيرنوميردين الى الحكم بعد خمسة اشهر من إقصائه. إلا ان البرلمان الذي وافق على تعيين كيريينكو خوفاً من قرار بحله، تمرد هذه المرة على رئيس الدولة وأصر على رفض المرشح الجديد - القديم. وبذا واجهت روسيا أزمة سياسية اقتصادية كانت تنطوي على مضاعفات بالغة الخطورة بفعل تعاظم موجة الاستياء والاضرابات والتحركات الشارعية المطالبة بتسديد الاجور التي لم تدفع منذ اشهر. وبضغط من البرلمان والنخب السياسية وافق يلتسن على اسناد المنصب الى الديبلوماسي المخضرم يفغيني بريماكوف الذي حظي بتأييد غير مسبوق وشكل للمرة الأولى حكومة تحظى بدعم الغالبية البرلمانية وطعمها بعناصر من المعارضة واستبعد منها الرموز الراديكالية اليمينية. وإزاء التراجعات والهزائم الكثيرة ربما حققت روسيا انجازاً مهماً ببلوغها الحد الأدنى من الوفاق ودرء مخاطر الصراع الدموي أو تمزيق وحدة الدولة. وكانت الغارات الاميركية والبريطانية على العراق عاملاً آخر عزز التضامن بين فروع السلطة والنخب السياسية، اذ لم تشهد روسيا من قبل اجماعاً كالذي حصل في الشهر الأخير من العام الحالي حينما وقعت قوى اليسار واليمين والوسط ضد ما اعتبرته تجاوزاً اميركياً للثوابت الاستراتيجية وامتهاناً لدور روسيا كقوة كبرى في العالم. وأملت الديبلوماسية الروسية في توظيف "الورقة العراقية" دولياً. وقدم بريماكوف اقتراحه المعروف بتشكيل "مثلث استراتيجي" يضم روسيا والصين والهند. ثم التفت الكرملين الى داخل الكومنولث، واتفق على انشاء دولة اتحادية تتألف من روسيا وبيلاروس روسيا البيضاء ولو تجسد ذلك عملياً فإن الدولة المقترحة قد تصبح مقدمة لإعادة لملمة ما يمكن تجمعيه من شظايا الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي سيصبح ثقلاً جديداً في المعادلات الدولية. إلا ان روسيا الضعيفة داخلياً لا يمكن ان تلعب دوراً مهماً في العالم، ولذا فإن الاقتصاد سيبقى الهم الأول والأكبر للكرملين وحكومة بريماكوف. وعلى هذا الصعيد فإن روسيا تودع عام 1998 وهي مهلهلة منهكة رغم انها تحاول استجماع قواها لمنع انهيار كامل.