قد يتخذ الحديث عن الكتابة الابداعية في راهن جزائر التسعينات شكلاً ما من أشكال العبث، في ظل تصاعد هيستيريا التقتيل وجنون التدمير الذي شارف على تقويض البنى الأساسية لمجتمع ظل يبحث عن صورته النهائية أو التقريبية طيلة قرون. لكن الرغبة الجامحة في مقاومة الانهيار التي نلمسها على الصعيدين السياسي والعسكري لا تزال تحتفظ ببقايا لها في وعي النخبة المثقفة التي لم تستطع ان تلغيها الاغتيالات والتهديدات. وقد أثمرت هذه الرغبة، على مستوى الكتابة الابداعية، بعض النصوص المتميزة في رؤاها ومواقفها من الاحداث الراهنة والمتدفقة باستمرار أو من اللحظات التاريخية التي حددت مصير الجزائر. ولعل ما أنتج من النصوص الروائية الجزائرية خلال هذه الحقبة كان أكثر قدرة على تقديم كم مقبول ومتناقض من القراءات لأزمة الجزائر المعقدة، وبدأت تترسخ تقاليد أخرى للكتابة، هي أكثر واقعية، على رغم حدتها وعنفها، وتنداح ظلال الخطابات القديمة أو تنكمش أمام مدّ هذه الواقعية المفروضة بقوة الأزمة. ولكن التجربة الروائية التي خاضها الكاتب جيلالي خلاص في نصيه الأخيرين: "زهور الأزمنة المتوحشة" و"بحر بلا نوارس" تتعدى حدود الراهن لتصل، من خلال مقاربة ذاتية فرضتها جملة من العوامل الموضوعية، الى الوعي العميق الذي يرفض الغياب والمستيقظ باستمرار، لا سيما في اللحظات الأكثر يأساً وسواداً، ليطرح الأزمنة الغابرة كبدائل ممكنة عن هذا الراهن الذي آل، بفعل أنانية الانسان ورعونته، الى جحيم فرض على الأبرياء أن يعيشوه. تحاول الروايتان اللتان توفران أجواء وعوالم متقاربة، مع اختلاف أساسي في طريقة الأداء التي تميل لصالح الرواية الثانية، تلبس الماضي واستحضاره ليشكل المادة الزمنية الأساسية والوحيدة في رواية "زهور الأزمنة المتوحشة" ويقتطع مساحات كبيرة من متن "بحر بلا نوارس"، فيأخذ بعداً تذكيرياً محضاً تارة وآخر واقعاً في السياق التأريخي، وهو ما يمنح الذاكرة الفردية - سيما في الرواية الأولى - وظيفة تفوق الاستحضار العفوي لتبلغ مستوى القبض على الأحداث وترسيخها في الذاكرة الجماعية. أحداث "زهور الأزمنة المتوحشة" تدور في احدى القرى الجزائرية في الثلاثينات من هذا القرن، وهي فترة شهدت تنامي الحركة الوطنية الجزائرية وميلاد حزب الشعب الجزائري بزعامة مصالي الحاج الذي لعب دوراً اساسياً ومؤثراً في الحركة النضالية التي خاضتها الطبقة السياسية قبيل اندلاع الثورة الجزائرية في منتصف الخمسينات. ومع ان هذه الفترة من تاريخ الجزائر حساسة ولم تخل من تناقضات جوهرية وصراعات كان لها انعكاسها على مستقبل الخارطة السياسية في ما بعد والى اليوم، إلا ان الرواية الجزائرية ظلت بعيدة عن هذه المرحلة. ويبدو ان جيلالي خلاص حاول، ومن خلال العودة الى هذه الحقبة، البحث في جذور الصراع الدموي الذي تطحن رحاه آلاف الجزائريين اليوم. ومن خلال مزاوجة بين الروح البطولية والقومية والنزعة العاطفية والرومانسية في الرواية، يتشكل انطباع بأن مرحلة الثلاثينات لم تخل من صراع دموي مع الكولونيالية الفرنسية، وذلك حتى بعد انتهاء فترة المقاومة الشعبية المسلحة التي بدأت قبل قرن من ذلك، وقبيل اندلاع الثورة الجزائرية بحوالى عقدين. وأدت هذه المزاوجة الى تحولات على مستوى الكثير من الاقطاب المتناقضة، كان أبرزها التنازل الذي أبدته الاقطاعية ممثلة في شخصية "قويدر بن سوكة" لفائدة الفئة المسحوقة من المجتمع ممثلة في شخصية "سليمان" حين قبل الأول تزويج ابنته من راعيه. وعلى المحور المعاكس يقبل الاقطاعي ذاته بزواج ابنه "عبدالله" من خادمته "أم الخير". وفي كلتا الحالتين تفقد الاقطاعية هيبتها الطبقية، لكنها تكتسب نفوذاً اجتماعياً وجماهيرياً يخلع عليها مزيداً من الهيبة والبطولة. وفي الرواية تفاصيل حب رومانسي عنيف ينتهي هذه النهاية الممتعة التي لا تلبث ان تتحول الى بداية لنهاية مأسوية لكنها لا تخلو من بطولة، حين يقتل عبدالله على أيدي الفرنسيين ويسجن قويدر ويلتحق الآخرون، بمن فيهم سليمان الراعي، بالجبل ثواراً. ولكن رواية "بحر بلانوارس" التي صدرت للكاتب بعد شهرين من صدور "زهور الأزمنة المتوحشة" التي تعد الثالثة لخلاص بعد "رائحة الكلب" 1985 و"حمائم الشفق" 1986، تحاول الانطلاق من الراهن، لكن من دون التنصل في اللحظات الماضية التي لا تزال تشكل مخزوناً استراتيجياً للكتابة الابداعية يزداد حجمه بقدر ما يؤخذ منه، وعلى عادة الكاتب في كل رواياته، تظل الطفولة البائسة وأجواء الريف، أكبر ما يشكل مخزون الكتابة لديه. وعلى رغم الاعلان المبكر والصريح عن راهنية الاحداث في "بحر بلا نوارس" الا ان مسار التشكيل الروائي ظل موثقاً بالذاكرة، حيث الحنين الى تلك الأزمنة الغابرة، الأولى في التماس مع الواقع والوجود، لا يزال يشكل المادة المركزية كلما أثيرت العلاقة بالمكان أو الأشخاص. وتنطلق الرواية من راهن قاتم أكثر دموية وسواداً من كل الأزمنة التي تعاقبت على الجزائر، لم يشأ خلاص ان يستعرض تفاصيله، فقد تغني عن ذلك نشرات الاخبار اليومية وتعليقات الصحف العالمية، بل تعمد إغفاله تحت طائلة اليأس الذي يوصل في أقصى حالاته الى عبثية تستمر كخلاص وحيد من عذاب انتظار نهاية المأساة التي لا يأتي الخلاص منها إلا لتبدأ ثانية، وهكذا يتوالى التاريخ حلقات مأسوية دامية تسحق قيم الحياة التي هي قاسم الانسانية المشترك. ويستعيض الكاتب عن إغفال هذا الراهن بوسيلتين لا يبدو بينهما اي رابط: هما المرأة والطفولة، لكنهما تتوحدان حينما تشكل كل منهما الحلم الهارب الذي يضطهده الآخرون بعنفهم ودمويتهم. والوسيلتان، في أول المطاف ومنتهاه، ملاذ آمن يوفر قدراً من الطمأنينة المفقودة في واقع التناحر على السلطة والغنائم، ويتحقق التوحد بالقدر الذي تفلح المرأة - في صورة هدى في الرواية - في الاحتفاظ بعبق الطفولة مستمراً في الحاضر، حتى ولو كان ذلك من خلال الذاكرة المهزوزة التي تنتقي الصور الأقدر على مواجهة الموقف المتردي. وبالنسبة الى السارد، وهو شخصية تمارس الكتابة في الرواية، فإن الانكفاء على الطفولة كمعين للمتعة لا ينضب، لا يقل في أثره عن الانكفاء على المرأة ثم الكتابة كحال مستمرة تتغذى من الذاكرة، وتسخرها الذاكرة لتطبع صورها الى الأبد، بحثاً عن فاعلية أقوى لها ودور قد تعجز عنه بقية الملكات، ومن ثم تتحقق المتعة في هدى - جسداً وروحاً - وفي الطفولة من خلال الذاكرة والكتابة، كلما تحققت حال الهروب من الراهن ما يجعل الحياة بما تتطلبه من وعي بالحاضر، مستحيلة التحقق، وهي قمة ما يبلغه كاتب في مجتمع التناحر من يأس وإحباط يقود الى العبثية القيمية في كل تجلياتها. وتأتي الخرافة هذه المرة لحظة تبشيرية، لكنها لا تخفي العجز البشري عن تحقيق السعادة المنشودة وايجاد الحلول للأزمات التي تصنعها التناقضات. الخرافة تستمر في آخر الرواية حلاً سحرياً غير انها شكل آخر من أشكال الهروب والتنصل من الراهن المتردي، وهنا نتحدث عن خرافة صنعتها حال فردية، هي حال السارد، ومنفصلة عن الخرافة التي يصنعها وعي الجماعة، وهو ما قد يحيل كل عملية تفكير، على هذا المستوى، الى خرافة تنأى عن الواقع كلما حاولت التقرب منه، لأن صناعة الخرافة في الرواية تكاد تكون حال التفكير الوحيدة لدى السارد، فهل أفلح راهن الجزائر في العودة بالفكر الى مرحلته البدائية حيث الخرافة أقوى من الواقع؟ يبدو ان الفراغ الزمني الذي عاشه خلاص بين فترة صدور روايته الثانية "حمائم الشفق" وفترة صدور روايتيه الأخيرتين، قد أربك أسلوب الأداء لديه، ما يوحي بأن الكاتب بصدد تجربة روائية جديدة على المستوى الاسلوبي قد لا يبدو هذا أوان تقييمها، لكن هذا الفراغ لم يتلف معالم أجواء خلاص الروائية المتميزة.