علم "المناظر" أو البصريات Optics هو أحد العلوم الفيزيائية الذي يعنى بدراسة طبيعة الضوء وخواصه وتقنياته. وقد عرّفه حاجي خليفه بأنه "علم يتعرف منه على أحوال المبصرات في كميتها وكيفيتها، وما يتوسط بين الناظر والمبصرات وغلظته ورقته، وعلل تلك الأمور، ومنفعته: معرفة أحوال الإبصار، وتفاوت المبصرات والوقوف على سبب الأغاليط الحسية الواقعة فيها ويستعان بهذا العلم على مساحة الأجرام البعيدة والمرايا المحرقة أيضاً". ويكتسب علم المناظر أهمية خاصة، لأن أي تقدم يحرزه المتخصصون فيه يؤثر تأثيراً مباشراً على باقي فروع العلوم الطبيعية والتطبيقية، فما تقدمت علوم الفلك والفضاء والكيمياء والطب والصيدلة والجيولوجيا والنبات والحيوان وغيرها إلا نتيجة لتقدم أبحاث الضوء وتقنية الأجهزة البصرية. مدخل تاريخي تقتضي أمانة السرد التاريخي لعلم المناظر أن نبدأ من مرحلة العلم القديم، حيث كانت آراء فلاسفة الإغريق أول ما وصلنا في تعريف طبيعة الضوء وتفسير عملية الإبصار. فقد قال "أفلاطون" بنظرية الشعاع القائمة على أساس أن إبصار الموجودات يتم بخروج النور من عين الانسان، فيحيط بالأشياء ويتم إدراكها بالرؤية المباشرة. لكن"أرسطو" خالف استاذه في هذه النظرية، وقال: إن الإبصار يتم بانطباع صور الاشياء في البصر، فترى العين تلك الاشياء من دون أن يرد منها شيء للعين، إذ ليس للضوء - بحسب زعمه - وجود في ذاته. أما "ابيقور" فقد تخيل أن المرئيات ليست سوى أشباح أو صور تنخلع عنها وتنبعث منها بصورة مستمرة ومتصلة، ويتم الإبصار بورود هذه الصور الى العين. وهناك أيضاً "الرواقيون" الذين ذهبوا في تأملاتهم الى القول بأن الإبصار لا يكون إلا بالاتصال المادي بين العين وبين الجسم المرئي، وذلك بأن يخرج من العين شعاع على شكل مخروط رأسه عند العين وقاعدته عند الجسم المرئي، فإذا لمس هذا الشعاع جسماً ما حدثت الرؤية، وقد شاع هذا الرأي حتى سُميّ أنصاره "أصحاب الشعاع". وهكذا نرى تعدد نظريات الإغريق في طبيعة الضوء وتفسير الإبصار، وهذا امر طبيعي اذا ما فهمناه في إطار علاقة التوازي بين مراحل تطور العلم ومراحل تطور التفكير ونمو القدرات العقلية، فقد قدم جان بياجيه فكرة "الابستمولوجيا الارتقائية" Genetic epistemololgy لنظرية المعرفة والنمو المعرفي من خلال دراساته لجوانب النمو العقلي والمعرفي عند الطفل عموماً. ورأى بياجيه أن تاريخ العلم يعمل بالطريقة نفسها التي يعمل بها علم النفسي الارتقائي في دراسته لمراحل التطور العقلي عند الطفل، ومن ثم فإنه يبني نظريته على أساس أن الهيكل التفسيري الذي ينظم نشوء العمليات العقلية وتطورها عند الإنسان ينطبق على تاريخ العلم نفسه. فعندما يكون منهج التفكير السائد عقلياً تأملياً فقط، أو قياساً صورياً بحتاً، فإن كل فريق من الفلاسفة يعتقد أن ما يهديه إليه عقله ويتصوره ذهنه هو الرأي الذي لا صواب غيره، حتى وإن بدا التفكير في بعض الأحيان ذا صلة منطقية بالتصور السليم عن غير قصد، مثلما جاء في فكرة "الورود" التي قال بها الأبيقوريون وصاغوها في صورة خيالية جعلتها تفقد قيمتها في البناء المعرفي لنظرية الضوء. واذا كانت الشخصية النمطية المميزة لطفل مرحلة ما قبل العمليات Pre-operational period وهي مرحلة التفكير التصوري حتى سن السابعة، كما يراها بياجيه، تجعل منه طفل التناقضات والعجائب، وتظهر لنا التراكيب الخاصة به على درجة كبيرة من البساطة والافتقار الى التنظيم، فإن تفكير علماء الاغريق في المرحلة الصورية للعلم يكون أشبه بتفكير ذلك الطفل، متمركزاً حول الذات، ومرتبطاً الى أبعد حد بالانطباعات الخاصة، ومن ثم يصعب عليهم تصور الاشياء تصوراً تاماً مستقلاً عن المحسوسات. مرحلة أرقى وكان يمكن ان تظل آراء فلاسفة الاغريق سائدة حتى عصرنا هذا. فالقياس الصوري الذي اصطنعوه منهجاً للنظر لا يسمح بتقدم العلم خطوة واحدة مهما تراكمت المعارف المستنتجة على أساسه. لكن علماء الحضارة الاسلامية استطاعوا أن يعثروا على منهج علمي جديد، استمدوا أصوله من تعاليم الاسلام الحنيف واجتهادات علماء الأصول وطبّقوه حسب ما تسمح به حالة العلم في عصرهم، فقفزوا بالمعرفة العلمية الى مرحلة "ابستمولوجية" ومنهجية أرقى، تعتمد على الملاحظة والتجربة وتستخدم الفروض وصولاً الى نتائج أعم. انه المنهج الاستقرائي الاسلامي الذي عملوا في حدود ثوابته الايمانية ومتغيراته الفكرية والعملية، فأدى بهم الى كشف عملية ثورية جديدة غيرت من النموذج القديم واستبدلته بنموذج أحدث يقوم على تصور واضح لنظرة الانسان الى ظواهر الكون. ويرى فيلسوف العلم المعاصر توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية" أن تاريخ العلم الحقيقي تحكمه طائفة من الكشوف الثورية التي تقدم ما اسماه ب"النموذج القياسي" parading. وكان طبيعياً أن ينتقل العلم الى مرحلة أرقى معرفياً ومنهجياً، مثلما يتطور تفكير الطفل من مرحلة التفكير التصوري أو ما قبل العمليات الى مرحلة العمليات العيانية او المحسوسة Concrete operations التي يبدو فيها الطفل وكأنه يمتلك نظاماً أو نسقاً معرفياً محدداً، ينظم بواسطته العالم من حوله. وهذا يعني أن العقل الانساني في عصر الحضارة الاسلامية قد بلغ رشده بارتقائه من مرحلة إدراك العلاقات بين الأمور المتشابهة الى مرحلة إدراك العلاقات بين الأمور المختلفة عن طريق "الاستقراء" وهو ما يتفق مع حالة العلم في مرحلة اعتماد المنهج العلمي على الملاحظة والتجربة جنباً الى جنب مع إعمال العقل وغيره من ملكات الإدراك والتفكير. وكان الحسن بن الهيثم أحد نماذج هذه المرحلة الجديدة، فقد استطاع بحاسته النقدية وعقليته التجريبية ان يضع حداً للخلافات القديمة التي لم تتوصل الى اتفاق حول تعريف الضوء وتفسير عملية الابصار، وانطلق من مبدأ عام هو القول بوجود العالم الخارجي وجوداً مستقلاً في ذاته خارج الذهن وخارج النفس، وان العقل والحواس أدوات إدراكه، ومن ثم عزا إحساس البصر الى عامل أو مؤثر خارجي له في ذاته وجود عيني، وأسماه "الضوء". وقال عن طبيعته: "إنه جسم مادي لطيف يتألف من أشعة لها أطوال وعروض، وما هذه الأشعة إلا حبال النور المنبعثة من الأجسام ذوات الأضواء الذاتية فحسب، وإذا اشرقت هذه الأشعة على جسم كثيف أسخنته، وإذا انعكست من مرآة مقعّرة واجتمعت عند نقطة واحدة وكان عندها جسم يقبل الاحتراق أحرقته"، وهذا التعريف لطبيعة الضوء يتفق مع ما نعرفه الآن عن الطاقة الضوئية. واستطاع الحسن بن الهيثم ان يحيط بكل ما تفرق من آراء السابقين، ويصوغها بعد تصحيحها وتطويرها في مؤلفات عدة، اشتهر من بينها كتابه "المناظر" الذي نهل منه كل من جاء بعده، ودعا الاهتمام العالمي به الى وضع ترجمة لاتينية كاملة في العام 1572م أخذ عنها الكثير من علماء الغرب واعتمدوها مرجعاً أساسياً لهم يشيرون إليها كلما تحدثوا عن علم البصريات أو صنفوا فيه الكتب والمراجع. ثورة علمية ومن أهم ما جاء به الحسن بن الهيثم في هذا المجال، وما نعتبره ثورة علمية بكل المقاييس التي وضعها فلاسفة العلم ومؤرخوه، هو أنه اتبع منهجاً استقرائياً دقيقاً لتحقيق نظريته الجديدة في الإبصار على أساس الشروط أو "المعاني" التي لا يتم الابصار إلا بها، وهي ان يكون الجسم المرئي مضيئاً بذاته أو بإشراق ضوء عليه. وأن يكون بين الجسم المرئي والعين بُعد ما. وأن يكون الوسط الفاصل بينهما مشفاً. وأن تكون المرئيات ذات حجم وكثافة يسمحان للعين بإبصارها، وأن تكون العين خالية من عيوب الإبصار. ويناقش ابن الهيثم عملية الإبصار بأسلوب المنطق والتجربة العلمية، بعيداً عن الشطحات والأوهام القديمة، فيقول: "إن البصر إذا أحس بالمبصر بعد أن كان لا يحس به، فقد حدث فيه شيء ما بعد أن لم يكن، وليس يحدث شيء بعد أن لم يكن إلا لعلة، ونجد المبصر إذا قابل البصر أحس به البصر، وإذا زال عن مقابلة البصر لم يحس به البصر. واذا عاد المبصر لمقابلة البصر عاد الإحساس، وكذلك نجد البصر اذا احس بالمبصر ثم اطبق أجفانه بطل ذلك الاحساس، واذا فتح أجفانه والمبصر في مقابلته عاد ذلك الإحساس والعلة هي التي اذا بطلت بطل المعلول واذا عادت عاد المعلول، فالعلة إذن التي تحدث ذلك الشيء في البصر هو المبصر. ويتضح من هذا النص ان الحسن بن الهيثم استخدم منهج الاستقراء التجريبي في فحص اقتران ظاهرة الابصار لجسم بوجود ذلك الجسم. وهذا هو مضمون مبدأ الربط بين الأسباب والنتائج التي تخضع لها عملية إطراد حدوث الظواهر الطبيعية، بمعنى أن يكون بإمكان المجرب كشف القوانين التي تخضع لها تلك الظواهر. ومن المواضيع المهمة التي تطرق إليها ابن الهيثم في كتابه "المناظر" إثبات خاصية انتشار الضوء في خطوط مستقيمة بتجربة الغرفة المظلمة، او الخزانة ذات الثقب التي يدرسها طلاب هذا العصر، فيقول: "اذا كان في موضع واحد سرج عدة في أمكنة متفرقة وكانت جميعها مقابلة لثقب واحد وكان ذلك الثقب ينفذ الى مكان مظلم، وكان مقابل ذلك الثقب في المكان المظلم جدار، فإن اضواء تلك السرج تظهر على ذلك الجدار متفرقة وبعد تلك السرج، وكل واحد منها مقابل الواحد من السرج على السمت أي الخط المستقيم الذي يمر بالثقب، واذا ستر واحد من السرج بطل من الأضواء التي في الموضوع المظلم الضوء الذي كان يقابل ذلك السراج فقط، وان دفع الساتر عن السراج عاد ذلك الضوء إلى مكانه". ويحرص ابن الهيثم على التمييز بين فعل الوسط الشفيف. وفعل الوسط الكثيف، فالضوء الذاتي كضوء الشمس ينطلق على استقامة واحدة في وسط الجسم المشف، كالهواء مثلاً، فإذا صادف جسماً كثيفاً استحال الأمر وتبدل وأصبح الجسم الكثيف مصدراً جديداً للضوء يشرق من كل نقطة على سطحه من جديد. وبهذا المعنى يظهر السبب في أن البصر لا يدرك المرئيات إلا إذا كانت كثيفة أو بها بعض الكثافة، فالهواء لا يُرى لأنه شفيف مطلق أما الماء فيمكن رؤيته لأن فيه بعض الكثافة. وعندما تعرض ابن الهيثم لشرح ظواهر انعكاس الضوء وانعطافه وانتشاره، لجأ إلى استخدام الخيال العلمي في المماثلة بين الظواهر المختلفة والكشف عن الوحدة التي تربط بين وقائع متناثرة، وابتكر الكثير من المفاهيم العلمية المطابقة للواقع والخبرة وكان التمثيل الذي استخدمه هو النموذج الميكانيكي لحركة كرة صغيرة من الحديد أو الصلب تسقط على سطح مستوٍ أملس فترتد عنه. وأدخل ابن الهيثم للمرة الأولى طريقة تحليل "المتجه" Vector الى قسطين متعامدين، ووصل بخياله التجريبي الى استنتاج ان القسط الموازي لسطح المصادمة من سرعة الكرة يبقى على حاله، فيما يتغير القسط العمودي بحسب ممانعة سطح المصادمة. وذكر أن الضوء يختلف عن الكرة في "أنه ليس فيه قوة تحركه الى جهة مخصوصة، بل إن خاصته أن يتحرك على الاستقامة في جميع الجهات التي يجد السبيل إليها إذا كانت ممتدة في جسم مشف. فإذا انعكس وصار على سمت الاستقامة التي أوجبها الانعكاس امتد على ذلك السمت، واستمر حتى يعترضه مانع. ويثبت ابن الهيثم ان سرعة الضوء في الوسط المشف الألطف أعظم من سرعته في الوسط المشف الأغلظ، ويبين كيف يترتب على ذلك أن ينعطف الضوء عند نفوذه من الألطف الى الأغلظ مقترباً جهة العمود على سطح الانفصال، الى الألطف مقترباً من العمود. وهو بهذا يسبق كلاً من ديكارت وسنيل ونيوتن في تقديم وصف دقيق للرسم المعروف لدى طلاب هذا العصر في ما يتعلق بقانوني انعطاف الضوء وقابليته لعكس مساره، ولم يزد العلم الحديث عليه إلا حساب معامل الانكسار النسبي بين الوسطين. ومن المهم ان نشير الى دور المنهج الرياضي الى جانب المنهج التجريبي في فكر الحسن بن الهيثم، وأثر ذلك في إنشاء علم "المناظر" أو "البصريات الهندسية" على يديه، محققاً بذلك نجاحاً غير مسبوق في اعتبار المنهج العلمي غير محدد بمجموعة من الخطوات التي حسبها المحدثون مُلزمة وفق ترتيب معين ليس للباحث أن يتجاوزه، ومن ثم فإن منهج البحث الإسلامي يحقق للباحث قدراً كافياً من المرونة وحرية التفكير ويحول دون جموده أمام حركة العلم وتطوره. ولم يغفل ابن الهيثم الجانب التقني في بحوثه العلمية، فقد استخدم الآلات الدقيقة في تجاربه، ولم يكتف بمجرد وصف كيفية استعمالها، وإنما اسهب في شرح التفاصيل المتعلقة بصنع الأجزاء المختلفة للجهاز، فيقول مثلاً في استخدام انواع المرايا: "رأينا ان نشرح ذلك ونوضح ليحيط بعلمه من كانت له رغبة في معرفة الحقائق، فبينّاه في هذه المقالة ولخصنا البرهان على علم حقيقته، وذكرنا طريق العمل في اتخاذه وترتيب آلته، وقدمنا الأصول التي يستعملها المهندسون في جميع أنواع المرايا، ليهتدي اليه من التمسه". على أننا يجب ألا ننسى أن هناك علماء آخرين، مثل الكندي والرازي وابن سينا وغيرهم، كتبوا في علم المناظر وتعرضوا لبعض نظرياته، لكن ابن الهيثم يظل له القدح المعلي في هذا المجال المهم من مجالات العلوم الفيزيائية على مر العصور، بعد أن وضع أصوله السلمية التي أدت الى الحصول على واحد من أهم الانجازات العلمية المعاصرة، وهو ما يعرف باسم "الليزر" الذي أدى بدوره إلى الحصول على أشعة أقوى منه باستخدام الأشعة السينية، ويؤمل أن يمتد التطور لتطويع أشعة "جاما" ايضاً في المستقبل القريب. * استاذ الفيزياء وكيل كلية العلوم في جامعة القاهرة عضو المجمع العلمي المصري