تبرعت دولة الامارات العربية بمليون ونصف المليون عبوة ماء الى الاردن. والسعودية ايضاً تصدر للاردن الماء… فما الذي يجعل بلداً مثل الاردن كان على مدى التاريخ عامراً بالانهار والينابيع والخيرات يستورد الماء والغذاء والاعلاف من الصحراء، وما الذي جعل الصحراء عامرة بالماء والنخيل والفواكه وكل الزروع والثمار؟ ما يحدث في الاردن لا يكاد يصدق، وكأن هذه الحكومات المتعاقبة مسخرة لعملية تدمير عبقرية منظمة وذكية، وهي تنفق ايضاً على هذا الخراب "المسمى تنمية" موارد البلد واهله، ثم يدفع الناس مرة ثانية ثمن هذا الفشل والتخبط، وسيدفعون مرة ثالثة ليتخلصوا من مشروعات الحكومة وبرامجها وسياساتها الاقتصادية والتنموية التي جعلت البلد قاعاً صفصفاً جائعاً عطشاناً ملوثاً كئيباً. ترى ما الذي سيحدث لمحمد بن عبدالملك بن مروان لو عاد الى قرية "ريسون" في جبل عجلون التي كانت ضيعة مليئة بعيون الماء والبساتين والحيوانات والطيور، حتى انه رفض ولاية مصر لئلا يفارقها، فأرسل اليه اخوه الخليفة هشام ساخراً منه: أتترك لي مصراً لريسون حسرة؟ ستعلم يوماً اي بيعيك أربح فقال محمد انني لا أشك ان اربح البيع في ما صنعت. واما نهر الزرقاء الذي قال عنه ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، انه نهر عظيم، غزير الماء، تكثر حوله النباتات الملتفة واشجار القصب وتعيش حوله سباع كثيرة مذكورة بالضرواة" فانه اليوم وادٍ جاف لا يسيل منه سوى مخلفات المصانع الملوثة، وتكبّ فيه شبكات الصرف والمجاري لمدينتي عمان والزرقاء، وصار مصدراً للتلوث، ولا يصلح السد المقام عليه "سد الملك طلال" للري، وماتت الاسماك التي كانت تعيش فيه، وما بقي منها فهو ملوث لا يصلح للاستهلاك البشري، واتلفت البساتين والمتنزهات والمزارع التي كانت في حوضه البالغة مساحته اكثر من مليوني دونم! والاردن تسمية تعني بالآرامية الماء الكثير المنحدر، ولكن هذا الماء الكثير الذي يزيد على مليار ونصف المليار متر مكعب سنوياً تستولي عليه جميعه اسرائيل ولا يأخذ منه الاردن سوى اسم الماء، ويدفع فوق ستين مليون دولار لتحلية مياه بعض الينابيع المالحة التي تصبّ في النهر… هكذا هدية للجيران، وكرماً عربياً اصيلاً لا نريد من ورائه جزءاً ولا شكوراً. وعمانالمدينة العطشى البائسة يزور السياح في وسطها مبنى اثرياً قديماً أقيم قبل الميلاد بقرنين بجانب ما كان نهراً يجري في وسط عمان وحتى عهد قريب، واسمه سبيل الحوريات، حيث كانت تقيم آلهة الماء "اليونانية والرومانية" وحورياتها يسقين العالم والناس والدواب والزرع!! قال عنها المقدسي في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم": "تقع على سيف البادية، وتكثر حولها القرى، وحقول القمح، وجداول المياه التي تدير طواحينها، وهي رخيصة الأسعار تقول الدراسات اليوم انها من أغلى مدن العالم، وفاكهتها كثيرة، وتحيط بها الحقول من جميع الجهات، وتربتها خصيبة جداً". والى الجنوب الغربي من عمان مسافة ثلاثين كيلومتراً تقع مدينتا مادبا وماعين المعروفتان للسياح، والأولى بالآرامية كلمتان "ماء دبا" الماء والفاكهة، و"ماعين" هو إله الينابيع والماء عند الفينيقيين والآراميين. ومطار عمان الواقع في صحراء تبدو اليوم قاحلة تقع بجانبه بلدة "القسطل" التي تعني مركز توزيع المياه، وفي جواره أيضاً بركة زيزياء العظيمة التي بناها الرومان، وظلت على مدى آلاف السنين تسقي القوافل والناس، ولا زالت البركة حتى اليوم بناء جميلاً... لكنه مكب نفايات!!. وقال الفرزدق في وصف هذا المكان: سقى الله حياً بالموقر دراهم إلى قسطل البلقاء ذات المحارب سواري تنحي كل آخر ليلة وصوب غمام باكرات الجنائب وحول البحر الميت وفي الحوض الممتد حتى مدينة العقبة "وادي عربة المشهور بالاتفاقية" حيث لا يجد السائر في المكان الممتد مئات الكيلومترات سوى صحراء قاحلة وقرى صغيرة فقيرة محرومة، قال عنها الاصطخري في "المسالك والممالك": "وزغر إحدى بلدات الغور بجوار البحر الميت شهيرة بتجارتها وأسواقها العامة، وفيها نوع من التمر يدعى الأنقلا، وهو نوع لا شبيه له حتى في العراق وغيرها من البلدان، وذلك لحلاوة طعمه، وجمال منظره، وهو من النوع اللذيذ الفاخر، ويبلغ طول أربع حبات منه شبراً"، وتنتج اسرائيل اليوم في الجهة الغربية من هذا المكان أجود أنواع التمور في العالم وتصدرها الى أوروبا وأميركا. ما الذي يحدث في الأردن؟ حتى يثير شفقة الناس وحزنهم على عطش أهله وجوعهم؟ بذلت جهود مضنية وأنفقت أموال لطمس مئات الينابيع في عمان لتبنى مكانها عمائر وبيوت وتفتح طرق، ثمة مقاولون متخصصون بهذا الفن... يطمرون عيون الماء، بالحجارة والاسمنت المسلح، والزفت حتى يصبح المكان مناسباً للبناء... ويحدث في كل سنة في أمكنة كثيرة بعد فصل الشتاء أن تعود المياه مرة أخرى تسيل في وسط الطرق فتستنفر وزارة الأشغال آلياتها وتتحرك لدفن ينابيع الماء. في شرق الأردن حيث كانت الأنهار وأودية الماء حدوداً طبيعية للممالك: جلعاء تمتد من نهر اليرموك الى الزرقاء، وعمون الممتدة من نهر الزرقاء الى وادي حسبان، ومؤاب الممتدة من وادي الموجب الى وادي الحسا. وجاء بنو اسرائيل الذين كانوا حسب التوراة أكثر من مليونين، ولا بد أن السكان الأصليين كانوا قريباً من ذلك لأنهم دخلوا في حروب متكافئة مع الاسرائيليين وانتصروا عليهم في مؤاب، تضيق اليوم الجبال والسهول بأهلها وتعجز عن إطعامهم وسقايتهم ويستورد الأردن أكثر من 95 في المئة من غذائه، وحتى الأعلاف يستوردها من السعودية، والمضحك المبكي أن الأعلاف في السعودية تزرع وتنتج في أحواض مشتركة جغرافياً مع الأردن بل ان معظمها يقع في الأردن. والبحيرات التي كانت مصدر جذب في الصحراء للعمران والحضارة "كالجفر والأزرق" هي اليوم دون أن يزيد سكانها بل انهم يتناقصون، قيعان جافة لأنها استنزفت بآبار ارتوازية للماء تضخ لزراعة غير مجدية أو لسقاية المدن فيتسرب أكثر من 60 في المئة منها في شبكات المياه ويهدر الباقي في استخدام غير راشد. الأردن الذي يأتي في المرتبة الثالثة في العالم في التعليم الجامعي وفيه أكثر من عشرين جامعة ولا يجد عشرات آلاف الجامعيين فرصة عمل، ولا ينظر في طلب حامل الثانوية ليعمل حتى حارساً في دائرة أو شركة تسند فيه دائرة المطبوعات والنشر المكلفة بإدارة وتنسيق الثقافة والإعلام في البلد الى شاب لا يحمل سوى الثانوية العامة. ويكافأ الموظف المسؤول عن أزمة تلوث المياه قبل عشر سنين بتعيينه وزيراً للمياه، وتطاول اجراءات تخفيف الموظفين والميزانيات أكفأ الموظفين وأنجحهم وتبقي... * كاتب اردني.