وجه الأمين العام لجامعة الدول العربية، الدكتور عصمت عبدالمجيد رسائل الى عدد من الحكومات العربية يحثها فيها على الايفاء بالتزاماتها المالية السنوية وعلى تسديد المتأخر منها لئلا تواجه ازمة حادة ومستعصية. ولقد اضفى على هذا الطلب طابعاً عاجلاً في ضوء وضع مالي متعثر وراهن. الا ان الازمات المالية ليست شيئاً جديداً على الجامعة فهي تعيش باستمرار معضلة من هذا النوع يفاقمها التناقض بين التوقعات المحيطة بهذه المنظمة العربية، من جهة، وبين ضعف امكاناتها المادية من جهة ثانية. ذلك انها تعتبر، في نظر الكثيرين من العرب والاجانب على انها التجسيد الأول والأهم للوجود العربي الجماعي. وكثيرون لا ينظرون اليها كمرآة تعكس الواقع الراهن للعلاقات العربية ولكن يطالبونها بأن تكون وسيلة لتحقيق تطلعات وحدوية او تضامنية عربية متفائلة ومؤثرة، بالمقارنة مع هذه التوقعات والتطلعات، لم يوفر للجامعة العربية الا النزر اليسير من الامكانات المادية للقيام بالاعباء الموكلة اليها. فمنذ منتصف الثمانينات تقريباً لم تزد ميزانيتها السنوية عن 28 مليون دولار. وإذا قارنا بينها وبين الاتحاد الأوروبي، نجد ان كل فرنسي كان يدفع بين منتصف الثمانينات ومنتصف التسعينات حوالى 36 جنيه استرليني للسوق الأوروبية، والهولندي 96 جنيهاً، والألماني 135، بينما دفع العربي 0.03 في المئة من الجنيه سنوياً فقط للجامعة العربية. رغم ضآلة موازنة الجامعة السنوية فان عدداً من الدول الاعضاء لم يكن يفي بالتزاماته المالية تجاهها مما جعل مدخولها السنوي الحقيقي من مساهمات هذه الدول لا يزيد عن الخمسين او الستين في المئة من الموازنة السنوية المقررة لها خلال العقد المنصرم، وأدى ذلك الى تراكم مبلغ من المتأخرات المالية لدى الدول الاعضاء تجاوز المئتي مليون دولار. وتتحدد المشكلة راهنياً، اذ امسكت بعض الدول العربية ومنها موريتانيا وسلطنة عمانوالكويت وليبيا والمغرب عن تسديد كامل حصتها من المساهمات. هذا لا يعني ان هذه الدول هي المسؤولة عن الازمة المالية الدائمة التي تعاني منها الجامعة اذ ان المتخلفين عن تسديد جزء او كامل المساهمات يتغيرون باستمرار لكي تبقى الضائقة المالية على حالها وتتحول الى ظاهرة من الظواهر الملفتة للنظر والتي تثير الاسئلة والاستفسارات. فما هو السبب الذي يدفع بهذه الدول الى الامتناع عن تسديد حصتها كاملة او ناقصة من الموازنة السنوية الى الجامعة العربية؟ لماذا يمتنع بلدان عربيان مثل ليبيا والكويت بينهما وبين الجامعة صلات حميمة، عن دفع النصيب المقرر لهما من موازنتها السنوية؟ قد تكون لدى النخب الحاكمة في البلدين بعض التحفظات على ميثاق جامعة الدول العربية او حول ادائها وواقعها. الا ان البلدين وقعا على ميثاق الجامعة لدى انضمامهما اليها، وأعربا عن موافقتهما على اللوائح الداخلية التي تنتظم عمل الجامعة، ولم يقررا في اي وقت من الاوقات الانسحاب منها او تعليق عضويتهما فيها. وبين البلدين ربما كانت طرابلس الغرب هي الاقرب الى ابداء التحفظات الايديولوجية على الجامعة وعلى ما تمثله، باعتبار ان ليبيا تتبنى القومية العربية الراديكالية. ولقد نظر القوميون العرب الراديكاليون الى الجامعة، تاريخياً، بارتياب خوفاً من ان تكون بديلاً عن مشروع الوحدة العربية، او محاولة لاستبطائها. الا ان العقيد القذافي اعلن في السنوات الاخيرة، كما فعل خلال لقاء مع لفيف من الاكاديميين المصريين وقادة المنظمات الطلابية المصرية في ايار مايو 1996 عن دعمه للتعاون العربي ولمؤسساته وعن تأييده لمشاريع التكامل العربي مثل السوق العربية المشتركة كخطوات مهمة على طريق الوحدة العربية. فضلاً عن ذلك، فان عضوية اية دولة في الجامعة العربية لا تمنعها من الدعوة، خارج الجامعة او داخلها، الى مشروعات وحدوية عربية. ان ميثاق الجامعة سمح للدول العربية التي تريد تحقيق مثل هذا المشروع ان تقوم بذلك ولم يعتبر ان هذا العمل يتضارب مع وجود الجامعة او عملها. ولقد دخلت ليبيا، بالفعل، عدداً من هذه المشاريع من دون ان يؤثر ذلك على عضويتها في الجامعة. فضلاً عن ذلك فان ليبيا تطرح على مجلس الجامعة فكرة اقامة اتحاد عربي يضم الجميع، مما يعني قبولها بالجامعة كاطار لمتابعة الافكار والنظريات التي تتبناها وليس العكس. علاوة على هذا وذاك فان البلدين، ليبيا والكويت، جددا تأييدهما للجامعة في حزيران يونيو من العام نفسه عندما وافقا، من دون أي تحفظ، على البيان الختامي للقمة العربية الذي اكد فيه القادة العرب عزمهم على "تعزيز مكانة الجامعة وتفعيل دورها... والالتزام بميثاقها وقراراتها" وعلى "ضرورة الوفاء بالالتزامات المالية تجاهها". وقد يلجأ بلد الى الامتناع عن الايفاء بالتزاماته تجاه منظمة اقليمية تضمه اذا تصرفت هذه المنظمة على نحو يضر إضراراً كبيراً ومزمناً بمصالحه الوطنية. الا ان هذا الواقع لا ينطبق على العلاقة بين كل من الكويت وليبيا من جهة، وجامعة الدول العربية، من جهة اخرى. فالجامعة لعبت دوراً مهماً، كما يظهر كتاب "صفحات من المذكرات السرية لأول أمين عام للجامعة العربية: عبدالرحيم عزام"، في منع تقسيم ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية وفي حصولها على الاستقلال. ومما وطد هذا الدور وعمقه التاريخ الشخصي لعزام الذي شارك في كفاح الليبيين المسلح ضد الاستعمار الايطالي. ولم يقتصر تجاوب الجامعة مع المصالح الوطنية الليبية على مرحلة تاريخية محددة، وانما لا يزال ساري المفعول حتى هذا التاريخ. فالجامعة بذلت ولا تزال تبذل مجهوداً استثنائياً ومتصلاً من اجل ايجاد حل لقضية لوكربي ولرفع العقوبات المفروضة على ليبيا بحيث باتت هذه القضية تشكل محوراً رئيسياً من محاور نشاط الامانة العامة للجامعة. هذا ما اكده جدول اعمال مجلس الجامعة الاخير المنعقد في القاهرة في منتصف شهر ايلول سبتمبر الحالي اذ شدد على قضية لوكربي. اما الكويت فقد تدخلت الجامعة العربية مرتين، في عامي 1961 و1990 لصالحها ضد العراق، مع ان بغداد هي التي اطلقت فكرة الجامعة عام 1943. قد تكون الاسباب المالية، لا السياسية او المبدئية، هي المانع الذي يحول دون ايفاء بلد بالتزاماته تجاه المنظمات الاقليمية او الدولية، فهل يشكو البلدان من ضائقة مالية تمنعهما من دفع حصتهما من موازنة الجامعة السنوية؟ لا ريب ان انخفاض مداخيل النفط اثر على الاوضاع الاقتصادية في البلدين، فضلاً عن ذلك فان العقوبات المفروضة على ليبيا ساهمت في اضعاف اقتصادها بينما تأثر الاقتصاد الكويتي تأثراً كبيراً بتداعيات حرب الخليج، الا انه من الصعب الربط بين هذه المعطيات وبين المساهمة في موازنة الجامعة، ذلك انه رغم المصاعب الاقتصادية والسياسية التي يعانيها البلدان، فهما لا يزالان من اغنى دول المجموعة العربية. فالايرادات العامة في ليبيا لعام 1995 بلغت 10.710 بليون دولار، اما الكويت فبلغت ايراداتها العامة في نفس العام 10.389 بليون دولار. وحصة البلدين في موازنة الجامعة العربية قد تكون كبيرة بالمقارنة مع الدول العربية الاخرى حيث انها تفوق العشرة في المئة من مجموع الموازنة بينما تتدنى حصص بعض الدول الاعضاء بحيث لا تزيد عن الواحد في المئة. الا ان المساهمة السنوية المطلوبة من كل من البلدين لا تزيد عن الأربعة ملايين دولار 3.869.000 دولار، الكويت، و2.360.000 دولار ليبيا وهو مبلغ ليس كبيراً اذا ما قيس ببعض الاعتبارات التي روعيت اثناء تحديد سلم المساهمات المالية للدول الاعضاء مثل عدد المواطنين وحجم الدخل القومي ومتوسط دخل الفرد. والأهم من ذلك انه مبلغ معقول اذا ما قورن بحجم الاهمية التي تمثلها الجامعة العربية الى كل من البلدين. ان الازمة المالية المحدقة بالجامعة ليست ناشئة عن تخلف الكويت او ليبيا عن سداد كامل حصتها من الموازنة السنوية لما وصف بپ"بيت العرب". فهناك، كما اشرنا اعلاه، دول اخرى تقف الموقف نفسه الآن، وهناك دول اخرى سلكت الطريق نفسه في الماضي عندما اعفت نفسها من الايفاء بالتزاماتها تجاه الجامعة، الا ان الازمة المالية التي تعاني منها الجامعة هي في حقيقتها ازمة سياسية وفكرية عربية عامة، وجذورها الحقيقية لا تكمن في صعوبات يعاني منها بلد عربي او اكثر. جذورها الحقيقية تكمن في النظرة الى نظرة العرب الى انفسهم، فهل يشعرون بأنهم ينتمون فعلاً الى امة واحدة ام لا؟ وهل يشعرون بأن قيام تكتل عربي حقيقي ومتماسك يخدم مصالح ابناء هذه الأمة ام لا؟ وهل يشعرون ان دفع المال الى المؤسسات الاقليمة العربية، وعلى رأسها الجامعة العربية، هو ضريبة يدفعونها مضطرين ومحرجين، ام انه استثمار ذكي وواعي في المستقبل وفي خلق الظروف المناسبة لتعزيز الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية كما اشار بيان قمة عام 1996؟ اذا كان الجواب بالايجاب لما عادت هناك ضرورة الى بحث وسيلة انقاذ الجامعة من الازمات المالية، بل لتحول الى بحث في طرق انهاضها من وضعها الراهن عبر رفع ميزانيتها الى اضعاف رقمه الحالي، وامدادها بالمزيد من الخبرات البشرية، وتعزيز وتوسيع صلاحياتها، وترجمة مقرراتها الى واقع حي يلمسه المواطنون العرب، وتوطيد مصداقيتها الاقليمية والدولية. * كاتب وباحث لبناني.