سعدت بمداخلة كرم الحلو "الحياة" 2 أيلول/ سبتمبر 9819 رداً على مقال سابق لي "الحياة" 25 تموز/ يوليو 9819، وقد تجمعت لديّ عدة أسباب لهذه السعادة، فعدا أنه يعطيني فرصة التحاور مع أخ عربي، والنقاش عادة ينبثق منه النور، فإنه يتيح لي أيضاً إيضاح ما غمض من مقالي الذي تعرض لكثير من النقد، من بعض الأصدقاء، والكثير من الشطب والحذف من قبل محرر الصفحة، ولشكر الأستاذ الحلو سبب آخر: سعادتي أنني قرأت تعقيبه وأنا أحاول الإنتهاء من مقال آخر لپ"الحياة"، وكلي توجس من عصف يد المحرر ببعض كلماتي، وها هي مداخلة الحلو تعطي توجسي ذاك ما يبرره. سعادتي بمداخلة الحلو، لم تمنع إندهاشي من تهمه الكثيرة التي راح يقذفها يمنة ويسرة وإعتسافه بعض قولي وإخراجه من سياقه. سأعفي نفسي من رد التهم، رغبة في إبقاء النقاش داخل نقاطه الرئيسية وضمن أطره الموضوعية. أسارع بداية الى القول إنني واجد بعض العذر للأستاذ الحلو في عدم قراءة ما لم ينشر، إلا أن ما تم نشره، والحق يقال، يمكن أن يجيب على كثير من تساؤلات المعقب الكريم التي ركزت على نقطة واحدة أو إثنتين، وتكاد تكون الثانية هامشية. طالبني بداية أن أحدد مفهومي للثقافة والمثقفين، أتفق معه تماماً بضرورة التحديد ومنذ البداية للمفاهيم المستخدمة في أي مقال، عذري أني قد فعلت، ولكن تم حذف ما كتبت، حسن اعتقاد من المحرر أن تعريف الثقافة والمثقف يعتبر من المسلمات، أو ربما بحكم أن مقالي كان مركزاً على الدور الأخلاقي للمثقف. على رغم ذلك، سألخص هنا في سطور ما قلته في صفحتين مطبوعتين قيل لي إنها كانت مقدمة طويلة لا طائل منها. تحدثت، كمدخل لفكرة المقال، عن "الوعاء الثقافي لهذا المجتمع أو ذاك، هذا الوطن أو ذاك، ما يمور داخله من تفاعلات، وما يصطرع فيه من آمال وأهواء، تمثل كل فئاته ونخبه ومؤسساته ونظمه وأفراده"، ثم تحدثت عن تأثير كل ذلك على شخصية المجتمع وهويته الثقافية، ثم حددت قصدي بمفهوم المثقفين: "من هنا جاء تطلع الكثيرين نحو النخب الثقافية كقادة رأي وموجهي فكر وراعي قيم داخل هذا الوعاء الثقافي المجتمعي"، وهي، كما يرى الأستاذ الحلو مترادفات لمفردات مقاله "حراس هوية... رسل حضارة" وهذا اختلاف لفظي يحتمه إختلاف المشارب. كلمتان أخريان تم شطبهما، ربما لو قرأهما الأستاذ الحلو ضمن سياقهما لأغنتاه عناء كتابة التعقيب، وربما أغنتني أنا أيضاً سوء فهم ما أكتب. مضيت أكثر في تحديد من أقصد بالمثقفين فقلت: "فكان أن ضعفت الصلة ثم فقدت الثقة بين المواطن العادي ومثقفيه الإنتهازيين"، الكلمة الأخيرة إختفت من المقال، تُرى لو نشرت هل يزول لبس السيد الحلو، إذ ما أظنه سيدافع عن الإنتهازيين الذين إبتليت بهم كل المجتمعات العربية. الكلمة الأخرى، على هامشيتها، كان نشرها سيدفع عني بعض تهم أو تساؤلات الأستاذ الحلو، وهي كلمة "وكتابهم" عندما تحدثت عن المثقفين العرب، ثم قبل وبعد ذلك حدث حذف كثير، لا مجال هنا لذكره. وإذا كنت وجدت العذر للمعقب الكريم لعدم قراءة ما تم حذفه من المقال، إلا أنني أعود وأقول أن ما تم نشره يكفي لتحديد من أقصد بالمثقفين، فقد ذكرت أنهم "الذين شككونا في شخصيتنا ومسخوا هويتنا"، وما أظن الأستاذ الكريم يصادر رأيي الشخصي في الطروحات الشرق أوسطية الرافضة للهوية العربية ودعاوى المصلحة القطرية والدولة الوطنية مقابل المصلحة القومية والدولة الأمة Nation State، هذا عن التسعينات، فإن أراد مثالاً آخر عن الستينات والسبعينات، فماذا عن الإنقلابات العسكرية والفكرية التي، والأخيرة تحديداً، كانت تتم سواء على مستوى الدولة أم الحزب أم الفرد. ثم أزعم أنني كنت أكثر تحديداً عندما ذكرت المعيار الذي نفرق به بين المثقف المناضل والمثقف الإنتهازي، وهو موقف كل منهما من "التفكير الواقعي الذي يساوم على مقدرات الأمة والمقايض لهويتها والمراهن على كينونتها والمضحي بمصالحها، وذلك التفكير الذي يوازن بين القدرات والموارد، ويوائم جهده بين جملة الظروف الموضوعية لدول الأمة كل على حدة، والظرف العام للأمة ككل"، هل يفهم أحد من هذا أن نظرتي كانت تعميمية شمولية، ألا يعني هذا التفريق أن هناك طرفين على الأقل، بل إن سؤالي عن كنه ودور المثقفين كان أكثر من واضح عندما تساءلت: "هل هي طبقة تعمل لحماية مصالح خاصة بها... أم تراها طليعة تقود الرأي وتشكل الوعي وتنير الطريق وتحمي المصلحة العامة"، ومع كل هذا يمطرنا الأستاذ الحلو بعمود كامل من مقاله بحديث عن المثقف القومي والماركسي والأصولي والتراثي، الى آخر القائمة، فأقول له وبكل بساطة إن من أعنيه قد يشملهم جميعاً، ومعيار التفريق، مرة أخرى، هو مدى إلتزامهم قضايا أمتهم وتطلعاتها وآمالها، ومدى حرصهم على مصالحها العامة. ولا أظن أنني وضعت جميع المثقفين في سلة واحدة، فعدا عن ذكر عبارة "إلا من رحم ربي" عند بداية حديثي عن المثقفين، فإن معظم مقالي كان منصباً على هؤلاء الخارجين عن الخط العربي والرافضين للهوية العربية والشخصية القومية. ودهشتي من تعقيب الأستاذ الحلو يبررها مر سؤالي عن كيف يغضب مثقف عربي من كاتب حاول أن يكشف الذين "يدارون هزيمة نفسية إستشرت ترسباتها في ذواتهم فصاغت ما ينشرون وما يفرزون". هل يعقل أن يشمل هذا الوصف كل المثقفين العرب؟ هل يعقل أن تعني هذه العبارة أن كل المثقفين العرب كانوا إنهزاميين؟ كيف يدافع الأستاذ الحلو عن طروحات حددتها أنا في مقالي بأنها "حولت إسرائيل من شوكة في القلب الى شوكة في العقل"، فإن كانت "الدولة التسلطية العربية"، وهو المفهوم الذي استخدمه الأستاذ الحلو، سبباً في شوكة القلب، فماذا عن شوكة العقل! من الذي يطرحها أو بالأحرى يغرسها؟ أليسوا هؤلاء الإنتهازيون؟ فما بال الحلو يدافع عنهم وكأنه واحد منهم. ثم حاول الأستاذ الحلو أن يضع في فمي كلاماً لم أقله عند حديثه، أو ترجيحه من أقصد بالمثقفين بأنهم الأكاديميون، ثم انهال على الأكاديميين بتهم البروج العاجية والفشل "في التواصل مع أمتهم ومجتمعاتهم، كما فشلوا في إنتاج أبحاث أكاديمية تسهم في تقدم العرب وارتقائهم". يا للهول، على حد قول عميد المسرح العربي، حمدت الله أنه لم يمض الى إتهام الأكاديميين بالتسبب في ثقب الأوزون أو وجود إسرائيل، ورغبة في عدم تفريغ الحوار عن نقاطه الأساسية، فإنني سأقفز الى القول أنني لم أقصد الأكاديميين، فالأكاديميون فئة من الفئات التي تشكل الوعاء الثقافي لأية أمة. وإذا أذن لي الأخ الحلو أن أختلف معه في هذه الجزئية من حواره أيضاً، وأن أطلب منه، بدوري، ألا يطلق أحكاماً شمولية تعميمية. وما أظن الحلو إلا وقد زار أو سمع بجامعة عربية، وما أظنه إلا قرأ عن البحوث الجادة المرصوصة على أرفف مكتباتها. صحيح أن بعضها غث، غير أن هناك الكثير المستنير المفيد سواء في الجانب النظري أو التطبيقي، وكلها تنتظر التنفيذ والإخراج من غياهب السجن، وطبقات الغبار. ومساهمة الأكاديميين موجودة أيضاً في المستويات الرسمية، فكثير من الحكومات العربية تعتبر حكومات تكنوقراطية، ومعظم أفرادها جاؤوا من الحرم الجامعي، كذلك تجد مناشط لهم في القطاع الخاص تقدير هذه المساهمات وتثمينها يأتي ضمن سياق أكبر يحوي فئات الوعاء الثقافي الذي يمثل كل المجتمع سلباً أو إيجاباً كما ورد في مقالي. بقي من تعقيب الأستاذ الحلو ثلاث نقاط رقمها هو ب "أ"، "ب"، "ج" وأظنها تكرار لما جاء في ديباجة مقاله، لفت نظري منها الفقرة "ب"، أما "أ" فقد لاحظت تناقضه بين بدايتها ونهايتها، فهو يثبت ضآلة ومحدودية إنتشار الثقافة ب "كل" مظاهرها صحافة - كتب - مجلات، ثم يعود فيتحدث عن عشرات مراكز الأبحاث العربية وأظن بعضها يقبل بمساهمة الأكاديميين ومئات بل آلاف المثقفين العرب الذين ينيرون كل يوم بشجاعة عبر مؤلفاتهم أو في الصحف والدوريات العربية. بالنسبة للفقرة "ج"، مرة أخرى، يدهشني تحرق الأستاذ الحلو لمعرفة من أقصد بالمثقفين، وعلى رغم كل ما تم نشره من تحديد، يعود فيظن أنني أقصد مثقفي الستينات والسبعينات، مع أني قلت في فقرة تالية وبالحرف "وكما ولد وخلف مناضلو العرب في الخمسينات والستينات أبناء ونظراء لهم في التسعينات"، ثم مضت العبارة تحدد المقصود أكثر وأكثر. لن أتساءل عن خلفيات تعقيب الأستاذ الحلو ، كما فعل هو، ولكني فقط أسأل كيف يعتسف القول ويقصره على فترة محددة دافع عنها بإستماتة لم يكن بحاجة اليها، فقد قلت وبالحرف أيضاً "استثمر كثير لم أقل كل من مثقفينا حالة نقد الذات التي سادت بعد النكبة واستمرأ كثير منهم مرة أخرى كثير لا تعني التعميم حالة جلد الذات بعد النكسة، فطورها أكثرهم أكرر أكثرهم الى حالة إنسلاخ من لحمة الأمة وجلدها، فكانوا جميعاً أي جميع من ذكر في هذه الفقرة ثعابين تغير جلدها كل عام مرة وتعوث نشرت وتموت في غابة وجداننا العربي كل حين"، هل تنتقدني يا أخي في توجيه اللوم الى كل من ساهم في جلدنا ونقدنا بدون إستخدام بعد موضوعي أو إستراتيجي أو قومي؟ هل تلومني في من يغير جلده كل عام مرة، وهويته كل عام مرتين، ومعتقده كل عام ثلاث. الفقرة "ب"، المقصودة!، سأجمل تعليقي عليها في ثلاث نقاط قد لا تستحق الترقيم: بداية لم أقصد بحديثي تغطية عجز "الدولة التسلطية العربية"، فهذه بديهة معروفة في ظل غياب الديموقراطية الحقة، وأربأ بالأستاذ الحلو هنا أن يكون مزايداً، وأزيده من الشعر بيتاً بأن رضوخ دولته التسلطية العربية لمفهوم سيطرة القطب الواحد وتلهف كثير من مثقفيها للإنغماس في "الحلم الأميركي"، كان له الدور الأكبر في تردي الثقافة العربية، والمثقفون المستوزرون مثلاً، الذين شملهم حديثي يعني بالحتم أنهم كانوا أعضاء حكومات. ضمّن الأستاذ الحلو فقرته هذه بإشارة هامشية للإرهاب، ثم قرنه بالأصولية الإسلام بالطبع، بيد أن الإرهاب لا يرتبط بالدين فقط، أو بدين بذاته، إلا إذا أراد الأستاذ الحلو نفي الإرهاب اليهودي في فلسطين، والإرهاب المسيحي في البوسنة والهرسك وكوسوفا. ولو محص الأستاذ الحلو معاني بعض المصطلحات الغربية التي يستخدمها لكان أفضل، فكلمة "اصولية" مثلاً، نشأت مترابطة بالتطرف المسيحي مع بدايات نهوض أوروبا، ثم جميعنا يعلم أن هناك إرهاباً سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً وفئوياً إن أردت، رسمياً وغير رسمي، منظماً وغير منظم. آخر فقرات تعقيب الأستاذ الحلو أحملها حماسه المتقد أو المندفع إن أردنا الحق، هذه الفقرة تُفصّل عنوان مقاله "هل الحل في دعوة المثقفين للإنتحار؟" وقبل أن أنتهى إلى تبرير عنوان مقالي هذا، أود أن أهمس في أذن الصديق الحلو، لم يا سيدي تضيق واسعاً؟ لماذا هذا الإختيار الصارم بين اللونين الأسود والأبيض، على حد قول حكيم العرب المعاصر عادل إمام؟ ألوان الطيف يا سيدي سبعة، وزوايا الرؤيا على الدائرة متسعة، أما إذا أصررت أو ألححت على سؤالك "هل ينتحرون؟"، فأجيبك نعم ليتهم إنتحروا، وإذا أردت، مرة أخرى أن تعرف من أقصد بالتحديد، أرجوك أن تعيد قراءة مقالي بروية، علك تخرج منه برؤية أخرى. * كاتب سعودي.