الحاجة ام الاختراع. وحاجة السعوديين الى الماء دفعت الى إعادة اختراع الزراعة. تأمين الماء هو الهدف الاستراتيجي الذي يتابعه علماء سعوديون طوروا تقنيات جديدة لاستخدام مياه البحر المالحة في زراعة السواحل الصحرواية. كميات المياه التي توفرها مزرعة راس الزور في منطقة الجبيل في موسم زراعي واحد كافية لسد حاجات مدينة كبيرة مثل جدة لعشر سنوات. وتنتج التقنية الجديدة نباتات "الساليكورنيا" الصالحة لاطعام البشر وصناعة الأعلاف والزيوت والأخشاب والورق. تعرض ذلك ندوة الزراعة الملحية التي تعقد الاسبوع المقبل في معرض "إكسبو 98" في برشلونه عاصمة البرتغال. وستعرض الندوة كيف سجل السعوديون سبقاً على الأميركيين في انتاج المزارع الملحية. منتوج زراعي جديد لمستقبل جديد. هذا ما ستكشف عنه ندوة "إكسبو 98". فالبحار والمحيطات تضم 97 في المئة من مياه الكرة الأرضية، وتشكل الصحارى 43 في المئة من سطح اليابسة. الزراعة الملحية تستثمر هذا الجزء العظيم الضائع من خيرات الأرض. وتطرح "الساليكورنيا" رؤية جديدة للمستقبل تلعب فيه النبتة دوراً مماثلاً لحبوب الطعام التاريخية كالحنطة والشعير، التي يقال أنها أسست الحضارة البشرية. هذه الرؤية حاضرة في خطط السعوديين لاقامة مجمعات زراعية سياحية على امتداد السواحل الصحراوية. ذكر ذلك الدكتور عادل أحمد بشناق، رئيس مجلس إدارة "بحار"، وهو الاسم المختصر لپ"الشركة العربية لتقنية المياه المالحة"، التي أسست مزرعة راس الزور. وقال الدكتور بشناق في حديث هاتفي لپ"الحياة" من مركز الشركة في جده أن النشاط الاقتصادي للمزارع الملحية يشمل أيضاَ تربية الروبيان وانتاج المواد الغذائية والصناعية، أضافة الى تخضير الصحراء. تقع مزرعة راس الزور في أراضي رملية شمال مدينة الجبيل الصناعية، حيث بدأت أولى التجارب في زراعة الساليكورنيا. وعلى رغم عمرها القصير تصلح تجربة راس الزور موضوعاً للأبحاث الأكاديمية. فهي تجربة عالمية رائدة في تطوير تقنيات الزراعة الملحية، وتجربة عربية رائدة في تعاون الأعمال والعلوم والجامعة. وفيها دخل القطاع الخاص ميدان الأبحاث والتطوير وتعاونت شركات الأعمال مع الجامعات ومراكز البحوث. ومع أن تطوير نبتة "ساليكورنيا" شرع به العلماء الأميركيون في السبعينات فإن تحويلها الى منتوج زراعي بدأ في شركة "بحار"، التي تأسست عام 1993. فهذه الشركة السعودية مئة في المئة عملت على تحويل تجارب مختبرية محدودة الى مزارع حقيقية تدر محاصيل وموارد مالية. وتطورت "بحار" نفسها من شركة تجارية الى مركز للبحوث والتطوير التقني. وأمكن لأول مرة في العالم العربي الاعتماد على الخبرات المحلية لإنشاء شركة للانتاج الزراعي رائدة على الصعيد العالمي. تشير الى ذلك مقارنة معدلات الانتاج التي حققها السعوديون والنتائج التي عرضها الأميركيون الشهر الماضي في المجلة العلمية "ساينتفيك أميركان". فقد بلغ معدل انتاج مزرعة راس الزور من العلف الحيواني 2.8 طن للهكتار مقابل طنين للأميركيين. وهذا ليس كل شيء. ففي مزرعة راس الزور تأسست تقاليد جديدة لرأس المال العربي المعتاد على الربح المباشر السريع. وهذه هي المرة الاولى التي يقوم فيها رأس المال العربي الخاص بتطوير منتج زراعي جديد. أول امتحان عسير لرأس المال الخاص كان في اكتشاف أن حسابات الحقل التجريبي لا تتطابق مع حسابات المزرعة الحقيقية. فالأميركيون الذين باعوا التقنية أجروا تجاربهم في حقل مساحته 16 متراً مربعاً، لكن المساحة المنزرعة في راس الزور تبلغ نصف مليون متر مربع. هنا كان ينبغي على السعوديين اعادة اختراع الزراعة، حسب تعبير الدكتور علي محمود مقبول مدير عام "بحار". وذكر الدكتور مقبول في حديث هاتفي لپ"الحياة" من مزرعة راس الزور في الجبيل أن الأبحاث التطبيقية خلال الثلاث السنوات الماضية توصلت الى تحديد الاحتياجات المائية والغذائية للنباتات الملحية، وعينت جداول ومواعيد وكثافة زراعتها حصادها، وشخصت مراحل نموها، وطوّرت سلالات البذور المحسنة للنبتة. تتم عملية الري في مزرعة راس الزور بواسطة مضخات تسحب المياه من الخليج مباشرة. وتعتبر التربة الرملية أكثر ملائمة لزراعة المحاصيل المقاومة للملوحة. فالمياه تتسرب خلال التربة الرملية بسرعة ولا تبقى عند مستوى جذور النبات، ويمكن غسل الأملاح التي تتركز في التربة خلال ريها وقد يحدث ذلك تلقائياً أثناء موسم الأمطار. مقابل هذه السهولة في الحصول على الماء كان ينبغي تطوير طرق جديدة للري. فالمياه الملحية تتلف المضخات والأنابيب وعملت "بحار" مع الشركة السعودية للصناعات الأساسية "سابك" في تطوير أنابيب مقاومة للأملاح. لكن هذا لا يحل كل المشكلة فالري الرشاش يقضي على اللقاح النبتة ويحول دون عملية الاخصاب. ونبتة جديدة تعني أمراضاً وطفيليات وآفات ينبغي تطوير طرق جديدة للوقاية منها. قصة حل هذه المشاكل تماثل أفلام الخيال حيث كان على السعوديين العثور على طفيليات المكافحة وجلبها من مصر ونشرها في راس الزور ومتابعة عملية تأقلمها مع البيئة الجديدة. استئناس النباتات البرية أشدّ صعوبة من تدجين الحيوانات الوحشية. ويحق للعلماءالفخر بهذا الانجاز الذي جعل راس الزور من المزارع النادرة التي تستخدم طرق الوقاية الطبيعية من الآفات. ويشمل الجهد البحثي الرصد الاسبوعي للحشرات والهوام في المنطقة. وكم من العمل الشاق يبذله العلماء السعوديون للتوصل الى سماد مناسب للزراعة الملحية. فالأسمدة المتداولة تتعامل مع الزراعة بالمياه العذبة وتمارس مفعولها في تربة غير رملية تضم طفيليات مختلفة. وواجه السعوديون مهمة ابتكار آلات حصاد لنبتة الساليكورنيا من نوع جديد لا وجود له في العالم. الشركات الألمانية المختصة بآلات الحصاد طلبت مليون دولار وعشر سنوات لتطويرها، وتوكل السعوديون على الله وطوروا بأنفسهم آلة حصاد جديدة قادرة على جمع بذور نبتة ما عرفت في تاريخها غير نثر البذور للرياح. حل كل معضلة من هذه المعضلات يحتاج الى موسم زراعي واحد على الأقل. ويمكن تصور حجم انجاز راس الزور من معرفة أن عشرات المعاهد ومراكز البحوث ومئات العلماء وآلاف الدراسات تصدر سنوياً عن حبوب الحنطة التي جرى تدجينها قبل أكثر من 10 الاف عام! في رأس الزور ظهر أن أثمن رأسمال للسعوديين هم السعوديون أنفسهم. فمن المستحيل اعادة اختراع الزراعة من دون جهود المهندسين والعلماء والباحثين من "الهيئة الملكية في الجبيل" و"مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية" وشركة الصناعات السعودية "سابك" وجامعات سعود وفيصل وعبدالعزيز وغيرها من الجامعات السعودية. ويضم مجلس إدارة شركة "بحار" نفسها علماء جامعيين مرموقين، مثل عادل بشناق وعلي مقبول. والدكتور بشناق خريج جامعة بيركلي في كاليفورنيا بالهندسة المدنية، وحاصل على الدكتوراه من جامعة مشيغان. وتولى بشناق التدريس في كلية الهندسة في جامعة الملك سعود في الرياض للفترة ما بين 1972 و1984 قبل أن ينصرف الى عالم الأعمال. وتركزت معظم المشاريع التي أسسها أو ساهم فيها داخل وخارج السعودية على المياه، ومنها "شركة الكوثر لمعالجة المياه" ومؤسسة النباتات الملحية "هاليفايت إنتربرايز" وصناعة الأغشية المائية. كما انتخب رئيساً للاتحاد الدولي للتحلية خلال سنوات 1987 و1989 و"جميعة علوم وتقنية المياه" في الخليج. ويرأس بشناق "دار التقنية" وهي مؤسسة استشارية علمية تعاونية تهدف الى نشر المعارف والمهارات التقنية وتعمل كحلقة وصل بين الشركات والمؤسسات الصناعية ومراكز البحوث والتدريب المحلية والعالمية. وتنظم "دار التقنية" سلسلة دورات وورشات عمل، يخصص معظمها لإدارة وتشغيل محطات تحلية المياه. والدكتور علي مقبول، مدير عام "بحار"، استاذ يرأس قسم وقاية النباتات في جامعة الملك فيصل في الأحساء، التي وافقت على إعارته للعمل في المشروع. ويمثل الدكتور مقبول نمطاً جديداً من العلماء الذين يجمعون بين اختصاصات مختلفة. فهو حاصل من جامعة كاليفورنيا في ديفيز على الماجستير في أمراض النباتات الفيروسية، والدكتوراه في محاكات النظم الزراعية على الكومبيوتر. ويطلق اسم "علم الأحياء الرياضياتي" على اختصاص العالم السعودي الذي يقول مازحاً أنه يزرع بالكومبيوتر. فهو يحول عمليات الزراعة الى حسابات ومعادلات، ويوجد صيغ رياضية لمواصفات البذرة والتربة التي تغذيها والماء الذي تروى به والسماد والتمثيل الضوئي والرطوبة والظروف الجوية والأشعة الشمسية وحتى الطفيليات الضارة والنافعة والسماد ومساحة الزراعة. جمع هذه المعلومات وتصميم برنامج كومبيوتري لها قد يستغرق أسابيع وشهور، لكنها يمكن أن تقدم لك خلال دقيقة جميع المعلومات المطلوبة عن محصول البذرة التي تنوي زراعتها