بعد أقل من عام من اليوم، في الخامس عشر من تموز يوليو 1999، ستحل الذكرى التسعمائة لسقوط القدس بأيدي الصليبيين بعد حصار طويل وقاس لتبدأ غربتها القسرية التي دامت نحو تسعين سنة قبل عودتها المبدئية الى أصحابها على يد صلاح الدين الأيوبي في عام 1187، ثم تناوب الصليبيين والمسلمين عليها لمدة نصف قرن آخر قبل عودتها النهائية عام 1244. فكيف سيتذكرها العرب؟ لا أقصد من سؤالي هذا إطلاق الخطب الحماسية والنارية. فلهذا الميدان كماته المبرزون وخطباؤه المفوهون الذين لن يعدموا وسيلة لقرع نذير الجهاد والدعوة الى تحرير القدس التي فقدناها مجدداً، كما زالوا يفعلون، بنجاح بدأ يفقد بريقه وجدته، منذ كفت القدس عن أن تكون مدينتنا لتصبح قضيتنا في منتصف القرن الحالي. وإنما أقصد أن أطرح للنقاش مسألة الذكرى والتذكير نفسها، ماذا تعني لنا نحن العرب المعاصرين؟ وماذا يمكنها أن تعني لو أننا فعلاً أردناها أن تكون أكثر من دمعة حزن أو زفرة حرقة أو صرخة مكتومة أو ركون الى يقين بليد بحقنا فيها مهما طال الزمان أولم تعد الينا منذ تسعة قرون بعد طول بعاد؟. ما أود أن أطرحه هو في آن واحد دعوة لنا لتذكر قصة سقوط القدس نفسها وقصة عودتها، وربما كل تاريخ القدس الذي نسينا أو تناسينا منه الكثير، ودعوة للتفكر في معنى الذكرى والذاكرة باعتبارهما مفهومين وجوديين فعالين في تشكيل هوية الشعوب وتواصل هذه الشعوب بغيرها من الشعوب التي تملك ذاكرتها الجمعية الخاصة التي ربما توافقت أو اختلفت معها أو ربما جهلتها جهلاً تاماً. فذاكرة الشعوب هي أقوى عوامل تشكل هويتها: كل ما يسقط منها يغيب عن وعيها بنفسها لكي يصبح تاريخاً بعيداً، محايداً، ومكتوباً للقلة الدارسة في أحسن الأحوال أو نسياً منسياً في الغالب والأعم. والشعوب الحية هي تلك التي تحافظ على ذاكرتها الجمعية عبر الزمن وتلقنها لأفرادها بمختلف الوسائل، ليس فقط كأدوات تبجح وخيلاء بماض زاه ومجد بعيد أو كبدائل ملفّقة لواقع لا يمت لأهله بصلة، وإنما كجذور فاعلة في تكوينهم الفردي والجمعي وكمعطيات وجودية في مساراتهم الآنية والمستقبلية تلم شملهم وتمنحهم الشعور بالانتماء والتفاعل مع بعضهم البعض ومع العالم الأشمل حولهم. وذاكرة الشعوب تنشط في المراحل الحرجة من تاريخها عندما تكون هويتها مهددة في أحقيتها بانتماءاتها الزمانية أو المكانية، كما هي حال فلسطين بشكل جدي منذ ابتلعتها القومية اليهودية أي الصهيونية الناشطة والمخطِطة في منتصف القرن. في أزمنة كهذه، تصبح الذاكرة الجماعية هي البؤرة التي تتجمع فيها كل تلك التعبيرات الصغيرة عن تلك الهوية وعن أبعادها التاريخية والثقافية الحضارية، كالأغاني والرقصات والقصص والملاحم والأزياء والأكلات الشعبية وما شابهها، ربما لتعوض الناس عن التهديد الحقيقي الذي يواجهونه في وطنهم وفي انتمائهم له أو لتشحن قدرتهم على مواجهة التحدي والمحافظة على الإحساس بالذات. ولكن الذاكرة الجماعية كالهوية القومية: ليست حقاً طبيعياً ولا إرثاً أزلياً متكامل الأبعاد والمضامين في كل لحظة ومنفصل عن واقع أصحابه من الشعوب. بل هي، كالهوية القومية أيضاً، معطى تاريخياً واجتماعياً ديناميكياً، وبالتالي فهي مرتبطة بشروط تاريخية وعلائقية مع شعبها، تتحرر وتستقر بتحرر شعبها واستقراره، وتتقوقع وتتخلف بتقوقعه وتخلف. بمعنى آخر: الذاكرة الجماعية، مثلها مثل أي عامل اجتماعي آخر، بعضها موجود خارج الإرادة الإنسانية، وبعضها موضوع، أي خاضع للإرادة والتخطيط الإنسانيين. وهي في ذلك كبذرة النبات، فيها حياتها ولكنها لا تنمو وحيدة، بل أنها تذوي وتموت إذا أهملت، وتينع وتثمر إذا تعهدها شعبها بالعناية والاهتمام. سأحاول هنا أن أقترح برنامجاً مختلفاً لإحياء ذكرى غربة القدس بأيدي الصليبيين، برنامجاً لا يروم الانتقام ودق طبول الحرب، ولكنه يسعى لتعميق موقع القدس في وعينا القومي وربط ذكرى سقوطها وتحريرها من الصليبيين بالأرض الفلسطينية لكي تلعب الذاكرة دورها الأهم بربط الأرض بالقوم وبالتاريخ خاصة في هذا المنعطف العويص الذي نجد أنفسنا فيه: فاقدي الأرض، ضائعي الهوية، وللأسف، خارج التاريخ. لأبدأ أولاً بالآثار المرتبطة بالأرض كدلالات على ذكرى الحدث وتفاعلاته في الفترتين الأيوبية والمملوكية وما حل بها وكيف يمكن استعادتها وتفعيلها كمنشطات للذاكرة الجماعية. أهمها طبعاً المسجد الأقصى وقبة الصخرة، بؤرتا الاهتمام الأساسيتان لكلا الطرفين المسلم والصليبي. عندما عاد صلاح الدين الى القدس كان أول ما فعله هو إزالة الإضافات الصليبية في كلا المبنيين وإعادتهما إسلاميين. ثم تذكر نذر سيّده ومربيه نورالدين ابن زنكي القائد الأول لحرب الاسترداد الإسلامية وباعث حركة الجهاد الأصلي الذي أمر في غمرة طفرة الصراع على سورية الساحلية في عهده 1146-1174 بصنع منبر خشبي في حلب لكي يضعه في الأقصى المحرر. ومات البطل من دون أن يحقق نذره ولكنه فتح الطريق لصلاح الدين من بعده الذي سار على نفس الدرب وحقق انتصاره التاريخي في حطين، وأمر صلاح الدين بوضع المنبر المنمنم ودقيق الصنع في المسجد الأقصى علامة على استمرارية الحركة الجهادية التي بدأها سلفه ورمزاً لعودة المسجد للمسلمين بعد أن كان قصراً لملك القدس الفرنجي لمدة 90 عاماً. فاحتوى هذا العمل الفني الفائق الصنعة على معان ودلالات تاريخية وعقائدية وثقافية وجهادية بالإضافة لقيمته الحرفية والفنية التاريخية. فأين هو الآن؟ كلنا يذكر فاجعة حرق الأقصى عام 1968 على يد متطرف يهودي من الساعين المهووسين دينياً لإزالة الوجود الإسلامي من الحرم الشريف وإعادة الهيكل السليماني الذي لم يعرف له مكان حقيقي بعد على الرغم من كل التنقيبات الأركيولوجية التي قام بها منقبون اسرائيليون عديدون مباشرة تقريباً إثر دخول الإسرائيلي الى القدس عشية هزيمة 1967. واحترق المنبر. وبكته وسائل الإعلام العربية والإسلامية. وطلع علينا العديد من المسؤولين العرب بالتصريحات الطنانة عن حق العرب بالقدس وعن العاقبة الوخيمة التي تنتظر كل من تسول له نفسه التلاعب بمقدسات الأمة. ثم غاب المنبر، والحادثة كلها، في غياهب النسيان. فلماذا لا تعلن هيئة عربية ثقافية عن مسابقة فنية لإعادة بناء المنبر كما كان، ثم يعاد المنبر الفائز الى موقعه القديم؟ ستكون تلك خطوة جديدة: فيها دراسة فنية تاريخية لإحياء ذكرى ذلك العمل الفني ذي الأهمية العقائدية والقومية الهائلة الذي للأسف لم يقم أحد من دارسي العرب بوضع دراسة عنه على وزن الدراسة الجديدة التي نشرت هذه السنة عن منبر مدرسة الكتبية في مراكش الذي تضافرت جهود هيئات عديدة عالمية ومحلية لترميمه. وستكون أيضاً خطوة لتوظيف الفن لدعم الذاكرة: فالمنبر موضوع في مكانه السابق ربما أثار تداعيات عدة في أذهان مشاهديه وصانعيه ودارسيه وزوار المسجد، كلها تصب في النهاية في خانة تجسيم الذكرى وإعطائها حيزاً في موقعها الأصلي وفي مخيلة شعبها. ومن نفس المنطلق، أود أن أذكّر بمواقع أخرى مرتبطة بحلقة سقوط القدس وعودتها في الفترة الصليبية: مواقع متناثرة على الأرض الفلسطينية، يبدو لي أننا نسيناها لأني لا أذكر أني قرأت عنها أي بحث جديد بالعربية، وان كان البحاثة الإسرائيليون والغربيون قد أولوها بعض الاهتمام، ونشروها في دوريات علمية حين عجز العرب في الفترة ما بين 1948-1967 عن اكتشاف أهمية تلك المواقع منها التي كانت بأيدينا، كقلعة الصبيبة مثلاً في الجولان المحتل أو قلعة الجندي التي بناها صلاح الدين في سيناء. أهم هذه المواقع هي قبة النصر التي بناها صلاح الدين في قرن حطين على حسب تقرير الدمشقي وبعض الحجاج الأوروبيين الذين مروا بالموقع والذي أعاد اكتشافه مؤخراً أركيولوجي إسرائيلي زفي غال. ما تبقى من المبنى الأصلي لا يعدو أن يكون جدران إما لمستودع أو خزان مياه، ولكن أهميته هي في الذكرى التي يحملها. وهو بذلك شبيه بموقع عين جالوت، المعركة المصيرية الأخرى التي قادها السلطان المملوكي قطز ضد المغول عام 1258، والتي بنى فيها السلطان المملوكي الظاهر بيبرس قبة نصر أخرى فيما بعد تخليداً لذكرى المعركة. وبما أن الموقعين هما في أيدي الإسرائيليين اليوم فلربما كان من الصعب تطوير أي برنامج معماري يعيد إحياء ذكرى المعركتين والقبتين في مكانهما الأصلي. ولكننا يمكننا أن نشجع معماريينا الشبان والشابات على التفكير بدراسة عمارة تلك الفترة واستنباط تعابير معمارية جديدة مستوحاة منها ثم الدخول في مسابقة لتصميم قبّتي نصر جديدتين. ولكي نعمق تأثير الفكرة، يمكن للهيئة العربية المنظمة إعداد معرض جوال على المدن العربية وربما العالمية تبعاً لنوعية وشمولية المسابقة المعمارية، يصنع في مخيلة زواره صوراً لنصب تذكارية تندمج صورتها مع ذكرى مناسباتها، وإن كانت ربما ستبقى، كما يقال، حبراً على ورق. هذا ما حصل في العشرينات مع مسابقة مبنى الهيرالد تريبيون في شيكاغو مثلاً أو في قصر السوفييت في موسكو الذي صممه لوكوربوزيه، حيث ما زالت مدارس العمارة تدرس هذه المشاريع لطلابها مع أنها لم تنفذ أبداً. لأثني الآن بالآثار المكتوبة، ولأذكر أننا حتى في هذا المجال، فخرنا الثقافي المعتاد، مقصرون في ترسيخ ذكرى الحلقة الصليبية والرد الإسلامي عليها، مع أن التراث حفظ لنا الكثير مما يمكننا قراءته في هذا المجال. والمثل الساطع على هذا التقصير هو سيرة السلطان الظاهر بيبرس: سيرة شعبية رائعة، اختلطت فيها الحقيقة بالخيال لكي تخلد ذكرى هذا السلطان المهيب الذي قضى عهده الحافل 1260-1276 في معارك دائمة مع الصليبيين والمغول. وقد تدخل المخيال الشعبي في إعادة صياغة تلك الملحمة حتى وصلتنا في آلاف الصفحات التي، وإن فقدت الكثير من تاريخية حياة بيبرس وإنجازاته، فإنها تقدم لنا مجموعة مذهلة من الاعتقادات الشعبية عن السياسة والتاريخ والدين والطائفية والمماليك والنساء والحياة بشكل عام لا يمكننا الولوج إليها من أي مدخل تاريخي آخر. وإذا ما تشجع واحدنا لكي يرى بنفسه غنى التعبير الشعبي في ملحمة الظاهر بيبرس، فأين سيجدها أو بعضها على الأقل يا ترى؟ لن يجدها للأسف منشورة بلغتها الأم ما عدا بعض الطبعات الشعبية غير المدروسة المطبوعة في أوائل القرن على ورق رخيص والتي تباع على أرصفة المساجد كمسليات، وإنما سيجدها بنشرة مدروسة محكمة بالفرنسية، والتي ابتدأ مستعربان فرنسيان، جورج بوهاس وجان - باتريك غيللوم، العمل عليها قبل 15 سنة وظهر منها حتى الآن عشرة أجزاء وما زال هناك نحو العشرين جزءاً بانتظار النشر. وقد أخبرني المستعرب الفرنسي المشهور أندريه ميكيل قبل سنين أن دار النشر سندباد أرسلت رسائل عام 1984 الى كل المؤسسات الحكومية الثقافية العربية تسألها إذا كانت مهتمة بتمويل النشرة العربية للسيرة، بما أن دار النشر كانت قد قدرت أن النشرة العربية لن تبيع ما يكفي من النسخ لتغطية نفقاتها، وبما أن رسائل "السندباد" لم تحرك ساكناً في العالم العربي، فقد مضت دار النشر في مشروعها الفرنسي وتركت النص العربي من دون تحقيق أو نشر. وربما كان هذا غيض من فيض. فالدراسات المستفيضة عن الحروب الصليبية في الغرب التي ترافقها مؤتمرات سنوية عن مواضيع متعددة في سنة 1995 مثلاً كان هناك 4 مؤتمرات علمية عن الصليبيين في الولاياتالمتحدة فقط والتي نقبت كل النصوص الأوروبية المتعلقة بتلك الفترة وحققتها ودرستها وأولتها وأعادت تأويلها ودراستها ونشرها، هذه الدراسات لا يقابلها أي نشاط يذكر فيما يتعلق بالتراث الأدبي الغني الذي تركه المسلمون المعاصرون عن وجهات نظرهم الخاصة بالحروب الصليبية. فأبو شامة، مثلاً، واحد من أهم المعلقين المسلمين على حروب الاسترداد وترجم نورالدين وصلاح الدين في كتابه المهم، "الروضتين في أخبار الدولتين" لم يجد من يكمل تحقيق كتابه هذا بعد أن حقق الأستاذان مصطفى زيادة ومحمد حلمي أحمد قسمي الجزء الأول منه بين عامي 1956-1962 حتى العام الماضي عندما ظهرت منه طبعتان مختلفتان؟: واحدة في بيروت وواحدة مختصره في جدة. وما زال كتابه الشخصي المليء بالمعلومات والموسوم بالذيل على الروضتين بحاجة الى طبعة منقحة وموثقة بعد طبعته الأولى والوحيدة عام 1947. فها هنا مجال رحب للبحث العلمي التاريخي للأعداد العديدة من خريجي التاريخ والآداب في الجامعات العربية الذين لا يستفيدون ولا يفيدون من خبراتهم ويقضون حياتهم العملية في وظائف مكتبية خانقة. ولأنهي لائحة تمنياتي بأكثرها جرأة وخيالاً، ولأمهد لها بخلفياتها. كنت قد قرأت مقالاً قبل سنتين لمراسل صحيفة الأندبندنت اللندنية في بيروت، روبرت فيسك، الذي اشتهر بميله الى الحق في الصراع العربي - الإسرائيلي وبجرأته في فضح المنافقين من الطرفين أياً كانوا. كان المقال عن العداء المقيم الذي يحرك بعضاً من علاقة الغرب بالعرب وعن تفاعلات هذا العداء القديم في العلاقات السياسية المعاصرة. وقد أثار اهتمامي في المقال ذاك قصة تتعلق بالذكرى التسعمائة لسقوط القدس بأيدي الصليبيين وان كنت لم أتمكن من التحقق منها أو من متابعة القضية أبعد مما قرأت مع أني حاولت، ولكن لبعد الشقة ضريبتها. يخبرنا فيسك أن السيد جبران كورية، مستشار الرئيس السوري السيد حافظ الأسد، كان قد طلب اليه أن يرسل رسالة ديبلوماسية لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان ليجس نبضه فيما يتعلق بفكرة جريئة بقدر ما هي ذكية: هل يجد البابا في نفسه الرغبة في دفع عملية التقارب الودي بين المسلمين والمسيحيين قدما عن طريق إعلانه على الملأ اعتذار الكنيسة للمسلمين عن الحروب الصليبية التي حرضتها سياسات بابوية قروسطية والتي رسخت بين أتباع الديانتين الأقرب والأكبر في العالم عداوة ما زال أوارها مشتعلاً بعد تسعة قرون على قيامها؟ وعلى الرغم من رمزية الطلب ورمزية الخطوة نفسها فهي، لو حصلت، ستكون كبيرة الوقع دينياً وحضارياً وسياسياً، وربما انسانياً. ولكن الطلب، وفقاً للسيد فيسك أيضاً، لم يلق للأسف أية استجابة من أوساط الفاتيكان التي أوصله اليها. وقد حاولت من موقعي متابعة هذا الأمر الذي وجدته جريئاً وذكياً وإنسانياً أفلم يعلن البابا قبل بضع سنوات عن عودة الكنيسة عن إصرارها على خطأ غاليلو بعد أربعة قرون على موته؟. ولم أحصل على نتيجة. وربما أمكن لمن هو في موقع قادر على التحرك معاودة المحاولة، فهي تستحق لأن الذكرى، على بعدها وعلى نسيانها الظاهري بين عامة الناس في الغرب وتذكرها المجتزأ والمبتور في العالم الإسلامي ما زالت فاعلة في تشكيل آراء الطرفين ببعضهما البعض وشحنها ببغضاء العالم في غنى عنها. ولكني ما دمت عاجزاً عن طرق الطريق الديبلوماسي على أهميته فسأقدم هنا مشروعاً قابلاً للتحقيق لبديل أكثر تواضعاً: مؤتمر عالمي، علمي وعلماني، كبير عن تاريخ القدس العمراني ترعاه جامعة الدول العربية أو معهد العالم العربي في باريس أو أي هيئة ثقافية مهتمة وقادرة، لا يهدف الى تأكيد حقوق أو الدخول في متاهات الصراع الأيديولوجي وإنما يبين فقط من خلال استحضاره وتحليله لمراحل التاريخ المقدسي كلها، كل واحدة منها بقدر امتدادها الزمني وتأثيرها العمراني والمعماري، حقيقة هوية المدينة التاريخية. وأرى ألا يستثني المؤتمر أي باحث أو أي حقبة منذ بداية سكنى القدس في العهد البرونزي وحتى اليوم الحاضر. ولنترك للتاريخ نفسه التعبير بطلاقة وحرية عن التتابع العمراني على سكنى القدس: وجود كنعاني لمدة خمسة أو ستة قرون تلاه وجود عبري لمدة قرنين فتلاحق حضاري رافدي، ففارسي، فهيليني، فروماني، فمسيحي بيزنطي غطت كلها فترة تسعة قرون، ثم وجود عربي بوجوه متعددة ولكن بلسان واحد وعقيدة واحدة ونظرة للحياة مشتركة لمدة أربعة عشر قرناً تخللها مئة سنة من الوجود الصليبي، وأتى الوجود الإسرائيلي في الخمسين سنة الماضية ليحاول محو آثاره. فخلال نصف حياتها المديدة تكلّمت القدس وتمتمت وضحكت وغنّت وبكت وتجمّلت وتبرقعت ودرست وصلّت بالعربية، فهل نحن بحاجة للمبالغة بالتأكيد على هويتها؟ لا أظن ذلك، ولكننا مقصرون في حفظ ذكراها وإشراك الأمم الأخرى في التعرف على آثار ذلك التاريخ وصيانة تلك الذكرى. * أستاذ مشارك لتاريخ العمارة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T