في واحدة من نبذ "أصداء السيرة الذاتية" لنجيب محفوظ، تحت عنوان "دموع الضحك"، يكتب الجملة التالية: "يا صديقي الوحيد، في عز النصر والرخاء، كثيراً ما بكيت الكرامة الضائعة". وهي جملة ذات مراوغة والتباس، أو على الأقل تكشف أن الباطن غير الظاهر. وفي نبذة أخرى تحت عنوان "الريح تفعل ما تشاء"، يكتب الجملة التالية التي تكمل المعنى السابق "لم يكن في نيتي ما أفعل، ولا فعلت ما كنت نويت". فثمة إذاً في ذات الكاتب، شخصان بل أكثر، وهما غير مؤتلفين، وانسياقه وراء واحد من أشخاصه الروائيين المبتكرين، أو وراء إحدى شخصياته الكثيرة، لا يظهر انسياقاً حرّاً تمام الحريّة وعاقلاً تمام التعقل، بل هناك ما يشبه الهيام واللامعقول، والحال الشبيه بانجذاب المريد للمرشد. وفي كل حال فهو يتكلم على اتباع الناس في منطقة من المناطق لمرشد طريق كان أعمى، تبعه الناس لما عرف فيه من صدق الفراسة وعمق الخبرة وحفظ زوايا الحي عن ظهر قلب، فتبعه هو متأبطاً ذراعه متخذاً منه دليلاً لمدة من الزمن، ثم تركه بعد ذلك ليتبع بائعة خبر متجولة حسناء. وهو بذلك شبيه بالمغني الأعمى الذي يصر على قيادة الدراجة النارية في شوارع المدينة، كما في "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان، ويحمله الناس على محمل الجميل المفارق. وتنهض في النفس من خلال قراءة الروايات والسِيرَ الذاتية والأشعار المتنوعة، أسئلة حول علاقة الكاتب بالشخصيات التي يؤلفها. فما علاقة الشاعر والمسرحي وبالأخصّ الروائي بهذه الشخصيات؟ هل يصحّ الافتراض بأنها هي هو على تناقضاتها؟ هل هي أقنعة متعددة لوجه واحد؟ هل هي مفارقة لمؤلفها، بل غير قابلة بمصائرها المرسومة لها وربما تداعت لمحاكمته كما حصل في رواية حنا مينة "النجوم تحاكم القمر"؟ وهل هو منها بمثابة الممثل الواحد لأدوار كثيرة من هذه الأدوار، أم بمثابة المخرج المحرّك لهذه الأدوار على المسرح أو في السينما؟ أم أن في المسألة لعبة كبيرة وجميلة كلعب الأطفال مثلاً، أو الشطرنج أو ما أشبه ذلك، بحيث يكون التماثل بين الحياة بما فيها من معارك وسلام وحب وخوف وكرّ وفرّ وشؤون أخرى، وبين ساحة اللعب، تماثُلاً متبايناً هكذا وربما متداخلاً تداخل الحلم باليقظة والليل بالنهار. فثمّة، في هذه المتتالية، وصل وفصل، وثمة استمرار وانقطاع، بل ثمة وصل في الفصل واستمرار في الانقطاع، فالنهار وجه الليل الأبيض والليل وجه النهار الأسود... أكثر من ذلك نسأل: ما علاقة الكاتب، كمبدع ومتخيّل، بشخصه الاجتماعي، وشخصه السياسي، وشخصة السلوكي والأخلاقي؟ وهل هناك تباين بين هذه الشخصيات الكثيرة يصل لحد الخصام والتنابذ وحتى الانفصام، أم أن سلكاً ما، خفياً، يسلكها جميعاً في بوتقة واحدة، فتُرى عن بعد موحدة ومصمتة، في حين يكشف التحديق فيها عن كثب، عن تفاصيلها المتداخلة والمركبة، وعن التباساتها المرعبة؟ إنها غابة من الأسئلة. وليس في المستطاع الاجابة البسيطة عنها. وأنسي الحاج القائل في أحد خواتمه "أنتما اثنان وأنا اثنان"، يشير الى الشخصية المركبة والعديدة للكاتب بل للكائن، وهو مسبوق بما قاله آرتور رامبو "أنا آخر"، وبقول جبران خليل جبران "أنت سابق نفسك يا صاح". ذلك يستدعي، في التأكيد، نقاشاً أكثر عمقاً وتمعناً مع نجيب محفوظ، مما ثار معه من نقاش حول "صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على حياته"، تلك التي دوّنها ونشرها رجاء النقاش بنتيجة حوارات استغرقت زهاء خمسين ساعة من العمل والتسجيل، وامتدت على امتداد عام ونصف العام، ابتداءً من أول أيام حرب الخليج آب أغسطس 1990. فنجيب محفوظ رسم لذاته في هذه الاعترافات المسجّلة والمذكرات المنقولة، شخصية نمطية محافظة، بل شخصية مستسلمة للقوى السياسية والعسكرية والاقتصادية الفاعلة على الأرض. فهو يكره الانتفاضات الشعبية ويعتبرها مغامرات طائشة غير محمودة العواقب، ويركز على الجانب الأكثر طمأنينة في المنزل والشارع والوظيفة والسياسة، فيعتبر أن تأميم قناة السويس جاء في الوقت غير المناسب والمبتسر وكأنه ولادة قيصرية أو غير طبيعية، ولو تركت الأمور لمجرياتها ولمواعيدها التاريخية المحددة، لقدمت بريطانيا "التي تتمتع بسمعة أخلاقية" على حد تعبير محفوظ، قناة السويس الى أهلها المصريين في الموعد المحدد لذلك، وفاءً بالتزاماتها وحفاظاً على سمعتها الطيبة، ولما أثار المصريون حفيظة دول أوروبا الحاقدة عليهم... ومثل ذلك رأيه في حرب الاستنزاف، التي تلت هزيمة العام 1967، وكانت حرب صمود نسبي أعاد من خلالها الجيش المصري وكذلك الشعب التقاط أنفاسه وبناء جزء مما هدمته الهزيمة من كيانه... فهو يرى الى هذه الحرب على أنها خدعة بلا جدوى، والصمود مكابرة، ولم ينزف من الاستنزاف سوى المصريين المساكين في الإسكندرية وعلى شاطىء السويس، الذين تشرّدوا عن منازلهم بعد أن هدمت هذه المنازل، وكان الأسلم التسليم بالواقع الذي لا يمارى فيه وهو التفوّق المطلق للعدو الإسرائيلي... هذا على أن الإسرائيلي، في نظر محفوظ، أيضاً، يمكن التعيش معه بلطف، كما أن أميركا صخرة لا تناطح... هذه الأفكار وسواها مما يماثلها جعلت من محفوظ في مصر وفي سائر البلاد العربية مدار نقاش وحوار حادّ، مما حرّك ركود الساحة الثقافية العربية، خصوصاً أن صاحبها صاحب شخصية إبداعية فذّة، وقيمة روائية عالية أوصلته لنوبل عن جدارة. والعجيب فيه، أن الحوارات المباشرة التي أجريت معه حول أفكاره، والتي أدارها معه محبون له ومعجبون به على اختلاف الموقع الفكري كجمال الغيطاني وعبدالرحمن الأبنودي، وذكرت مجرياتها في أعداد مجلة "أخبار الأدب" القاهرية التي يرأس تحريرها الغيطاني، لم تثنِ محفوظ قيد أنملة عن أفكاره وآرائه، بل تراه خلالها قليل الاكتراث بما يوجّه اليه من تهم كبيرة، كما تراه ثابتاً بهدوء، ودؤوباً على أفكاره، كهرم تعصف من حوله الرياح، وهو مستقرّ وثابت. وحرّضتني اعترافاته ومواقفه والحوارات التي أجريت معه، الى الذهاب أبعد من كل ذلك في التحديق في داخل هذا الكاتب وسبر أغواره القصيّة، فعثرت على ما يمكن أن يكشف شيئاً من المستور، ويرفع الغطاء عن شخصياته المركبة. إنه هو صاحب "أصداء السيرة الذاتية"، وهي القبة الذهبية لذاته، والموقع الأكثر صلاحية لكي يتمّ التحديق فيه من خلاله للنفاذ الى حقيقته وأغواره. لماذا؟ لأنه في "أصداء السيرة الذاتية"، تتقاطع شخصية نجيب محفوظ أو ذاته التاريخية والحياتية سيرته الشخصية مع ذاته الثقافية المتخيلة، أي تتقاطع مجمل إبداعاته الروائية المتخيلة مع نتف من سيرة حياته من الصبا حتى الشيخوخة. فنحن هنا لسنا أمام عمل روائي صرف، ولسنا أمام مذكرات وسرد لوقائع سيرة حياتية، بل أمام عمل يبدأ من أرض الذاكرة ليصعد في فضاء التأمل والثقافة. هنا إذن يجلس نجيب محفوظ، على وجه الدقة. وهنا يكمن الكمون لهذا الغزال الشيخ الجميل الضليل. سيكون من المفارق أن أول نبذة من نبذات "أصداء السيرة الذاتية"، ستنكشف عن عكس ما اعترف به أو أشيع عنه، من أنه كائن اجتماعي شديد المحافظة والانضباط، ينطوي على نفسية "موظف"، وسلوك يداري السلطة والقوة، ويتلافى "الثورة". فهو يكتب في هذه النبذة "دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح الى مدرستي الأولية محروساً بالخادمة. سرت كمن يساق الى سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة. وفي قلبي حنين للفوضى...". فهو منذ الصغر مشغوف بالثورة وداعية لها، وفي قلبه لا الانضباط الوظيفي بل "حنين للفوضى". ثم هو في النبذة الثانية تحت عنوان "رثاء" يكتب "... واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون"... ولكي لا ننساق وراء إغراء الكلمات وخداعها، علينا أن ندرك خاتمة كل نبذة من النبذتين آنفتي الذكر: فالثورة التي دعا اليها محفوظ وهو دون السابعة كانت متعلقة بتظاهرات الطلاب واقفال المدارس بنتيجة ذلك. لذا كتب "ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة الى الأبد"، وكذلك "اندلاع الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون في باطنه"، فقد اندلعت أمام "الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء". فنحن إذن أمام مبدع ملتبس، بل متعدد، بل أمام شخصية حياتية وإبداعية مركبة وذات طبقات. والحفر عليها أمر شديد المتعة. وهو أيضاً الذي تنسب إليه، في أحاديثه لرجاء النقاش، فكرة ضرورة الاستسلام لقدر القوة في حرب الاستنزاف، والتسليم بالأمر الواقع، وهو أمر الهزيمة، يورد على لسان شيخه العارف الذي يسميه "عبدربه التائه"، وهو هو، أي نجيب محفوظ هو عينه "عبدربه التائه" المتأمل العارف الحكيم، النبذة التالية: "سألت الشيخ عبدربه التائه: متى يصلح حال البلد ؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة". فكيف إذاً نوفّق بين هنا وهناك؟ حسناً... من خلال "أصداء السيرة الذاتية"، سنعثر على جميع شخصيات نجيب محفوظ مدموجة في شخصيته المنتقاة، المصفّاة "عبدربه التائه"، من لدن مغادرته طفولته ودورانه التائه في البحث عنها، حتى حدود الموت والقبر والتأمّل فيهما. وهنا نحن أمام متأمل عظيم، بل شاعر راوية بعيد الأغوار، ملتبس، مراوغ، حمّال أقنعة، وجذّاب. هو يمشي كما يقول "تتبعه نداءات الحب والموت"، ويتلجلج بين أمواج الذاكرة والنسيان، مستعيداً قول الصديق الحكيم "قوة الذاكرة تتجلى في التذكر كما تتجلى في النسيان". وهو، وإن كان يمشي في الموت، كالساري في نومه، إلا أنه يمشي في الحياة أيضاً التي هي العشق. فأعذب قصائد العشق وسيره، وأجمل تمجيد للحياة، مكتوبة بقلم نجيب محفوظ في "أصداء السيرة الذاتية"... "إذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحب والنغم" كما يقول في "خطبة الفجر"، أو كما يقول بلسان "عبدربه التائه": "كابدت من الشوق ما جعل حياتي لهفة مكنونة في حنين". وعبدربه التائه ممسوس بمسّ العرفان وكهرباء الانجذاب الصوفي. وهو وان كان يجري وراء قطار القناطر الخيرية إلا أنه يجري وراء قطار المفاجآت. ومشدود بنداء "اترك كل شيء واتبعني"، إلا أنّه متفرّد وأصيل. فاللؤلؤة التي تلقاها في المنام، يعرضها على الناس فلا يراها أحد سواه، لذا مثله كمثل لاعب البليارد مع نفسه: "المتعة أن ألعب وحدي كما يقول وأن يتفرّج الآخرون". وهو ليس حكيماً بارداً وواعظاً بسطحية الوعّاظ. انه أكثر حقيقة من ذلك: يسوق على لسان رجل له ثلاثة أبناء، عقد النيّة على السفر للحج، فاستدعى أبناءه وسألهم واحداً واحداً "ماذا تقولون بعد الذي كان؟ أجاب الأكبر: لا أمل بغير القانون. وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب. وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحب. فابتسم الأب وقال: لا بد من شيء من الفوضى كي يفيق الغافل من غفلته". فنجيب محفوظ عينه، الناظر الى الفوضى كأساس للنظام، والعائش الحياة في أقصى مباهجها وعشقها ولذتها ونسائها في الموت، هو نفسه القابل بلسان شيخه أو ذاته عبدربه التائه: "حذارِ... فإنني لم أجد تجارةً هي أربح من بيع الأحلام". فلنتروَّ إذن في مخاطبتنا لهذا الشيخ الفتى الزاهد العاشق الحكيم المتأمّل الخالع العِذار