هل ستطول رياح التغيير التي هبت على اندونيسيا، ماليزيا، ولو بسيناريوهات ومضامين مختلفة تتفق وأوضاع الأخيرة المختلفة قطعاً؟ عبدالله المدني يجيب: من الظلم تشبيه أوضاع ماليزيا بأوضاع اندونيسيا. فالأولى على خلاف الثانية تتمتع منذ قيامها ككيان اتحادي في أواسط الستينات بحكم مدني مستقر وبمؤسسات ديموقراطية، كما ان دور العسكر في شؤونها لا يذكر، اضافة الى ان زعيمها الحالي الدكتور مهاتير محمد 71 عاماً منتخب انتخاباً ديموقراطياً، بل حصل حزبه حزب منظمة شعب الملايو الوطني المتحد المعروف اختصاراً باسم أومنو UMNO في 1995 على عدد من الأصوات هو الأكبر في تاريخ البلاد. وحتى في ما يتعلق بالأزمة الاقتصادية التي عصفت بكل دول جنوب وشمال شرق آسيا العام الماضي، فإن آثارها على ماليزيا لم تكن قاصمة للظهر وأمكن بفعل عوامل القوة والتنظيم الكامنة في اقتصاد البلاد الحد من اتساعها والتصدي لها بمجموعة من المعالجات القصيرة والطويلة الأمد، وذلك على خلاف آثارها على اندونيسيا التي ساهمت عوامل الخلل المتجذرة في تركيبتها السياسية والاقتصادية في حدوث انفجار جماهيري سرعان ما نجح في الإطاحة بحكم سوهارتو وعائلته. إلا أن الحديث عن التغيير في ماليزيا صار اليوم أمراً واقعاً يستمد وقوده من نفس الحقيقتين اللتين كان لهما الدور الأكبر في تطور الأوضاع في اندونيسيا. فالدكتور مهاتير محمد ضرب الرقم القياسي في البقاء في السلطة في ماليزيا 17 عاماً، ولم يصدر عنه الى الآن ما يشير صراحة الى رغبته في التنحي المبكر طوعاً وبالتالي السماح لصعود دماء جديدة من رموز أومنو الى رأس الهرم الحزبي والحكومي، تماماً مثلما كان الحال مع سوهارتو الذي ظل يمسك بالسلطة في بلاده على مدى السنوات الاثنتين والثلاثين الماضية وكان يسعى الى البقاء فيها الى آخر يوم في حياته. أما الحقيقة الثانية فهي ان للرجل كما في الحالة السوهارتية ارتباطات وشراكات مع مجموعة من تايكونات المال والاعمال المحليين ويتصدر ابناؤه الثلاثة قائمة رجال الاعمال المتنفذين والمستفيدين من علاقاتهم برأس الدولة في الحصول على الصفقات والعمولات الدسمة، وان كانت مقارنتهم بأبناء سوهارتو في غير محلها. وهكذا فإن الصراع الخفي داخل صفوف الحزب الحاكم الذي كثيراً ما تسربت أخباره، ما بين مجموعة تؤيد بقاء مهاتير في السلطة وتدافع عن توجهاته، واخرى تناصر نائبه في رئاسة الحزب والدولة أنور ابراهيم 52 عاماً صار اليوم يأخذ منحى مختلفاً! اذ سمحت أحداث اندونيسيا والعوامل التي تسببت فيها وعلى رأسها الديكتاتورية والفساد والمحسوبية واستغلال النفوذ في أبشع صوره، بارتفاع أصوات تشكو من وجود العوامل ذاتها أو ما يشابهها في الحالة الماليزية، وصار أنور ابراهيم الحذر أكثر حرية في توجيه الانتقادات الى رئيسه واكثر حدة في تعليقاته من ذي قبل. ويرى المراقبون انه منذ سقوط سوهارتو في 21 أيار مايو الماضي وتعليقات الأخير لا توحي بأن الرجل الشريك في الحكم يحاول ان ينأى بنفسه عن سياسات رئيسه فحسب، وانما توحي أيضاً برغبته في التأكيد على انه شخصية مختلفة لها أفكارها واجتهاداتها وأجندتها الخاصة. وهو في هذا انما يريد ان يبتعد بمسافة مناسبة عن زعيمه كي يضمن صعوده الى السلطة في أي تغيير منتظر وكي لا يتم تجاوزه لصالح شخصية حزبية أخرى - كوزير التربية نجيب رزاق مثلاً - على خلفية انه ومهاتير شيء واحد. ففي الثلاثين من أيار الماضي بدا أنور ابراهيم متعاطفاً مع ليم غوان اينغ نائب زعيم أحد الأحزاب المعارضة الذي حكمت عليه السلطة بالسجن لتوزيعه كتيباً يهاجم الحكومة لتسترها على أحد أعضاء "أومنو" ممن ارتكبوا أعمالاً يعاقب عليها القانون، وذلك حينما رد على سؤال من أحد طلبة القانون الماليزيين في هذا الشأن بالقول انه يشاركه مشاعره ويؤيد آراءه. وفي الثامن من حزيران يونيو الجاري رُصد عنه قوله أن "ضعف السياسات الداخلية للحكومة يساهم في خلق مشاكل ان لم نتعامل معها بجدية فسوف نواجه وضعاً مشابهاً لأوضاع أندونيسيا وبالتالي سنكون في مواجهة شعب يطالب بالتغيير الشامل". الى ذلك، فإن الأسابيع الأخيرة شهدت تركيزاً من ابراهيم وحلفائه لا سيما زعيم جناح الشبيبة في الحزب الحاكم، زاهد حميدي، على قضايا الفساد والمحسوبية والواسطة في البلاد. ولئن تم تجنب الإشارة الى اسماء معينة كمتسببين أو مستفيدين، فإن المرء لا يحتاج الى كبير عناء ليعرف ان المستهدف الأول هو مهاتير وابناؤه واصدقاؤه من رجال المال والاعمال الكبار الذين تدخل شخصياً لإنقاذهم من الافلاس عبر دفع الحكومة الى تقديم ضمانات لصالحهم. والمفارقة هنا ان أنور ابراهيم نفسه ليس ببعيد عن تهمة الاستفادة من الارتباط ببعض رموز مجتمع المال والاعمال وان كان من يرتبط بهم يُعدون كالاسماك الصغيرة مقارنة بالحيتان المرتبطين بمهاتير. وفي الوقت الذي ترتفع نبرة ابراهيم وحلفائه وتقوم فيه الصحافة المحلية المتحالفة في معظمها مع الأخير بإبراز خطبه وتعليقاته ضد الفساد كوسيلة ضغط غير مباشرة على رئيس الوزراء للانسحاب من السلطة بشرف اليوم وليس غداً، فإن مهاتير يكرر كلاماً شبيهاً الى حد بما قاله في 1995 من انه سيكون هناك انتقال هادئ للسلطة في الوقت المناسب. أما الوقت المناسب اليوم فهو الانتطار الى ما بعد ترتيب أوضاع البيت الأقتصاية وتجاوز آثار الأزمة النقدية الأخيرة. فإذا ما عرفنا ان حل الأزمة المذكورة سيستغرق وقتاً يتراوح ما بين عامين وخمسة أعوام بحسب أحد المراقبين الملمين بأوضاع ماليزيا الاقتصادية، فإن هذا يعني بقاء الرجل في السلطة خلال هذه المدة. ولعل ما يعزز القول الأخير ان مهاتير باشر مؤخراً القيام بجولات شعبية في عدد من أقاليم بلاده بحثاً عن تأييد جماهيري لشخصه وخططه وسياساته بدأها بولاية كيلانتان في 29 أيار المنصرم، حيث دافع دفاعاً مريراً عن قراراته بحماية رجال الاعمال من الافلاس ونجح في المحافظة على صورته كوطني يسعى الى خير ابناء الملايو. ويتردد على نطاق واسع في كوالالمبور ان الرجل إزاء هذه النتائج المشجعة ربما يلجأ الى الدعوة الى انتخابات مبكرة للحصول على تخويل شعبي حاسم وعدم الانتظار حتى الموعد الطبيعي لهذه الانتخابات في نيسان ابريل عام 2000، وذلك كخطوة لاستباق أي فشل مفاجئ لمعالجاته للشأن الاقتصادي قد تضعف شعبيته. ومن ناحية أخرى فإن الجناح المؤيد لمهاتير داخل الحزب الحاكم يسعى الى اقرار خطة مشابهة لما تم اعتماده في عام 1995، يتم بموجبها تثبيت من يتولى حالياً منصبي رئيس الحزب ونيابة الرئاسة مهاتير محمد وأنور ابراهيم بمعنى عدم طرح المنصبين للمنافسة وذلك حفاظاً على وحدة "أومنو" الذي يشهد تاريخه بأنه حزب متماسك ويتيح الانتقال الهادئ للمسؤوليات، وتحاشياً لتكرار ما جرى عام 1987 حين انقسم الحزب في انتخابات الرئاسة الى جناحين، أيد أحدهما مهاتير فيما كان الآخر يؤيد وزير المال وقتذاك رضا حمزة. إلا انه من غير المؤكد نجاح مؤيدي مهاتير في هذا المسعى لاختلاف ظروف وتحديات اليوم عن ظروف 1995، بدليل انه حينما أثار أحد اعضاء "أومنو" مثل هذا الاقتراح في اجتماع مغلق مؤخراً، قوبل اقتراحه بالصمت. والصمت في ماليزيا ليس قطعاً دليل التأييد والموافقة.