لفظت الحرب المشتعلة في الصحراء الغربية جندياً إنكليزياً ظهر ذات صباح باكر في شوارع بلدتنا. كان "سيد" الحلاق يفتح دكانه بعد صلاة الفجر، يكنسه ويرش الماء أمامه، ويجهز أدواته، ويلمع المرايا، ثم يتناول فطوره ويجلس في انتظار الزبائن الذين يبكرون بالذهاب إليه لحلاقة ذقونهم قبل أن يتجهوا لأعمالهم. كان قد حكى من قبل أنه تنقل في عمله بمدن القنال، وحلق ما يقرب من خمسة الاف رأس انكليزية، وحين تجمع معه ما يكفي لفتح الدكان عاد للبلد. ويومها سأله واحد من الجالسين ضاحكا: إن كان وجد فرقاً بين الرأس الانكليزي والآخر المصري؟ ورد سيد جاداً: "لا فرق". وصار رده مثلاً على لسان أهل البلد، يرددونه بالجدية نفسه. كان واقفاً يحلق ذقنه أمام المرأة الكبيرة التي تتصدر الحائط المواجه لباب الدكان، ورأى صورة الجندي الانكليزي منعكسة عليها، وماسورة البندقية تطل من وراء كتفه، استدار وقد ظن - كما يقول - أنهم دخلوا البلد، كانت رغوة الصابون تغطي جانب وجهه. الجندي على العتبة من قدمه ليدخل، ثم لمح الموسى مفتوحاً بيد سيد، تقهقر واختفى. اندفع سيد نافضاً ذهوله، ورأى الشارع ساكنا والجندي يبتعد، هرول وراءه وقد تبددت مخاوفه حين لم ير غيره - يصيح بما يعرفه من كلمات إنكليزية قليلة: - مستر .. انتظر.. أنا صديق. التفت الجندي إليه زائغ النظرات، كان يلبس بنطلوناً قصيراً، وقميصاً بنصف كم مهلهلين، والخوذة معلقة بماسورة البندقية، عاد معه، وجلس على مقعد الحلاقة المرتفع لحظتها انتبه سيد لشعر ذقنه الكثيف ونتف من القش عالقة به، ومنديل محلاوي بمربعات ملونة يلف رأسه. بدا أنه أطمأن لسيد حين رآه يكلمه بالانكليزية، وعمل له شاياً، وقدم إليه ما تبقى من فطوره - عيش وفول مدمس - غير أن الجندي فتح حقيبة صغيرة من القماش بلون ملابسه الكاكي كان يعلقها على كتفه، وأخرج نصف رغيف طري وبرتقالة. يقول سيد: إنه حكى حكايته بعد أن شرب الشاي، ولم يصدق كلمة واحدة مما حكاه. قال: إنه وخمسة من رفاقه تاهوا في الصحراء. - وكيف يتوهون وخنادقهم تغطى الجبهة؟ ساروا أياماً حتى عثر عليهم البدو وأوصلوهم الى أقرب مدينة، لا يذكر اسمها، ولم يدخلوها، كانوا يتفادون المدن، يسيرون ليلاً في الخلاء ووسط الغيطان، وينامون النهار، وحين يطمئنون لواحد يسألونه عن الطريق، كان الخمسة يقصدون معسكرهم في الشرقية، وأراد هو أن يذهب لمعسكره في بورسعيد، افترقوا. ورأى نفسه يوماً يسير على شاطئ بحيرة، عرف من الخريطة التي يحملها أنها بحيرة المنزلة، كان يقترب من بورسعيد. - أراني الخريطة، وأشار للبحيرة بها. آه. بحيرتنا، وبورسعيد.. آه.. هي. ظل متشبثاً بالشاطئ أثناء سيره، تبعده المنحنيات والتلال عنه ثم يعود إليه، والتقى بصياد قال له - بالإشارة - أنه لن يستطيع الوصول إلى بورسعيد مشياً، فلا طريق بري إليها من مكانهما، وباعه قاربه مقابل ساعته وخاتم من الذهب، وكان يريد الخوذة أيضاً غير أنه رفض أن يتنازل عن أي من مهماته العسكرية، وأعطاه الصياد منديل الرأس حتى لا تضربه الشمس، وشوى سمكاً أكلاه معا قبل أن يفترقا، وناوله الجندي وهو يخطو الى القارب ما تبقى معه من نقود. - لم أسمع أبدا بجندي يذهب الحرب. وفي الصحراء. ونقود في جيبه! وأشار له الصياد الى الاتجاه الذي يسلكه في البحيرة. جذف حتى تسلخت يداه، قضى ليلة بجزيرة، وليلة بجزيرة ثانية، وجزيرة ثالثة. - وقلت له إن بورسعيد في الجانب الآخر من البحيرة، وقال إنه لا بد فقد الاتجاه وهو يدور حول الجزر. حين اشتد به التعب توقف عن شاطئ رأى الخلاء يمتد فسيحاً أمامه، أرض بور تغطيها قشرة من الملح، وبيوت قليلة على بعد ودخان خفيف يتصاعد منها، وأشجار ونخيل. مشى نحوها. قابلته نسوة كن يزرن مقام الشيخ. - قصيدة مقام الشيخ بيومي. أعطيته عيشا وبرتقالاً وبيضة مسلوقة، وظل يمشي حتى جاء الى هنا. كانت الشمس ظهرت، وتجمع عدد من الزبائن في الدكان، يحدق الجندي في وجوههم ثم يلتفت يكلم سيد، ورغم أنه تناول كوبين من الشاي، ومص برتقالتين، إلا أن شفتيه ظلتا جافتين مشققتين. طلب سيد من الزبائن أن يبقوا معه حتى يخطف رجله لبيت العمدة، وكان متجهاً الى الباب حين نهض الجندي ليتبعه، أعاده سيد الى المقعد، وهمس له بأنه ذاهب ليأتيه ببرتقال. كان الجندي يرمقه صامتاً وهو يهمس له، ثم أدار وجهه الى االناحية الأخرى. تردد سيد قليلاً، وخرج. أطرق العمدة طويلاً، مستنداً بيديه وذقنه الى عصاه، كان يجلس بمدخل المضيفة، وسيد مقرفصاً جنب مقعده. قال العمدة: وما لنا بهم؟ هم والألمان هناك. أخرج علبة نشوق، دس قليلاً منها في فتحتي أنفه، عطس مرة وأخرى: - وصدقت ما قاله؟ - لم أصدقه يا حضرة العمدة. لو أرسلت معي خفيراً نحضره إلى هنا، فمعه بندقية. لوح العمدة بيده: وماذا سيفعل بها؟ لم يقل شيئاً آخر؟ - كل ما قاله قلته لك. - ومن شهر رأوا ثلاثة منهم شاردين في جهتنا، مع أنه مشوار طويل عليهم، من هناك إلى هنا. آه. كان خفيران متربعين أمام غرفة السلاح الملحقة بالمضيفة يشربان الشاي، وقد خلع كل منهما طاقيته يفليها من القمل. قال العمدة: يا سيد.. وسكت محدقاً نحو الخفيرين: - يا سيد. اتركه يذهب لحاله، حربهم وهم أحرار فيها. - لن ترسل خفيراً معي؟ - ولما تأتي به إلى هنا؟ يعود لقاربه. - مشوار للبحيرة يا حضرة العمدة. ومن يذهب معه؟ وربما لا نجد القارب مكانه؟ - صحيح.. طيب.. خذ خمسين قرشاً، اقطع له تذكرة في القطار. - إلى أين؟ - البلد الذي يريده. - يقول بورسعيد. وهي ليست على الخط. - اقطع له التذكرة والسلام.. وأركبه أي قطار. عاد سيد. اشترى أقة برتقال، ملأ به حقيبة الجندي، ورافقهما واحد من الزبائن الى المحطة، وقف الجندي بينهما ينظر الى قمم الاشجار والعصافير المتجاورة في سكون على أسلاك التلغراف تتأرجح خفيفاً مع هبات الهواء. جفل حين دوى صفير القطار قادماً.. أعطاه سيد التذكرة. لم يسأل عن شيء. مشى متمهلا الى سلم العربة. كان ظهر قميصه داكناً بالعرق والغبار. * كاتب مصري.