حاولنا تبيان بعض الثغرات التي تشوب مفهوم المجتمع المدني وكيفيات ممارساته على اثر نقله من المحيط الاوروبي الى المحيط المغاربي. وحاولنا في مرحلة ثانية ابراز السوابق والمنجزات التاريخية المغاربية وتوضيح ضرورة البناء انطلاقاً من مبدأ محاورة الثقافة لنفسها، ثم ذهبنا بعد ذلك الى ان هاتين المرحلتين سوف لا تتحققان الا بشرط اساس وهو ازدواجية النقد كتحليل لدينامية انتاج المفاهيم في محيطها الخطابي والمعملي وممارسة التأويل والاستقرائي في جدلية دائمة مع الذات وتتخلل هذه الذات نفسها. ومحاولتنا هذه لايجاد مفهوم جديد للمجتمع المدني هي نفسها مجهود في ممارسة النقد المزدوج كما عرفناه. الاستنتاج الذي بلغناه في هذا الشوط يتلخص في ضعف وهشاشة المجتمع المدني كما يمارس عندنا في الظروف الراهنة. ضعف في بناه ومؤسساته، وفي قوته كمفهوم تحليلي ونقدي. واذا قمنا بسدّ هذه الثغرات فإننا لا شك نكون قد استبدلنا هشاشة المفهوم المنقول بصلابة مفهوم مستنبط وتحاشينا تسخيره لاهداف خاصة سواء من طرف الدولة او من طرف التنظيمات الاخرى التي تهدف قبل كل شيء الى الوصول للحكم، خاصة منها التنظيمات الحزبية. ويرجع الضعف الحالي الى ان المجتمع المدني في المحيط المغاربي غالباً ما يردد كشعار تبقى خلفياته الفلسفية والادبية والتاريخية مبهمة. وهذا الابهام الذي يستعمل لاغراض ربما تكون مضادة لأهدافه، يؤدي الى مسخه وتحويله الى صور تزيح عنه جدية اهدافه. والسؤال الآن هو كالتالي: هل هناك من مشروع يساعدنا على تجنب الثغرات والمفارقات التي ظهرت في ما سبق وحلّلناها الى حدّ الآن؟ V الجواب على هذا السؤال جد صعب، ويتطلب بدون شك مجهوداً جماعياً نتناوله بالتحليل والمناقشة العميقين، ولا يسعنا هنا الا الاشارة لبعض الافكار الاولية التي من شأنها ان تساعد على تطوير السؤال وتمهد الطريق لاجوبة عميقة. فانطلاقاً من النقد المزدوج ظهرت سلبيات النقل المتسرع الذي لا يتحرى الخلفيات المشار اليها سابقاً، وظهرت حتمية توليد التنظيمات والافكار من الجدلية الاجتماعية والتاريخية الخاصة بالمجتمعات المغاربية. وهنا نسجل اتفاقنا مع عدد من المفكرين من امثال الاستاذ محمد عابد الجابري في نقطتي الخصوصية والديموقراطية ، وبعبارة أدقّ في كون النداء بالاصلاح بالديموقراطية كان قد ظهر منذ اواخر القرن الماضي بصفة ملحّة ونما مع نمو الحركة الوطنية، ولا يزال موجوداً الى اليوم. ومع تسجيل نقطة الاتفاق هذه يجب ان نتساءل: هل يمكن بذلك اغفال مفهوم المجتمع المدني والتفكير في تنظيماته كوسيلة لتعميق الديموقراطية؟ الا يمكن ان ننطلق من الخصوصية نفسها لتوظيف الوسائطية والحد من سلطة الدولة الموجودين في تاريخ البنيات الاجتماعية المغاربية؟ ولا بد ان نلاحظ هنا ان الدولة وسلطتها ارتبطتا ارتباطاً عضوياً بمفهومي الامة والجماعة وذلك حتى تاريخ قريب منا. بل ولا يزال هذا المفهوم قائماً في المغرب وفي بعض الدول الاسلامية الاخرى. واذ يتقلص هذا الارتباط مع ظهور وبناء الدولة الوطنية بصيغ متفاوتة في تونسوالجزائر والمغرب لان الشعور الجماعي واخلاق التعاضد لا زالت قائمة في المعاملات وفي صراع عنيف مع اخلاق الفردية التي سيطرت على قطاعات واسعة وفي طليعتها السوق والمعاملات، وهذه الاخلاق لها مرجعيتها في المفهوم الديني للأمة، لكنها انسلخت عليه من حيث انها توجد في تركيبات دينية وفي تركيبات اخرى مرجعيتها التواطن والقومية. واذا قلنا ان التيار الديموقراطي والنداء بشعار الدولة الوطنية شيئان لا يمكن عزل الواحد منهما عن الآخر، فان هذا لا ينفي وجود نزاعات داخلية اخرى ولا سيما تلك النزعة التي تعطي الاسبقية لبناء الدولة الوطنية سياسياً واقتصادياً، وتغفل الديموقراطية او تضعها كأفق للمدى البعيد مثال المغرب وتونس او انها تنبذها وترفضها لصالح الحزب الوحيد الجزائر. والديموقراطية كمؤسسات تبقى صورية ان هي لم تقم بدمقرطة السلطة وبث روح المناقشات الحرة بداخلها. وعليه فانه لا بد لنا من تبني شيء من الجدلية في هذا المضمار: لا بد من مؤسسات ديموقراطية ولكن لن تكون هذه المؤسسات الديموقراطية فاعلة اذا غابت عنها ديموقراطية السلوكات اليومية، وهنا تبدو اهمية المجتمع المدني كجهد دائم لتعميق ديموقراطية السلوكات اليومية في ميادين العلاقات الشخصية والعائلية والتربية والمعاملات التجارية والاقتصادية والسياسية، وفي ميدان التنافس نفسه بما في ذلك لغات المناقشة وطقوسها، وهنا ايضاً يستحسن التذكير بالرصيد المغاربي في ما يخص آداب التواصل، والاخذ والردّ في جميع المبادلات، وجميع المناقشات، بل والمناقشات. ولا يخفى ان النزعات السلطوية قد سيطرت في ظل التحديث الاستعماري وانها دخلت صراعاً عنيفاً مع التنظيمات السياسية والنقابية الجديدة التي ظهرت مع هذا التحديث وتأصلت مع الاستقلال وبناء الدولة والمجتمع الوطنيين. ومن هنا تكون طبيعة هذا المجتمع الوطني اذ تكمن في توحيد تراب وطني، والتحكم في مناطقه وفئاته الاجتماعية عن طريق البنيات التحتية الحديثة، وباستعمال الوسائل العسكرية والادارية الفعّالة، ثم اخيراً تكوين سوق موحدة تابعة لسوق الدولة المستعمرة. وهذه المعطيات الجديدة لا محالة ساعدت على تغلّب النزعات السلطوية في بناء الدولة الوطنية وتهميش التيارات الديموقراطية. ولا شك ان ملحقات الاستعمار وظروف الاستقلال قد حتمت اعطاء الاولوية لبناء الدولة وتوحيد المجتمع كما يشير الى ذلك الاستاذان عتلي الكنز وعياض عاشور. لكن يبقى السؤال المطروح هو هل كانت هناك حتمية ما تدفع بشكل ميكانيكي نحو هذا النوع من بناء صرح الدولة والمجتمع الموحد؟ ومهما يكن من امر فان حصيلة هذا النوع من البناء اظهرت سلبياتها التي تتلخص في اضعاف المجتمع وتفتيته مع ما يصاحب ذلك من تخريب للسوق او اضعافه كما حصل في الجزائر، واخيراً اضعاف الدولة نفسها حيث ان نجاحها يأتي سياسياً تواكبه بالضرورة خسارتها للمشروعية الاجتماعية والادبية. ويأتي المجتمع المتفتت ليحلّ محل المجتمع المتفرق بحكم الهويات والقبليات والمصالح المحلية الضيقة. يبقى المشكل اذن متعلقاً من جديد كوسيلة للحكم بنوعية التنظيمات الوسائطية. وقد وصفنا المؤسسات الوسائطية التي كانت تلعب دوراً مهماً قبل الاستعمار وما زال بعضها قائماً بصفة قوية أو ضعيفة. ويبقى المجتمع في هذه الفترة الحاسمة رهيناً بين دولة قوية في وسائلها المادية والتقنية، ضعيفة في مشروعيتها، وتيارات أخرى بعضها اقتنع بقبول التعددية كما حصل في المغرب، وبعضها لا يزال يتشبث بفكرة بناء المجتمع القوي انطلاقاً من نظريات وممارسات احادية وضيقة كما يتجلى ذلك في تونسوالجزائر في صورة الحزب المهيمن أو الجهاز العسكري المسيطر والمطعم بتشكيلة مدنية ضعيفة، وهو ما تتجلى ملامحه في المغرب، حيث تتعايش التعددية مع مراكز دار الملك الذي يوجه مسار البلاد في إطار تشاور دستوري ضعيف. وأهم ما ظهر على الساحة في جو التفتيت هو الفصل بين الوطنية وشعار الأمة الذي أعادت تعريفه وانتاجه حركات تبنت فلسفات إسلامية عن طريق إعادة النظر في معاني القرآن والحديث وتجربة الخلفاء الراشدين. وهذه التيارات، ومن أهمها تيار الاخوان المسلمين ليست بجديدة، والجماعات الأخرى التي ظهرت بعد انهزام الجيوش القومية في سنة 1967 أمام القوة الإسرائيلية، كما تقوت جاذبيتها مع الفتور الذي أصاب التجارب التنموية خلال السبعينات والثمانينات. والشعار الأساسي لهذه التيارات هو شعار الأمة الإسلامية الموحدة لمعالجة مشاكل القرن العشرين والقرون الآتية، وتفادي ما اعتبروه فشلاً فادحاً للقوميات والدولة الوطنية في تقوية المجتمعات المسلمة. وقد ظهرت قوة هذا التيار في المناقشات والصراعات العنيفة والدموية التي تدور رحاها الآن في الجزائر. وظهرت قوتها في تونس كما كانت لها جاذبيتها في المغرب على رغم ضعف قاعدتها الشعبية، بالاضافة إلى المحاولات الجارية لادماج بعض فصائلها في التركيبة السياسية المغربية الراهنة. لقد سبق وبينت قصور الرؤية التي تأسست عليها هذه التيارات، وقصورها كرؤية نقدية للماضي والحاضر. وقد يظهر هذا القصور في رفضها لتحليل التجربة التاريخية الخصبة للأمم الإسلامية بما فيها عصر النبوة وعصر الخلفاء. والتجربة المغاربية هي جزء من تلك التجربة الخصبة والغنية ولا يملك الشخص إلا أن يستغرب لهذه النظرة التي تعتبر كل ما جاء به المسلمون في سائر القرون باستثناء الستين سنة الأولى هو انحطاط وانحراف يجب تقويمه بالوعظ والوعيد والقوة! وما يمهنا هنا بالخصوص هو نظرية الحاكمية التي يشهد بها لله وتسند حراستها لزعماء هذا التأويل الجديد لنظرية الأمة. وبعبارة أخرى فإنه يتم بذلك تأليه نظرية بشرية للأمة أو حصر المعاني الالهية في نظريات أتت بها طبقة بشرية معينة. وهذا خطر تجنبته التجارب التاريخية للمسلمين بوسيلة قيود الخلاف في المذاهب وتحاشي البحث فيما تكنه ضمائر البشر، ومن جهة أخرى يبرز اختلاف الدعوات الدينية والسياسية وصراعاتها قبول التعددية لمفهوم الإمامة، وأما جمع كلمة الأمة فكان في تجربة المجتمعات المغاربية إلى زمن قريب التاسع عشر يترك مجالات شاسعة لا اختلاف كيفيات العيش والمشارب، وتجربة الشعوب المغاربية لا تختلف كثيراً عن تجارب المجتمعات الشرقية، ولم تنجح نظرية الحاكمية المنسوبة لله إلا بالفوز في بعض الأقطار وذلك بفضل استعانتها بعصبيات قبلية. وتدعي هذه النظرية بأنها من صميم الديموقراطية الحق حيث تنبذ عبادة البشر للبشر كما يحصل في النظم الديموقراطية الغربية حسب هذه النظرية. إنما يفتح باب العنف لأن مشكل الحسم في الحكم - المقاييس التي تبنى عليها حاكمية الله سوف يبقى قائماً، ولا سبيل للحسم فيه. ويكون بذلك سبباً في انتفاضات لا نهاية لها، وكل ذلك باسم حاكمية الله، وفي التجربة المغاربية على هذا الجانب أمثلة عدة أيضاً. وخلاصة القول إننا نرجع هنا لمنطق العنف والهيمنة، وهو منطق يتناقض مع منطق حرية التنقيب والسؤال الذي ترفضه هذه النظريات في ممارساتها للنقد المزدوج. فإذ تشرع حرية التساؤل فها هي في الوقت نفسه تذهب بعيداً في العمل على خنق حرية الاجوبة. ويتمثل ذلك في غض النظر عن فعالية البشر في تعريف حاكمية الخالق. ومن هنا أيضاً ينبع عداء هذا التيار لكل أنواع التعدديات، واستعمال المجال الذي تفتحه كوسيلة فقط لا استيلاء على مراكز السيادة والقوة لا كمجال تكون قيمته في حد ذاته كتوسيع مستمر لفضاء استقراء الوحي. والثورات التاريخية والفلسفية والعلمية والأدبية، ونعثر هنا بالطبع على المفارقة التي يستفيد منها هذا التيار ألا وهي الدفاع عن أصحابه باسم الحريات وطرف الديموقراطيين ودعاة المجتمع المدني بينما هم لا يظهرون لهؤلاء إلا العداء والاستهزاء! وعلى العموم فقد بلورت التجربة التاريخية المغاربية مجالات عدة تحكمت فيها أعراف وقوانين، وذلك قبل وخلال الفترة الاستعمارية ثم بعد حصول هذه البلدان على الاستقلال. كما بلورت قوميات بمؤسسات بما في ذلك مؤسسة الدولة الجديدة، وبلورت سوقاً موسعة مع اتساع مجال توزيع الأشغال حسب التخصص التقني. وهنا يمكن للمفكر الاستعانة بحصيلة التجربة الغربية، لأن الاستعانة بحصيلة تجربة أخرى لا تعني تقليدها. فالتقليد غير ممكن بسبب اختلاف الظروف، ومن المسلم أنه لا يسفر عن نتائج مرضية نظراً للعيوب التي تقلص من فائدته حتى في محيطه. وقد أظهرت التجربة نقص المجتمع المدني من حيث قصوره في التحكم في الفوارق الاقتصادية والحد من الأنانيات المفرطة. ان صفة المواطن المشارك في السياسة الوطنية بالانتخابات يعبأ بالحد من الفوارق الاقتصادية إذا كان من الطبقات المحظوظة أو ليست له قدرة كافية لتغييرها إذا كان من الطبقة الفقيرة الضعيفة الامكانات، وتظهر هذه التجربة أيضاً نقص بعض الحلول التي اقترحت وتم تجريبها المعسكر السوفياتي مثلاً. وتمثل هذا الحل في التخلي عن القومية وصفة المواطن المشارك في الحكم الديموقراطي، وتفعيل بناء مجتمع مبني على العمل وتعاضد العمال وتقيّم المردودية بحسب الجهد لا بحسب رأس المال ماركس. والحل الذي اقترح لهذا الإشكال تمخض عن فشل الثاني وانتصار السوق الحرة مع هيمنتها على العالم. وقد تسبب ذلك في الاخلال بالتوازنات وتفقير مناطق لحساب مناطق أخرى، مع ما صاحب ذلك من هجرة مستمرة للرأسمال، وتكريس لهيمنة جماعة معينة على الحكم، وإحكام قبضتها على التقنيات والمعلوميات، والقدرة الفائقة على إدارة الصراعات عن طريق رأس المال. وتتمركز هذه القوى اليوم في الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا واليابان واستراليا. وهي تساهم في تفقير فئات عدة داخل هذه المجتمعات نفسها، كما تساهم في تفتيت هذه المجتمعات وهو ما يشغل تفكير العديد من مفكري هذه البلدان بشكل كبير. ومع تبنيها لشعارات الحرية في الواقع تسفر التفاوت العلمي في ممارسته، لا حرية الاختيار المنبثقة على حرية السوق، لا تثبت ممارستها إلا إذا ضمنت للشخص الامكانات المادية المعرفية لتلك الممارسة. ولهذا فإن هذه التجربة نفسها تدفعنا إلى التأمل في تجربتنا الخاصة. وهنا نجد الرصيد الخاص بنا يتمثل في الالحاح على مصلحة الجماعة من غير تعميم للقطاع الاقتصادي ولا تفكير في حصر هوية الانسان في الشغل كما ذهب إلى ذلك ماركس والذين طبقوا افكاره وفي هذا الصدد يمكن استنباط مفهوم أخصب للمجتمع المدني ستمثل في المشاركة في السوق الرأسمالي لنفسه وللفئات غير المحظوظة، في صورة شركات تعاضدها النقابات والتنظيمات الأخرى المستقلة على السوق والدولة، والمبنية على مفهوم التكافل الاجتماعي وهذا النوع الخاص من الاجتهاد مستوعب من الاخلاق الاسلامية ومن تقاليد راسخة في ذهنياتنا وإن سلمنا باختلافاتها. ويجدر بنا هنا أن نلاحظ أن جهدا كهذا يتفادى الثنائية المعرفية والعملية التي تتمثل في الاختيار بين قطاع عام وقطاع خاص، ان الشركات التعاضدية للفئات الضعيفة الدخل تصبح جزءاً لا يتجزء من القطاع الخاص. إن عملا من هذا النوع ينبني على الرصيد الثقافي والديني بما في ذلك مفهوم الأمة. وهذا التعاضد العملي لا يقبل التفرقة بين الأشخاص ولا بين النساء والرجال ولا بين الشباب والكهول حيث المعيار الوحيد يكمن في توطيد صرح الجماعة بايجاد حلول للتخفيف من الفروقات واستيعاب جهود وقدرات جميع الأفراد. وبنية كهذه تصحح ثغرات القومية والمواطنة اللتين تقيمان مجتمعهما على أساس هوية مثالية لا تبالي بالمعاناة اليومية التي يتسبب فيها الفقر والحرمان الناتجان عن الوحشية والاستئثار الأناني. وإذا ما تحقق ذلك، أو تحقق الطموح إليه، فإن ذلك يكون بمثابة التنزه عن المادة، وفي نفس الوقت يبذل الشخص أقصى جهده في كسبها. والزهد للكسب يصبح عبادة كما عبر عن ذلك كثير من مفكري الاسلام. والتنزه عن المادة يتحدى النطاق الشخصي والعائلي والوطني حيث يتوق الى حشدها في سبيل مجتمع أوسع من التنظيمات الاجتماعية. وحصيلة ما قلناه في هذا المضمار هو أن مفهوم الأمة وممارستها يأتي قبل كل شيء كمجهود بشري لتفسير الوحي وما سنته الرسالة المحمدية. وبما أن هذا الجهد بشري فلا بد له من ان يعترف بحق الاختلاف في تصور الأمة والجماعة. وهو أمر أصبح ضروريا أكثر من أي وقت مضى، ان الأمة تعيش في محيط جديد يصعب حصره: فصائل الأمة تعيش في أوروبا وأميركا والصين والهند في ظل نظم غير اسلامية، اما اشتراكية أو رأسمالية ليبيرالية، أو ديموقراطية اشتراكية. وفصائل أخرى تعيش في البلدان الاسلامية تتشبث بحرية الضمير والممارسات وتنادي بالتعادل بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة، فصائل تتشبث بحكم التجربة التاريخية بالشعائر والمعتقدات الدينية ولا تحكم الممارسات السياسية بمنطق ديني محض. فكل ادعاء باحتكار مفهوم حاكمية الله يصبح بمثابة وسيلة على هذه الفصائل كلها. وتعترف هذه الفصائل علانياً أو ضمنياً بالسيمة البشرية لتفسير الوحي وتأويله، بينما الفئات المتشددة ترمي الزامها بمفهوم خاص للأمة وتضفي عليه صفة كلام الله مع أنه، كتأويل، لن يكون إلا كلاماً للبشر! والرصيد الخاص يساعدنا هنا على اعادة النظر في مفهوم الأمة. والظاهر ان تساكن هذه الفصائل والانتظام داخل القوميات ومؤسساتها ما هو الا امتداد لتطور تاريخي فصل عمليا الخلافة عن مؤسسة القوة في الدولة بعد العصر العباسي الأول وتمثل في وجود دول مختلفة تحكم مجموعات اسلامية متفرقة، تعترف أدبيا بخلافة قائمة، كما كان الأمر أيام الخلافة العثمانية، أو لا تعترف بخلافة واحدة حيث تكون هناك خلافات متعددة قائمة. والأهم هو أن هذه الحالة التي تعترف بصلة الاخوة في الدين والتعددية السياسية أصبحت على مر العصور تكون اجماعا عمليا للأمة، التي قبلت الوطنيات. ولا زال هذا الاجماع العملي قائما ثابتا رغم نضال الاقليات المتشددة. وحتى الأنظمة التي تقوم على أساس تأويل لمفهوم الأمة كمجموعة بشرية دينية بتنظيمها السياسي الخاص هي نفسها في طريق الاندماج بين الوطنية والاسلام، كما يدل على ذلك تطور النظم في ليبيا والسعودية وايران. فهل يدل هذا الاجماع العملي على تعددية سياسية في ظل الاتصال والتعاضد الديني والثقافي؟ وإذا صح هذا فظاهر أن الأمة لا يمكن حصرها في مفهوم سياسي وتنظيم مؤسساتي معين. وهذا لا ينفي تكوين مؤسسات للدفاع عن العقيدة ونشرها. ومؤسسات كهذه لا يسعها إلا الاعتراف بتعددية المذاهب القائمة منذ قرون والا فستصبح هي الأخرى دعاة للفتنة والضعف، الشيء الذي يتجلى اليوم في حياة المسلمين. ان تعددية الأنظمة السياسية لا يعزلها عن الأمة حيث كل نظام سياسي يمكنه التعامل مع المذاهب والمؤسسات التي تمثل الأمة، وهذا التعامل يمكن أن يتم على نطاق التمويل والتعاون مع الاعتراف بتعددية المذاهب والمشارب وبما أن مساعي الأمة أوسع من مساعي الدولة القومية الوطنية والانتساب للكيانين يتم على أساسين مختلفين. ولذلك لا يعتمد قانون الأمة في العلاقة ما بين الأشخاص والدولة القومية وهو قانون أكل عليه الدهر وشرب وأصبح بدون مفعول سماء في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين داخل البلدان التي يعيش بها المسلمون تحت أنظمة لا تمت لمفهوم الأمة بأية صلة، بل وأكل عليه الدهر وشرب في البلدان العربية نفسها، حيث لا يمكن تصور كيان فلسطيني مبني على قانون الذمة يخضع له المسيحيون الذين ضحوا بأموالهم ودمائهم في سبيل شعب موحد ومستقبل يتكون من المسلمين والمسيحيين. ونفس المنطق ينطبق على قانون الردة. وهنا كثرت الكتابات بين المدافعين عن هذا القانون والمنتقدين له. والبناء على هذا الرصيد ممكن كما ان الفكر السلفي المتمثل في كتابات علال الفاسي كانت قد فتحت مناقشة هذه القانون، وبهذا يكون قد استدعي البحث والتنقيب فيها من جديد قصد التخلي عن قانون يتعارض مع منطق حرية الضمير الذي يتشبث به المسلمون. وللمسلمين أسلحة أخرى في محاربة الردة وهي "طرد" المرتد أو المرتدة من دوائرهم الاجتماعية والأدبية والاقتصادية. والتوفيق بين يثبت داخل تنظيمات للأمة في هذا النوع من التعامل الدولة ولا يمكن آنذاك رميها بالتكالب على الحكم وتفضيل الدنيا عن الدين، وهو ما آلت إليه العديد من التيارات التي قامت في أول الأمر على صورة المدافع عن أصول الدين. والمجتمع المدني بهذا المعنى لا ينحصر في التنظيمات الوسائطية بين الدولة والمجتمع لكنه يكون بمثابة فضاء لتمحيص الرصيد الثقافي والبناء على أساسه. وهذا التمحيص يثبت في احياء التراث على أساس النقد المزدوج الذي يسهل الاستعانة بالتجارب الأخرى، مع تجنب النقل الأعمى. والنقد والتمحيص يشملان التنظيمات الوسائطية نفسها التي لا بد أن عد لتكرار وعيها بذاتها. وهذا الوعي الجديد والتجدد بالذات لا مناص من تطويره لكي تقوم هذه التركيبات بإعادة تركيبها كوسائل لتطوير المجتمع والنظر في مشاكله ومشاغله اليومية لا كوسائل للاستيلاء على دواليب الدولة وهذا لا يمنع الأفراد المنخرطين في هذه التنظيمات من الخوض في السياسة والطموح للوصول الى المسؤولية داخل تنظيمات الدولة. لكن ما يتم بفضل مجتمع مدني حي هو ان التقرير والحسم في المشاكل المصيرية يسقط قسط وافر منه في أيدي الأفراد والمجموعات النشطة داخل تنظيمات المجتمع المدني بدء من التقرير الاقتصادي كما سبق وبينته من خلال مساهمة المجتمع المدني في الأسواق الرأسمالية نفسها. والوعي بالذات يتمثل أيضاً في الوعي بالرصيد التاريخي والثقافي اللذين يدفعان بالمقارنة الى امعان النظر، فيما هو موجود وممكن في الثقافات العربية والاسلامية، وليس نعتها بالنقص كما يفعل الاستشراق المغرض. ان النظر الى ما هو موجود ويوجد على طريق الاجتهاد والاستقراء يتحاشى سجن الفكر والعمل في محيط التجربة الأوروبية الضيقة وخصوصياتها للخوض في تجارب متعددة، وعلى كل حال يجد الباحث نفسه منفصلاً عن تلك النظريات التي تقول بمسار تاريخي موحد لانجاز الحداثة، ومحرراً من سجن مفهوم موحد أحد للحداثة والمجتمع المدني. ومخرج أيضاً تاريخية تحقيقه الخاص بأوروبا ان سلمنا بهذا المسار التاريخي كما أتى به المنظرون. وهنا تبرز أهمية البنيات التي كانت تحد من هيمنة الدولة وأهمية التنظيمات التي كانت تقوم بوظائف حيوية في السوق أو خارج السوق بأنواع متفاوتة من الاستقلالية عن الدولة أو في فترات غياب جهاز الدولة ويمكن الاستفادة منها كتجربة تاريخية رسخت امكانية الاستقلال عن الدول في حل المشاكل اليومية وتجنب تمركز السلطة، وهذا الرصيد يمكن أن يعيش وينتعش مع تلاقي بعض هذه التنظيمات نفسها. ويمكن أن يبقى وينتعش مع نمو بعضها كالزوايا مثلاً. وليس هناك عاملا يمنع من تطور تنظيم الزوايا ونموه. ان الرصيد الثقافي زاخر بالتجارب والاجتهادات. ومنها تجارب التسيير والحكم قبل الهيمنة الامبريالية والتجارب التي تمخض عنها الاستعمار ونمو التيارات القومية الخ. وكل هذا كون مساراً تاريخياً وارتباطاً بأوروبا فيما هو مختلف عنها في نفس الوقت. وخلصت المجتمعات من هذه التجارب القوية الى وضعية تعددية. أي كمجتمعات يمكن في ظلها بناء مجتمع جديد لا يتوسط بين الدولة والمجتمع فحسب بل يتوسط منطقياً المفارقة الكامنة في تفجير السوق الحرة للابداعات العلمية والفنية مع تعبئتها الدائمة للتواصل بين الناس. ووساطة الرصيد الثقافي للمجتمعات المغاربية في هذا المضمار هي الحد من قساوة السوق على أساس أدبيات وأخلاق الأمة والأعراف المغاربية الجماعية الراسخة، واقتران قساوة السوق الحرة بغزارة ابداعياتها هي المفارقة التي تدفع بأوروبا وأميركا الى الأمام، وفي نفس الوقت تمزق تواصلات أفرادها وتجعل مفكريها منشغلين بالخوف عن مستقبلها. أشكر الأساتذة الأصدقاء محمد بنيس وأدونيس وعمر بنميرة على مساعدتهم الثمينة لي على صياغة هذا المقال. * أستاذ الانثروبولوجيا في جامعة برنستون - الولاياتالمتحدة الأميركية.