كثرت في الاسبوع الماضي البيانات من الأطراف المعنية بقضية لوكربي، وكانت جميعها تقريباً متضاربة. من هذه ما قاله وزير الخارجية البريطاني ان الاتفاق قد تم في الواقع بين الجماهيرية الليبية وبريطانياوهولندا على محاكمة المتهمين عبدالباسط علي المقرحي والأمين خليفة فحيمة في هولندا على يد محكمة اسكوتلندية من ثلاثة قضاة. ومن وزيرة الخارجية الاميركية جاء بيان مماثل، وفي مقابلة تلفزيونية مع العقيد معمر القذافي جاء ان ليبيا تشكك في نيات اميركا وبريطانيا، ولكنها مع ذلك تقبل بفكرة المحاكمة في هولندا بعد الاستيضاحات والضمانات. وأصدر مجلس الأمن الدولي قراراً مفاده ان العقوبات المفروضة على ليبيا ستلغى حال وصول المتهمين الليبيين الى هولندا. ثم انقلبت الآية تقريباً عندما قال المسؤول الليبي ان الجماهيرية تريد المزيد من التفاصيل عن مشروع المحاكمة وتريد توضيح بعض النقاط الغامضة فيه عن طريق التفاوض. وكان رد الفعل على هذا من جانب اميركا وبريطانيا ان لا حاجة للمفاوضات وان الحديث عنها إن هو إلا ذريعة للتهرب من المحاكمة في هولندا والتراجع عن قبول ليبيا بها. إن فكرة اجراء محاكمة في هولندا حسب قانون اسكوتلندا على يد ثلاثة من القضاة الاسكوتلنديين فكرة جديدة لا سابق لها في العلاقات الدولية والنظم القانونية العالمية. لقد سبق طبعاً ان عقدت محاكمات جنائية خارج أراضي الدولة التي ينتمي اليها المتهمون أو الضحايا أو التي وقعت فيها الجريمة وذلك على يد قضاة دوليين طبقوا نظاماً خاصاً صيغ لهذه الغاية. والأسبقية المعروفة في هذا الخصوص هي محاكمة نورمبورغ لمجرمي الحرب الألمان بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه المحاكمة صيغ لها خصيصاً قانون يفند تفاصيل التهم واسلوب التعامل في التحقيق فيها وفي محاكمة المتهمين. ولكن ليس هناك سابقة لمحاكمة جرت في بلد ما بشأن جريمة ارتكبت في بلد آخر وحسب قانون ذلك البلد. في قضية لوكربي الجريمة إذا كانت هناك جريمة لأننا لا نعرف بالضط نهائياً كيف حصل الانفجار قد ارتكبت في البلد الذي وضعت فيه المتفجرات أو في البلد الذي حصل فيه الانفجار. وتنص معاهدة مونتريال الخاصة بالجرائم المتعلقة بالطيران المدني المعقودة عام 1971 ان محاكمة المتهمين بالجريمة تجري في البلد الذي وقعت فيه الجريمة أو في البلد الذي تنتمي اليه الطائرة أو تحمل علمه أو في البلد الذي ينتمي اليه المتهمون بالجريمة، وفي هذه الحالة ليبيا. ولكن كلاً من بريطانياوالولاياتالمتحدة قد أعلنا أكثر من مرة أنهما لا يقبلان ان تكون ليبيا البلد الذي تجرى فيه المحاكمة. وهم لا يقولون صراحة ما هي حجتهم، ولكن الحجة معروفة طبعاً. مشروع محاكمة المتهمين في هولندا حسب القانون الاسكوتلندي مشروع غامض يحتاج الى توضيح في كثير من الوجوه. ونذكر في ما يأتي على سبيل المثال لا الحصر بعض علامات الاستفهام التي من الضروري الالتفات اليها من جانب السلطات البريطانية والاميركية والاتفاق عليها مع السلطة الليبية. 1- القانون الجزائي في بريطانيا: في هذا البلد نظامان: القانون الانكليزي الذي يسرى على انكلترا وويلز وايرلندا الشمالية، والقانون الاسكوتلندي الذي يسري على اسكوتلندا وحدها ويختلف عن القانون الانكليزي في كثير من الوجوه، ولا يمكن تطبيقه خارج الأراضي الاسكوتلندية. ومشروع المحاكمة في هولندا يحتاج الى استصدار قانون خاص من البرلمان في لندن. وهذا القانون يجب ان يحدد الأمور الآتية: صلاحية القضاة الثلاثة من دون المحلفين. فحسب قانون اسكوتلندا تجري المحاكمات الجنائية أمام قاض واحد ومعه محلفون وهم أناس عاديون يختارون من بين السكان المحليين. والقانون في اسكوتلندا يترك للمحلفين وحدهم صلاحية فحص البينة وتقديرها واستنتاج الوقائع ويترك للقاضي مهمة مراقبة العملية هذه وتطبيق القانون على الوقائع. والقضاة في بريطانيا في المسائل الجنائية باستثناء الجرائم الخفيفة مثل مخالفات المرور وما شابه ذلك لا يستنتجون الوقائع ومهمتهم تنحصر في تحديد العقوبة بعد ان يتوصل المحلفون الى الادانة بالجريمة. والقضاة الاسكوتلنديون الثلاثة اذا كانوا من العاملين في السلك القضائي في اسكوتلندا سيجدون صعوبة كبيرة في تولي وظيفة المحلفين في مثل هذه المحاكمة. 2- إذا توقف أحد القضاة عن المشاركة في المحاكمة لأي سبب من الأسباب فهل ينضم الى القضاة قاض جديد؟ وهل تستمر المحاكمة من المرحلة التي وصلتها عندئذ أم تبدأ من جديد، لأن القاضي الجديد لم يكن على علم بما حصل في المحاكمة؟ 3- كيف يتوصل القضاة الى قرارهم في أي موضوع في تقييم البينة والإدانة أو تحديد العقوبة أو في أي مسألة اجرائية تتعلق بسير المحاكمة؟ هل يكون القرار بالاجماع أو بالاغلبية؟ 4- هل تكون قرارات المحكمة في أي موضوع قابلة للاستئناف كما هي العادة في القضاء الجنائي في الظروف العادية في بريطانيا؟ ولمن يقدم الاستئناف وكيف يجري بتّه؟ 5- بأي لغة تجري المحاكمة: بالانكليزية أم بالانكليزية والعربية في ترجمة فورية للاجراءات بأكملها من أولها الى آخرها ولكل كلمة فيها؟ أم هل تعتبر اللغة الانكليزية اللغة الأصلية والمعتمدة؟ ولماذا يجري تفضيل لغة على لغة أخرى؟ ومن يختار المترجمين؟ وهل يكون للسلطة الليبية الحق في المشاركة في اختيارهم. 6- من هم المحامون المفوضون في المرافعة في المحاكمة: المحامون الاسكوتلنديون فقط أو المحامون الليبيون على نفس المستوى مع المحامين الاسكوتلنديين؟ 7- كيف يجري نقل وقائع الجلسات؟ هل يُسمح بنقلها حيّة في الراديو والتلفزيون كما هي العادة في الولاياتالمتحدة، وليس في بريطانيا أو في الصحف فقط؟ وهل تطبق على وقائع الاجراءات المنشورة القاعدة المعمول بها في بريطانيا وهي ان التقارير يجب ان تكون موضوعية فلا تؤيد أي جانب أو تنحاز له في أي شكل من الاشكال لأن ذلك يعتبر تدخلاً في مجرى العدالة وجريمة يعاقب عليها القانون بشدة؟ 8- في القانون عامة في بريطانيا تحرّم الأعمال والأقوال التي تبوح بأي سر للدولة أو تتحدث عن نشاط اجهزة الاستخبارات الحكومية: هل ينطبق هذا على جهاز الاستخبارات الليبي بمعنى انه لا يشار اليه في الاجراءات ولا تنقل أية معلومات عن هذا الموضوع الى خارج المحكمة، وجلسات المحاكم التي يكون فيها حديث عن اجهزة الاستخبارات تكون عادة سرية، فهل ينطبق هذا على المحاكمة في هولندا؟ وهل يشمل الغطاء جهاز الاستخبارات الليبية على نفس المستوى والى المدى نفسه الذي يشمل فيه الاستخبارات البريطانية أو الاستخبارات الاميركية؟ 9- في بريطانيا يمنع القانون الاشارة الى أية جهة واتهامها بأي عمل إجرامي او غير مشروع من دون توفير الفرصة كاملة لها للدفاع عن النفس. فهل ينطبق هذا المبدأ على هذه المحاكمة؟ 10 - في احد البيانات الصادر عن هيئة بريطانية جاء ان الحكومتين البريطانية والاميركية تنتظران من ليبيا ان تحضر الى المحاكمة افراداً ليبيين او موظفين في الحكومة الليبية وذلك للاستجواب وادلاء الشهادة وتقديم البينة. فهي يعني هذا ان ليبيا لا رأي لها في الموضوع وعليها ان تُنفّذ ما يُطلب منها من قبل هذه المحكمة او من قبل اي موظف بريطاني او اميركي له علاقة بالنيابة في القضية؟ 11 - هل يسمح لمراقبين أجانب ان يطلعوا على اجراءات المحاكمة كاملة، وهل يكون لهم الحق في ابداء الرأي حول هذا الموضوع في اجهزة الاعلام في اي بلد كان بما في ذلك بريطانياوالولاياتالمتحدة؟ 12 - من المسؤول عن رسوم ومصارف المحاكمة والقضاة والمحامين الذين يرافعون عن المتهمين او يقدمون لهم المشورة؟ من الذي يعيّن هؤلاء المستشارين او يطردهم او يبدلهم اذا دعت الحاجة. 13 - التعويض لعائلات الضحايا والمتضررين في الحادث: على اساس يقرر التعويض اذا ثبتت التهمة او لم تثبت ومن الذي يدفع هذا التعويض؟ 14- هل يضمن مجلس الامن او تضمن هيئة دولية رفيعة المستوى الالتزام بالشروط التي تُعقد بموجبها المحاكمة؟ 15 - ولعل هذه من اهم النقاط: من المعروف في القانون في العالم المتمدّن منذ وقت طويل ان الدولة لا يحق لها ان تنقل او تسمح بنقل اي انسان من اراضيها سواء كان مواطناً ام غير مواطن الى دولة اخرى للمحاكمة او لأي اجراء آخر ما لم تكن هناك معاهدة او اتفاقية بين البلد الذي يطلب التسليم والبلد المطلوب منه التسليم حول تسليم الفارين من العدالة. ومثل هذه المعاهدة تكون عادة على اساس التبادل بين الدول المتعاقدة. وليس بين بريطانيا وليبيا مثل هذه المعاهدة، ولذلك لا يمكن للسلطات الليبية حسب القانون في ليبيا ان تسلّم المتهمين في قضية لوكربي ما لم تعقد معاهدة مع بريطانياوهولندا حول هذا الموضوع توافق عليها الهيئة التشريعية في ليبيا وهي اللجان الشعبية. فاذا لم يقبل المتهمان في هذه القضية بالذهاب الى هولندا طوعاً واختياراً يتوجب الانتظار الى ان تتم الاجراءات التشريعية. وقد لا تقبل الهيئة التشريعية في الجماهيرية باستصدار مثل هذا القانون لسبب بسيط وهو ان اجهزة الاعلام في بريطانيا واميركا قد سبق ان دانت المتهمين وحكمت عليهما في اعلانات في الصحف ومقالات وبرامج في الاذاعة والتلفزيون منذ هذا الحادث الأليم تشير فيها كلها اليهما كمجرمين وارهابيين وقتلة، وليس كمجرد متهمين ابرياء الى ان تثبت ادانتهما - وهو المبدأ الذي تفاخر به بريطانيا عادة. هذه الاشكالات جميعها يجب البحث فيها برزانة وامانة من قبل جميع الاطراف المعنية قبل ان تقوم هيئة قضائية باستقصاء الحقائق. * محام مرخص له بالمرافعة في محاكم انكلترا واستاذ سابق للقانون الدولي وعميد كلية الحقوق في معهد العلوم في لندن جامعة وستمنستر.