كثيرة هي حكايات الرحالة والمستشرقين الذين شغفتهم القاهرة حباً حتى انتهى بهم المطاف الى الإقامة الدائمة في برّ مصر. لكن تظل تجربة الفرنسي بريس دافين Prisse D'avennes 1807-1879 الذي وفد على مصر في أواخر عهد محمد علي ومكث فيها الى أواخر عهد اسماعيل، واحدة من أكثر التجارب ثراءً وجدارة بالتأمل والاعتبار. إذ لم يكن دافين مجرد مستشرق يؤرخ ويحلل، بل كان كذلك فناناً تشكيلياً ترك مئات اللوحات التي تصور روائع الآثار الفرعونية والإسلامية وتنفذ الى صميم الحياة الاجتماعية للمصريين في القرن التاسع عشر، كما كان باحثاً في التاريخ المصري القديم ساهم في انقاذ آثار "طيبة" من الفناء واكتشف في معبد "خونسو" اثنتي عشرة غرفة، ولا تزال البردية "الهيراطيقية" تحمل اسمه الى اليوم. والى الدكتور أنور لوقا، الأستاذ المصري بالجامعات الفرنسية، يرجع الفضل في الكشف عن هذه التجربة الفريدة، حينما عثر بدار الكتب الفرنسية بباريس على مذكرات دافين التاريخية عن مصر والتي كتبها بالفرنسية وتقع في أربعة عشر مجلداً. في العام 1826 تخرج بريس دافين مهندساً معمارياً في مدرسة الفنون والصنائع بمدينة شالون. وكان يبلغ من العمر آنذاك تسعة عشر عاماً. ولما كانت فتوحات نابليون قد ألهبت خيال الشباب وغيّرت مفهوم الحدود الجغرافية لديهم، سارع دافين الى الانخراط في صفوف ثوار اليونان الذين أرادوا انتزاع استقلالهم من السلطات العثمانية. ثم أبحر بعد ذلك الى الهند حيث عمل سكرتيراً لحاكمها العام. وعاد بعد ذلك بقليل الى فلسطين. وهناك كانت تتردد أصداء حاجة محمد علي الى خبراء أوروبيين لتنظيم الجيش والمدارس وتنفيذ مشاريع الري والزراعة. وهكذا التحق دافين بخدمة الباشا العام 1829، مهندساً للري في أول الأمر، ثم أستاذاً للطبوغرافيا في مدرسة أركان الحرب بالخانكة، وفي الوقت نفسه مربياً لأحفاد محمد علي من ابنه ابراهيم. في الوقت الذي يستعد فيه المهندس النشيط لتقديم أولى مشاريعه للوالي: "مذكرة من أهم الأعمال التي يمكن تنفيذها في الدلتا" يعهد اليه ناظر مدرسة الخانكة عبدالله بك بطبع موسيقى الكتائب. لكن دافين يحتج ويرى في ذلك زجاً به في مهام تخرج عن نطاق اختصاصه، هنا تثور ثائرة "البك" فيهوي بالكرباج على دافين. وعلى رغم انتهاء الأزمة باعتذار من المسؤولين في نظارة الحربية، إلا ان مضاعفاتها تستمر لتسفر في النهاية عن نقل دافين الى دمياط استاذاً للتحصينات في مدرسة المشاة. ولكن همته لا تفتر، بل نراه يستطلع شمالي الدلتا، ولا سيما منطقة بحيرة المنزلة، ويقدم للوالي مذكرة أخرى في "تجفيف بحيرات مصر السفلى وزراعتها" إلا ان مصيرها لم يكن أفضل من سابقتها. وفي العام 1831 تتعرض مصر لاثنين من أشد الأوبئة فتكاً "كوليرا وطاعون" فيهرع دافين وسط أفواه الموت الفاغرة الى اسعاف المرضى والمصابين. وهناك يخالط الشعب المريض ويلمس بؤسه عن قرب. لقد تعمق مجتمع المصريين ودرس تفاصيل حياتهم وأتقن لغتهم ودعاه الجميع بإسمه الذي تحول من "بريس" الى "ادريس" الى "ادريس أفندي". غير أن طموحه في مزيد من الاحاطة بحضارة هذا الشعب لم يرتو بعد، فيشرع في دراسة الهيروغليفية التي فك شامبليون رموزها منذ سنوات قليلة، ويعيقه سلك الوظيفة الرسمية فلا يتردد في تقديم استقالته في العام 1836 ليفرغ تماماً الى رسالته التي ارتضاها لنفسه. وها هو في زيه العربي يجوب البلاد طولاً وعرضاً. ينتقل بين الفلاحين من قرية الى قرية، ومن الدلتا الى الصعيد، ومن الصعيد الى النوبة. وفي العام 1738 يستقر في الأقصر، موجهاً جهوده الى دراسة منطقة "طيبة". ولكنه يعاني الأمرين من تسلط موظفي الباشا، واستشراء عصابات اللصوص، وعليه أن يوفر لنفسه ولرجاله الحماية الكافية، وهكذا لم يكن ثمة مفر من الاصطدام المباشر بالسلطة مرة أخرى. ففي آذار مارس 1841 يقبض ناظر الأقصر على واحد من رجاله بغير وجه حق، ويأمر بضربه بالعصا، ويرفض اطلاق سراحه، فيحتد "ادريس أفندي". ويشتبك في معركة دامية مع الناظر التركي وخفره. وتكون النتيجة أربعة أيام في قاع أحد السجون يقضيها ادريس أفندي في صحبة عشرين فلاحاً عجزوا عن دفع الضرائب للباشا. وتشتد حاجة محمد علي الى أحجار لبناء معامل السكر ولتموين معامل البارود ما يدفعه الى الزام الفلاحين بأن يقدموا له على كل فدان مزروع قنطاراً من الأحجار، ولا مانع من أن يقتطع فلاحو الصعيد الأحجار له من الأعمدة الضخمة والتماثيل الموجودة في منطقة الكرنك. وتكثر الحالات المستعجلة التي يسوق فيها رجال الإدارة الفلاحين لتكسير الأحجار في هذه المنطقة. وتثير هذه الأنباء فزع علماء الآثار في أوروبا. ويهرع ليبسيوس على رأس بعثة بروسية لانقاذ "غرفة الملوك" الشهيرة في الكرنك، لكن ادريس أفندي يسبقه بأيام، وبعد جهود عنيفة ينجح أخيراً في فصل أحجار هذه الغرفة ويحملها الى متحف اللوفر في باريس. وفي العام 1858 - أثناء ولاية سعيد - يعود ادريس أفندي الى مصر. ولا يكاد يحط الرحال حتى يبدأ من جديد في تسجيل مشاهداته وملاحظاته في مختلف ربوع المحروسة. ويتوقف كثيراً أمام المعالم والآثار. يصورها بالقلم والكاميرا والألوان والقوالب. وإذا به في النهاية يتوفر على ثروة هائلة من المعلومات الجغرافية والبشرية والتاريخية والفنية واللغوية والاجتماعية، مادة خام سيرجع اليها فيما بعد حين يضع مؤلفاته عن الآثار المصرية وحين ينشر المقالات والبحوث في الصحف والدوريات لتعريف أوروبا بمصر. وإذ ذاك، تعرض عليه الحكومة الفرنسية منصب السفير في تركيا، فيعتذر مؤثراً استكمال بحوثه ومؤلفاته التي من بينها "الآثار المصرية" Les Monuments Egyptiens الذي يضم خمسين لوحة من القطع الكبير. أما كتابه "تاريخ الفن المصري، مأخوذاً عن الآثار، منذ أقدم العصور الى الحكم الروماني". فهو بمثابة "أطلس" يضم في مجلدين مئة وستين لوحة من القطع الكبير. وله أطلس آخر من مئتي لوحة في ثلاثة أجزاء عنوانه "الفن العربي مأخوذ عن آثار القاهرة منذ القرن السابع حتى نهاية القرن الثامن عشر". أما مذكرات بريس دافين عن مصر فيرى الدكتور لوقا أنها "وثيقة تاريخية قيّمة للمهتمين بحياة مصر الحديثة" وهي وإن لم تكن تاريخاً كاملاً للقرن التاسع عشر فإنها "تدعونا الى اعادة النظر فيه وكتابته بأقلام واعية محققة مخلصة للعلم والوطن" وفضلاً عن قيمتها التاريخية يثني الدكتور لوقا فيها على "طلاوة القصة، والخبرة والثقافة، وسعة الأفق الإنساني، والإحساس المرهف بالحياة الكامنة في تفاصيل مجتمعنا المصري". ويتسم حكم محمد علي في مذكرات دافين بطابع بوليسي خاص، يقول دافين "أطلق الفلاحون على محمد علي لقب "ظالم باشا" لفرط ما نالهم من التعذيب على أيدي مأموريه، فمن الكي بالقرميد الأحمر المحمي في النار الى تسمير آذانهم، الى تمزيق أجسامهم بضرب الكرباج". ويستكمل وصف حالة الفلاح فيقول "يغش رجال الإدارة الفلاح عند تقدير كمية ما تغل أرضه، بموازين ومكاييل زائفة. وإذا حل أوان البيع قيل للفلاح دائماً أنه لم يجن إلا قنطاراً رديء الصنف من الدرجة الثالثة. وفوق ذلك، يستطيع عدد غفير من الموظفين أن يطالبوه مراراً بدفع مبالغ من المال فإذا امتنع كان جزاؤه الضرب بالعصا. وإذا أذعن ودفع فوراءه الكرباج أيضاً لإرغامه على دفع مبالغ أكبر. وهم يأخذون الفلاح في السخرة، وبدلاً من أن يدفعوا له أجره يقولون له ان قريته مدينة للحكومة وتلك شريعة التضامن!". ويضيف: "وإذا ازداد رخاء المحصول في عام، ازداد بؤس المصريين لأن محمد علي يقوم إذ ذاك بعمليات أوسع. فمثلاً في العام 1829 كان الشعب يموت من الجوع، بينما كانت جبال من الغلال تحت إمرة الباشا من دون أن يكون للمصريين التعسين الاذن ولو بشراء شيء منها". والغريب أن أفراد الإدارة والجيش أنفسهم لم ينجوا - على ما يبدو - من هذه التركيبة النفسية لمحمد علي. يقول دافين: "حسبنا أن نلاحظ أن روح محمد علي في فرض الضرائب والنهب وعدم النزاهة في ابتزاز المال روح لا نظير لها. انه لا يود ان يدفع مرتبات لأحد، لا للجيش ولا للموظفين ولا للعمال، ويود أن يدبر أمره بحيث يخدمه الجميع مجاناً ما استطاع الى ذلك سبيلاً. فالضباط الحربيون والمدنيون، والجنود والعمال يلاقون أشد العناء في تحصيل مرتباتهم وأجورهم، وقلما يقبضونها نقداً، بل يجدون أنفسهم مرغمين في أكثر الأحيان على أن يقبلوها سلعاً خارجة من مصانع الباشا، مرغمين بعد ذلك - للحصول على نقود - على أن يبيعوا بثمن بخس السلع التي حسبها عليهم الباشا بثمن باهظ". وفي النهاية يجمل دافين شهادته على مصر محمد علي في قوله: "لقد قنع محمد علي بأن جعل الصحف الأوروبية تضج بإسمه، وانه أخضع الشعوب المحيطة به وأرهب السلطان في اسطنبول، وان الناظر الى جميع الأعمال التي زخرت بها حياته ليرى والياً متلهفاً الى المجد لا مشرعاً يضع أساس الرخاء الذي ينبغي أن يسود من بعده، ولا مجدداً يسعى الى اقامة العدل وتشكيل مواطنين صالحين لأعمال السلم من ناحية، مدربين على أساليب الدفاع من ناحية أخرى، ولا وطنياً يبث حب الوطن في نفوس الشعب ويشعرهم بأن بلادهم عزيزة عليهم. هو يعمل من دون أن يكون مستقبل الشعب هدفاً له. وحكومته حكومة فردية لا تستمد قوتها وهيبتها إلا من شخصه"