مقال صلاح عز رداً على ربعي المدهون "مواجهة ازمتنا أجدى من الهرولة وراء المؤرخين الاسرائيليين الجدد" "افكار" 8/8/1998 عيّنة من التفكير الذي يعاقب به المثقفون العرب والمسلمون انفسهم لاشعورياً عندما يعملون ضد مصالح شعوبهم وكلهم ثقة عمياء في أنهم يعملون من أجلها. لأنهم استسلموا لمشاعرهم السلبية ولأحقادهم على الآخر فأعمتهم عن رؤية مصلحة شعوبهم المفهومة فهماً صحيحاً. مقال صلاح عز اشبه بتداعي الخواطر التي تنساب من فمه او من ريشة قلمه كما ينساب الماء من شلال هادر. فما الذي أثار اشجان وأحزان صلاح عز فاندفع لا يلوي على شيء في رده المحموم؟ هو اقتراح ربعي المدهون "افكار" 25/7/1998 الاتصال بالمؤرخين الاسرائيليين الجدد واستثناءهم من مقاطعة الاسرائيليين التي نعاقب بها في الواقع انفسنا ونحن نظن اننا نعاقب "عدونا". وأضع واعياً عدونا بين قوسين لأن الاسرائيليين ليسوا اعداء لنا بل ابناء عمومتنا وجيراننا الذين قضت علينا حقائق التاريخ والجغرافيا بأن نتعايش معهم الى ان يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهم فوق ذلك اخوة لنا في الانسانية فيهم المليح والقبيح والطيب والخبيث مثلنا تماماً يتألمون كما نتألم ويأملون كما نأمل ويعملون مئة الف مرة اكثر وأفضل مما نعمل وتفويت الفرص المتاحة والاحقاد المجانية على غيرنا وعلى انفسنا. بعد سقوط نتانياهو وهو سقوط محتوم لأنه ليس منتخباً بپ99.99 في المئة من الاصوات ولمدى الحياة بل هو بفضل الديموقراطية الاسرائيلية مجرد ضيف على قصر الحكومة لمدة أربع سنوات اذا لم تقع انتخابات مبكرة تجعله يرحل غير مأسوف عليه قبل الأوان، قلت بعد سقوط نتانياهو ستكون اسرائيل حكومة وشعباً جارتنا الطيبة كما قال ربعي المدهون نقيم معها العلاقات الديبلوماسية العادية والمشاريع الاقتصادية والثقافية والعلمية المشتركة وسنتعلم ونستفيد منها اكثر مما ستتعلم وتستفيد هي منا. وقبل هذا وبعده سيكون السلام مع اسرائيل خيراً وبركة علينا لأنه سيسحب من حكامنا تلك الورقة المشؤومة التي قصوا بها ألسنتنا وكمموا أفواهنا وداسوا حقوقنا الانسانية "ضرورة التصدي للعدو الاسرائيلي". وحده السلام مع اسرائيل قادر على اسقاط ورقتهم تلك الى الأبد. واتصال المثقفين العرب بالمثقفين الاسرائيليين والمواطنين العرب بالمواطنين الاسرائيليين ضروري جداً لقضيتنا المقدسة التي هي السلام الشامل والعادل بين العرب والاسرائيليين. وهذا ما اوضحه مراراً وتكراراً الصديقان صالح بشير وحازم صاغية في هذه الصفحة وضم كاتب هذه السطور صوته الى صوتهما غير مبال بشتائم الاصوليين وأحقادهم وتهديداتهم. لكن صلاح عز مثل اصوليينا يرى ان ذلك هو الشر بعينه مقدماً على صحة دعواه مماحكات سفسطائية لا تليق بتلميذ ثانوية عامة فضلاً عن استاذ جامعي. فمن اخطر المآخذ التي يأخذها صلاح عز على المؤرخين الاسرائيليين الجدد انهم: "توصلوا بعد جهد شاق وتنقيب مضن الى الحقائق الموثقة نفسها التي لم نتوقف طوال نصف قرن عن الصراخ بها في المحافل الدولية؟". نعم يا استاذ: ما يعطي للحقيقة التي توصل اليها المؤرخون الاسرائيليون الجدد شرعيتها المعرفية وأهميتها العملية هو انهم توصلوا اليها "بعد جهد شاق وتنقيب مضن" في الارشيفات الاسرائيلية والبريطانية. وبالضبط لأن "حقائقنا" خام غير موثقة وعزلاء من صدقية "الجهد الشاق والتنقيب المضني" لذلك بقيت مجرد "صراخ في المحافل الدولية" لم يلق آذاناً صاغية. لأن "الصراخ" وهو العمل الفكري الوحيد الذي نتقنه ونملك كميات هائلة منه للتصدير الا ان سوقه الدولية كاسدة لسوء حظنا... حتى دروسنا في الجامعة مجرد "صراخ" وأحاديثنا المذاعة والمتلفزة مجرد صراخ ومقالاتنا وردودنا مجرد صراخ... صراخ... صراخ. لكن الصراخ يا سيدي عملة غير متداولة لا معرفياً ولا سياسياً. ومقالك صراخ بل نموذج لا يحتذى في الصراخ. صراخ لأنه لم يحتو على حقيقة واحدة ولا شُبهة حقيقة مدعومة بدليل عقلي او شبه دليل. كله تأكيدات انشائية على منوال الكتابات النضالية الاصولية الاسلامية التي توزع صكوك الغفران وتهم الكفر ذات اليمين وذات الشمال. وعلى غرار السادة الاصوليين انطلق صلاح عز في صياغة وثيقة اتهام لمحاكمة نوايا المؤرخين الاسرائيليين الجدد الذين لم يتوصلوا في تقديره الى ما توصلوا اليه من حقائق تدين جيل المؤسسين للدولة العبرية الا بعد فوات الأوان بالنسبة الينا ليضحكوا علينا: "ماذا لو قالوا لنا انهم يفضحون تاريخ اسرائيل الاجرامي الآن لأنهم مطمئنون الى ان ما ترتب على هذا الاجرام غير قابل للنقض او الازالة، بعد ان ترسخت اقدام اسرائيل في أرض فلسطين وضمنت تفوقها العسكري والاقتصادي". وبمعنى آخر لقد كانوا منذ نعومة اظفارهم يعرفون الحقيقة "التي لم نتوقف طوال نصف قرن على الصراخ بها" ثم كتموها عشرات السنين وتظاهروا بالجهد الشاق والتنقيب المضني مضيعة للوقت وانتظاراً لتمكين دولتهم من التفوق العسكري والاقتصادي... عندئذ، وعندئذ فقط، اخرجوا الحقيقة من أرشيفاتهم كما يخرج الساحر ارنباً من قبعته وقالوا تفضلوا ها هي الحقيقة مبذولة امامكم لكن انتبهوا يا مغفلين انها لم تعد تجديكم نفعاً لأن دولتنا اصبحت حقيقة تاريخية وجغرافية لا سبيل الى ازالتها. لكن الاستاذ الجامعي صلاح عز لم يقل لقرائه ما هو الوقت المناسب الذي كان على المؤرخين الاسرائيليين الجدد وأعمارهم تتراوح الآن بين الأربعين والخمسين ان يعلنوا فيه على العالم حقيقتهم. هل كان عليهم ان يعلنوها وهم بعد يرضعون اثداء امهاتهم؟ لكنه في اندفاعه الانشائي ينسى ان اسرائيل كانت "متفوقة" علينا منذ انتصارها الأول في 1948. وما انتصاراتها اللاحقة في 1956 و1967 الخ... الا تأكيداً لتفوقها ذلك. وبهذا المعنى لم يوجد ابداً "وقت مناسب" لنا للاستفادة العملية من هذا الكشف. والحال ان الاستفادة العملية منه لم تكن مقصد الباحثين الاسرائيليين فالباحث - على الأقل في الجامعات الاسرائيلية - يبحث مدفوعاً بالبحث عن الحقيقة لوجه الحقيقة لا من اجل اهداف نفعية. لو ان الارشيفات التي استشاروها قادتهم الى حقيقة معاكسة للحقيقة التي اعلنوها لما ترددوا في اعلانها. هم يا سيدي باحثون جامعيون وليسوا مناضلين حزبيين امثالنا نصرخ بالحقيقة قبل البحث والتنقيب عنها بل من دون بحث وتنقيب أصلاً لأننا اتخذنا من أوهامنا ورغباتنا حقائق تطالب الانسانية بأن تؤمن بها مثلنا ايمان العجائز والا كبّلناها بكل التهم بما فيها "التآمر على الأمة" والامبريالية والصهيونية والماسونية وما الى ذلك من اتهامات لا تحصى ولا تعد. صلاح عز كان ينتظر من المؤرخين الاسرائيليين الجدد ان يقدموا له في الوقت المناسب وعلى طبق من ذهب الحقيقة ليتلقفها منهم ويصرخ في المحافل الدولية "من فمك ادينك يا اسرائيل" فتدينها "المحافل الدولية"، ونتسلح نحن بهذا السلاح المعنوي فنحمل عليها حملة رجل واحد فاذا هي أثرٌ بعد عين. ونصرخ هذه المرة امام انفسنا وأصابعنا في آذاننا صرخة مدوية: "لقد قضينا على الدويلة اللقيطة بعد ان قدم لنا مؤرخوها الجدد قائمة جرائمها الطويلة". من المؤرخين الجدد ينط صلاح عز مدفوعاًَ بعفوية التداعي الحر للخواطر الى الحالة المصرية عاطفاً اياها تعسفياً على الحالة الاسرائيلية ليهجو جمال عبدالناصر بأهجية الاخوان المسلمين الأبدية التي الفتها الاسماع حتى مجتها بطريقة لا تقدم الوعي قيد انملة لفهم الظاهرة الناصرية في ظروفها التاريخية المصرية والعالمية. وهكذا قاده الانشاء والتعميم المضاد للبحث العلمي الى ان عهد عبدالناصر لا يختلف في شيء على عهد حسني مبارك: "لأنه يستمد شرعيته من ثورة تموز يوليو 1952"، فهو امتداد للناصرية كما يفهمها الاخوان المسلمون "كفر بالله ورسوله وحل لجمعيتهم واضطهاد لهم". يقول صلاح عز دون ان يرف له جفن: في عهد عبدالناصر كان شعار السلطة: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" لاسكات الافواه عن المطالبة بحقوقها البشرية وهذا الشعار اصبح في عهد مبارك "لا صوت يعلو فوق صوت السلام". والحال انه لا يوجد شخص واحد سمع مثل هذا الشعار في مصر مبارك حيث اعداء السلام من جماعة الاخوان المسلمين وأنصارهم يصولون ضد السلام ويجولون ويهجونه في الجرائد نظماً ونثراً من دون ان يسائلهم النظام على ذلك، بل ان صحف النظام نفسها كپ"الأهرام" وبقلم رئيس تحريرها ابراهيم نافع تقول في "سلام" نتانياهو ما قال مالك في الخمر. وفوق ذلك فإن صحف المعارضة، خصوصاً الوفدية والاصولية تهاجم مبارك نفسه وهو ما لا وجود له في أي دولة عربية، ووصل الامر بجريدة "الشعب" الى ان طالبته بعدم ترشيح نفسه... ولا نعلم لحسن الحظ ان الصحافي اعتقل او ان الجريدة عُطلت. اما اسرائيل فتصب عليها الصحافة المصرية بجميع اتجاهاتها كل يوم اطناناً من القمامة ولم نسمع ان احداً قال لها: حذار فلا صوت يعلو فوق صوت السلام... فلماذا، أخي، تزوير الحقائق بهذا الشكل المثير للسخرية، ام انه لا يرضيك الا ان تسحب مصر اعترافها باسرائيل لتبدأ الحرب بينهما وعندئذ تتنفس الصعداء لأن الشهداء بدأوا يتساقطون بعشرات الآلاف وأنت وراء الشاشة الصغيرة تصغي بانتباه لأخبارهم وتترحم على ارواحهم الطاهرة... كفى سادية فمقال صلاح عز هلوسات عن "المؤامرة الخبيثة" التي تطارده اشباحها في مصر واسرائيل وأميركا: ردّ المؤرخين الاميركيين الاعتبار للسود والهنود الحمر "بعد فوات الأوان" واستحالة اصلاح الضرر يشطب الولاياتالمتحدة من الخريطة لأنها اغتصبت أرض الهنود الحمر بعد ان ابادتهم "مؤامرة"، وردّ المؤرخين الاسرائيليين الجدد الاعتبار للاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من ديارهم ظلماً وعدواناً "بعد فوات الأوان" هو "مؤامرة". وتصحيح الانحرافات البوليسية لعهد عبدالناصر والسادات التي قام بها الرئيس مبارك مجرد انتقال من شعار الى شعار اسوأ منه و"مؤامرة" لمواصلة نفس السياسة الناصرية. واتفاقيات اوسلو "مؤامرة" ورط بها حزب العمل السلطة الفلسطينية في اتفاقية مهينة، فسهّل المهمة لليكود لاحكام السيطرة على المجتمع الفلسطيني. وبمعنى آخر ومن دون ادنى دليل غير الصراخ يكون رابين الماكر وقّع اتفاقيات اوسلو وهو يعلم سلفاً علم اليقين انه لن ينفذ هذه الاتفاقيات الكيدية لأن اصولياً يهودياً اسمه ييغال عامير سيقتله ويعلم سلفاً ايضاً ان خليفته شمعون بيريز لن ينتخب لأن "حماس" ستنفذ قبل الانتخابات بأيام عدة عمليات انتحارية تفقده 30 الف صوت ذهبت الى خصمه، ويعلم فوق ذلك ان نتانياهو سيصبح بعدهما رئيساً لحكومة اسرائيل ويمزق اتفاقيات اوسلو "المهينة" لأنها "تمثل خطراً على اسرائيل" كما قال وأعاد القول. هذه اللائحة الهائلة من التهم الخطيرة لم تتطلب من استاذنا الجامعي محاولة تدليل واحدة على صحتها! لأن القارئ العربي طيب يصدق ما يقول الكاتب كما ان المواطن العربي طيب يصدق ما يقوله الدراويش من دون ان يطالبهم بدليل على صحة ما يسمع منهم. بپ"منهجية" التأكيد المجاني "يثبت" صلاح عز من دون اثبات ان اقتراح ربعي المدهون ضرورة اتصال المثقفين العرب بالمؤرخين الاسرائيليين الجدد مضرّ بنا ومضرّ بهم على حد سواء لأنه سيؤدي تماماً الى عكس ما يأمله الكاتب اي: "الى تقوية وتعزيز الافكار العنصرية والعدوانية"، في اسرائيل طبعاً. وبما انه ينط من استيهام PHANTASME الى استيهام على طريقة التداعي الحر للاستيهامات، فقد نط الى هذا الافتراض المحال كما يقول المناطقة: "وأخيراً كيف يرحب المؤرخون الاسرائيليون بمساعدة من مثقفين عرب عاجزين عن مساعدة انفسهم والنهوض بمجتمعاتهم من حضيض التخلف والسلبية؟" هذا كلام ينطبق عليه هو قبل غيره. لأن المثقفين العرب بكل سلبياتهم المعروفة لا يقعون في اخطاء فكرية وسياسية كتلك التي وقع فيها ولأن معظمهم عكسه لا يرفض الآخر ولا يكنّ له عداوة او شراً كما حال الاصوليين الذين ينطق صلاح عز، ربما، باسمهم. صلاح عز لا يرى وسيلة لتحرير فلسطين غير الاعتماد على النفس ربما بپ"كوماندوس" "حماس" و"الجهاد" وغيرهما. اما الاعتماد على الخارج فمضيعة للوقت لذلك يسخر من مساعي سورية ولبنان ومصر الى فرنسا للضغط على حكومة نتانياهو، فيقول بعد الاعتماد على الحليف السوفياتي ثم على الوسيط الاميركي "النزيه" ها نحن اليوم نركض وراء وهم "معسكر السلام" الاسرائيلي و"الصديق الفرنسي". اذا كان اللجوء الى الرأي العام الاسرائيلي خطأ والرأي العام الأوروبي خطأ فما العمل؟ يكتفي صلاح عز بوصفة سحرية مقتضبة: الخروج من "السلبية والاحباط وضعف الانتماء". اي سلبية وأي احباط وأي ضعف انتماء والى ماذا؟ كل ذلك علمه عند علام الغيوب. لكن صاحبنا لا يسد الباب كلية في وجه الاتصال بالمؤرخين الاسرائيليين الجدد شرط ان يكون ذلك الاتصال هادفاً ومدروساً بدقة اذ: "لا ينكر عاقل اهمية قراءة واقع اسرائيل واستكشاف كل ممكنات التخريب وزرع الفتنة في مجتمعها كما يفعلون معنا". هذه النية الاجرامية التخريبية قد تكون لائقة بعون متحمس من اعوان الجوسسة المضادة لا يهتم بالمعايير الاخلاقية، لكنها فضيحة بكل المعايير عندما تصدر عن استاذ جامعي مهمته البحث عن الحقيقة من دون خلفيات سياسوية وتخريبية مدانة اخلاقياً وأيضاً سياسياً، لأن كل محاولة لزرع الفتنة بين الاسرائيليين وتخريب مجتمعهم لن تزيدهم الا التفافاً وراء اكثر السياسيين تطرفاً وعداء لحقوقنا المشروعة. وحده التطبيع مع الاسرائيليين ومعاملتهم كبشر وكجيران وكحلفاء مستقبلاً هذا التخلف والاحباط والسلبية والاصوليين الاسلامية واليهودية هو الذي يجعلهم اكثر تفهماً لقضايانا العادلة وأقل تجاوباً مع حكامهم المتطرفين. وكما قال حازم صاغية في احد مقالاته: سلاحنا الأمضى لكسب الرأي العام الاسرائيلي والدولي المتحضر هو ان نكون نحن انفسنا متحضرين ندين العنف والقتل وننتج الثقافة التي نقدم بها انفسنا للعالم كأوادم من لحم ودم وعقل وإحساس، ننتج الفن ونتذوقه ونحب الحياة، لا ان نقدم انفسنا للبشرية كپ"مخربين" و"زراع فتنة" وأحقاد وموت في الشوارع والباصات. ذلك لن يزيدنا الا عزلة ولن يزيد حقوقنا الا ضياعاً على ضياع. * كاتب مغربي مقيم في فرنسا