علي حرب "الماهية والعلاقة: نحو منطق تحويلي" المركز الثقافي العربي - بيروت - الدار البيضاء - 1998 269 صفحة لعل الذين يتعاطون الشأن الفكري، اعتادوا على وضع الفكر مقابل الممارسة، ولكن عند محاولة تقويم مثل هذا "الاعتياد"، لا بد أن نلاحظ أن النشاط الفكري ذاته، هو ضرب من ضروب الممارسة، أو قل: ضرب من ضروب إعادة ترتيب العلاقة بين الفكر والواقع، أو بين المفهوم والحدث. وهذا شأن كل "ممارسة فكرية" منتجة وفعّالة. ولذا، فنحن إذ نفكر ونعرف ونعمل، لا لكي نكوّن صورة صادقة عن أنفسنا، ولا لكي نكوّن صورة مطابقة لواقعنا، أو لكي نريد واقعنا وفق أفكارنا.. وإنما نفكر، أو نمارس التفكير بالأحرى، لكي نتغير عما نحن عليه ونغير علاقتنا بالواقع، قبل أن نحاول تغيير "واقعنا" ذاته. نمارس التفكير عبر ما لا ينفك عن التوالد والتكاثر والتجدد، من البؤر والعوالم، أو من الخرائط والشبكات، أو من النصوص واللغات. بهذا المعنى، تصبح كل ممارسة فكرية، منتجة وفعالة، ذات مفاعيل تحويلية تتغير بها العلاقات بين الذات والموضوع. وبهذا المعنى، يصبح الواقع، العالم، بنية تفاضلية من العلاقات الخاضعة دوماً للتوليد والتحويل، وبهذا المعنى، يصبح الواقع المعاش، ك"بنية"، إن هو إلا فروقات واختلافات بين الأشياء لا يمكن إفناؤها. ومن ثم، فالممكن الفعلي، على صعيد الفكر، هو العمل على هذه وتلك، هذه الاختلافات، وتلك الفروقات، بالصرف والتأويل أو التفكيك والتركيب أو الترجمة و"التحويل". على هذا النحو "التحويلي"، فإن كل قراءة خصبة ل"نص" هي إحالة من دلالة إلى أخرى، وعلى هذا النحو ذاته، فإن كل تفكير مثمر هو إعادة تشكيل للموضوع بزحزحة إشكال أو فتح مجال، وكل معرفة ثمينة بشيء تخلق واقعاً تتغير معه العلاقة بالأشياء والأحداث. باختصار، كل مفهوم يبتكر في قراءة الحدث، إنما هو تفكيك لبنية من أجل توليد أخرى، تنبثق معها إمكانات جديدة للتفكير والعمل، بقدر ما تنسج علاقات مغايرة مع الحقيقة. "التحويل"، إذن، هو شكل التفكير بالواقع على صعيد "المنطق" المحايث، وكما أن التفكير هو محاولة لفهم ما يحدث على أرض الواقع، فإن المنطق التحويلي هو محاولة فهم ما يحدث على مستوى الفكر. وهذا ما يجعل المنطق بمثابة سعي إلى فهم المفهوم نفسه، من حيث علاقته بما يحاول فهمه، والأحرى القول إنه سعي لفهم ما لا يُفهم في المفهوم نفسه، من معاينة الملتبسة وبالتالي، لا يعود المنطق مجرد استدراج للمبادئ الثابتة والقوانين الكلية التي يخضع لها النشاط الفكري والمعرفي، بل قراءة الحدث الفكري نفسه، بالتعامل مع الأفكار والمفاهيم كأحداث مولدة للحقائق، أو كأشياء لها كينونتها ووقائعيتها. و"التحويل"، بهذا المعنى، ليس مجرد عمليات حسابية أو قواعد رياضية، تتيح لنا أن نفسر كيف يكون ممكنا توليد ما لا يتناهى من النماذج والصيغ أو التراكيب مما يتناهى من العناصر والوسائل أو القواعد، كما نجد عند الرياضيين، والنحاة التوليديين. إن للتحويل مضامينه المفهومية، إذ هو مفعول من مفاعيل اللغة، بقدر ما هو فعل من أفاعيل الفهم هو "تحويل" للموضوع بقدر ما هو تكوين للمفهوم، ومن ثم، فإننا مع "المنطق التحويلي" لسنا إزاء ماهيات ينبغي اكتناهها أو إزاء نماذج ينبغي تجسيدها وإنما نحن منخرطون في علاقات يجري تحويلها عبر تشكيلات الخطاب وتوليدات النحو، أو عبر مركبات الفهم وأنساق المعرقة، أو عبر معايير العمل وأنظمة التواصل. هذه هي الإمكانية التي يتيحها "المنطق التحويلي". إنه يتعامل مع "التحويل" كمفهوم جديد، أو بفهم جديد، بقدر ما يحول النظرة إلى المفهوم عموماً، بجعله ذا قوام تحويلي. من هنا، لا يتعلق الأمر، مع المنطق التحويلي، بمفهوم جديد يجري تداوله، بل مفهوم تتغير معه العلاقة بالمفهوم ذاته. هذا التغير الذي يحدثه المنطق التحويلي على مستوى الفكر، هو ما يحاول تبيانه علي حرب من خلال أطروحته: "الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي"، بل إنه من خلال هذه الأطروحة يحاول التسويغ، والدفاع عن التساؤل المتمحور حول: "هل المنطق التحويلي هو منطق الممارسة الفكرية عموماً"؟ الدفاع هذا، ومحاولة التسويغ تلك، تتبدى واضحة عبر صفحات الكتاب، وأقسامه الثلاثة: منطق التحويل، قراءات، تحولات الحداثة. وأيضاً، عبر تناوله بالنقد أعمال العديد من المفكرين الغربيين والعرب خصوصاً أصحاب المشاريع، سواء الفكرية أو النقدية، بل إن الكاتب، وكنوع من التأكيد على أهمية التحويل كمنطق حاكم للمارسة الفكرية عموماً، يقوم ب"تصدير" الأقسام الثلاثة لكتابه، بالإشارة الى أن معظم مقالات الكتاب كان سبق نشرها في أوقات متفرقة، لكنه بعد أن عمد الى جمعها واستعادتها، بشيء من التأمل والتفكير، وجد نفسه، هو نفسه، يقرأها من خلال مفهوم "التحويل"، الأمر الذي جعله يتحدث بالتفصيل عن "المنطق التحويلي" بوصفه المنطق الضمني المحايث للممارسات الفكرية للكاتب نفسه. قطعاً، فإن مثل هذه الإشارة "التصديرية"، عن التحويل والمنطق التحويلي قبل تقديم الشروحات اللازمة لهما، وتأكيدهما قبل محاولة التسويغ والدفاع عنهما كأطروحة، لا بد وأن يترك انطباعاً إيجابياً قوياً لدى القارئ، انطباعاً أولياً يمكن - نقول يمكن - أن يمثل إطاراً تفكيرياً، أو بالأحرى: إطاراً قبلياً لممارسة التفكير حول الأطروحة المتضمنة في الكتاب، من قبل القارئ طبعاً، خصوصاً إذا كان هناك بعض العوامل المساعدة على وصول القارئ الى هذه الحالة، مثل: العبارات والجمل التي وردت في مقدمة الكتاب، والتي صيغت عن عمد بأسلوب متعال من حيث الصعوبة، نقول عن عمد، لاختلاف صياغة المقدمة خصوصاً، عن بقية الكتاب بأقسامه الثلاثة، بل وحتى عن الخاتمة، وذلك من قبيل: "وهذا ما يجعل المنطق بمثابة سعي لفهم المفهوم نفسه، من حيث علاقته بما يحاول فهمه"، وأيضاً من قبيل: "من هنا، يتغذى المفهوم مما يحاول أن يفهمه، أي مما هو غير مفهوم، أو مما ينبغي تصييره قابلاً للفهم". بيد أن الكاتب، والحق يقال، كان بذل جهداً متعاظماً في اتجاه تسويغ أطروحته في "المنطق التحويلي"، وذلك من خلال التأكيد على "الفارق" بين "الماهية والعلاقة"، من حيث ضرورة تجاوز الأولى، إلى التركيز على الثانية... إذ في هذه الحالة، وبحسب تعبير الكاتب نفسه: "لا يمارس التفكير على سبيل المطابقة بين الذوات والصفات، أو بين الموضوعات والمحمولات، وإنما يتعلق الأمر بتكوينات متبادلة بين المفاهيم والأشياء، تغتني بها المفاهيم، بقدر ما تتغير العلاقة بالأشياء". بل إن الأمر الجدير بالانتباه والتأمل في آن، أن "الماهية والعلاقة"، كعنوان رئيسي للكتاب، هو ذاته - كعنوان - العامل المشترك، المتكرر، في ما بين أقسام الكتاب الثلاثة. وإذا ما حاولنا الاقتراب من مسألة "العلاقة والماهية" هذه وبحسب صياغات الكاتب نفسه، نحصل على النتيجة التالية: "لا شيء يمكن القبض على حقيقته الموضوعية، ما دام لا شيء يدرك بذاته، سواء اختص الأمر باللغة أم بالمجتمع، بعالم الإنسان أم بعالم الطبيعة". والمثال الواضح، هنا، "أمر العقل: فماهيته لا تفصل عن تاريخ مفهومه، بكل تراكماته وتحولاته، وبكل إشكالياته وتعقيداته"، وهكذا، ف"مصدر التعقيد ليس طبائع الأشياء وما يكتنفها من أسرار، بل ما ينتج حولها من الخطابات والنصوص، أو ما يتراكم بشأنها من المنظومات العقائدية والحمولات الأيديولوجية" القسم الأول. ولأنه "لا ماهيات يمكن أن تعرف، بل ثمة علاقات ينشئها الفكر من ما يحدث ويتشكل من الحوادث والظاهرات، أو من النصوص والخطابات"، ولأنه "لا شيء يتماهى مع نفسه، ولا قول يتطابق مع معناه، تماماً كما أنه لا فكر ينطبق على واقعه، ولا مفهوم يتواطأ مع ما يفهمه"، لذلك "الأحرى القول: إننا إزاء علاقات بين اللغة والفكر والذات والوجود، تخضع للتبدل والتغير". ومن ثم، ف"نحن إزاء شيء لا يمكن القبض على معناه الموضوعي أو على ماهيته المحضة. يشهد على ذلك تاريخ المحاولات الفلسفية منذ أفلاطون حتى هيدغر: كلها اخفقت في مزاعمها الرامية الى القبض على حقيقة الوجود أو على معنى الكينونة" القسم الثالث. بهذا المعنى.. "أنا لا أقول مع ديكارت بأنني أفكر لكي أحسن قيادة عقلي، بل أقول إني أفكر لكي أكشف ما يستبطنه عقلي من اللا معقولات، أو لكي أعرف معنى أقوالي، أي لكي اكشف ما يستبعده القول في ما هو ينطق به". وبهذا المعنى، أيضا.. "ليس الفكر قبضاً على حقيقة الماهية أو على ماهية الحقيقة، بقدر ما هو علاقات نقيمها مع الأشياء هي ذات طابع تحويلي". والحال.. ف"المقولة لا تتطابق مع الواقع، ولذا فهي لا تطبق، والشاهد على ذلك، أنه ما من مفكر استطاع تطبيق أفكاره تطبيقاً حسناً، حتى في مجال اختصاصه، وما ذلك إلا لأن الفكرة المراد تطبيقها، تستحيل بعد التطبيق، على غير ما كانت عليه قبله" القسم الثاني. في إطار هذه النتيجة، لا بد وأن يثور التساؤل التالي: إذا كان ما يطرحه الكاتب هو، أولاً وأخيرا "مقولة فكرية".. ترى، ماذا سيكون عليه الأمر إذا ما أخضعنا هذه "المقولة - الأطروحة"، النتيجة نفسها التي وصل إليها الكاتب، ذاته؟!