تكشف الشعوب القديمة التي سكنت الصحراء الجزائرية، وبخاصة منطقة الطاسيلي، عن تجانس ثقافي كبير، ليس في مستواها الفني فحسب، كما تظهره الأدوات المستخدمة، ولكن ايضاً في وسائل تعبيرها كالفن الجداري والنقش والرسم التي تعد شواهد حية حتى يمكن القول، من دون تردد، ان فناً قد ولد في الطاسيلي، ولم تكن له اصول من خارج بيئته. لقد نضج في منطقة الطاسيلي فن النقش على الصخور ببطء ولن تمحو آثاره إلا العوامل المناخية، وتطورت اساليبه على نحو منحنى بياني قمته تمتد الى نحو 25 الف سنة قبل الميلاد، وفي هذه الحقبة كان الرسامون يبحثون، في ما يبدو، عن الفاعلية السحرية والرمزية والتعبير عن حالات من الحساسية تجسدت في اشكال مشبعة بأسرار الطقوس التي يمارسونها ويؤمنون بها. ثم قادت المهارة اليدوية الفنانين الى تشخيص اكثر تحديداً وأكثر طبيعية، فما كان يفتقد في الفاعلية الرمزية كان يتدارك بالتمثيل الطبيعي. وقد عرف التحسن في فترة ظهور الماعز والغنم في اعمال الرسم على الجدران فاقترب التشخيص من الرمز ثم قامت الكتابة في فترة لاحقة بوظيفة الرموز. تشهد آلاف الوجوه والأشكال المرسومة والمنقوشة في كهوف وعلى صخور منطقة الطاسيلي على ماضٍ متميز وصحراء حية ومنطقة آهلة بالسكان. ولكن لا شيء اليوم يمكنه ان يوصلنا الى حقيقة اولئك الناس الذين كانوا يعمرون هذه الصحراء، عن أصولهم ومعتقداتهم ولغاتهم. إلا انه، وأياً كان الأمر، فإن هذا التراث الفني الماثل حتى اليوم يطرح إمكانية اخرى للحياة في منطقة تعد اليوم شاقة. ان الرسومات ذات الأحجام الكبيرة والتشكيل الرمزي، البشرية والحيوانية، مع تغلب الأشكال المجسدة لصور الظباء والأروية يمكن ادراجها ضمن حقبة تعرف في هذا المجال بحقبة الظباء او رسومات الرؤوس المستديرة كما يطلق عليها بعض الدارسين. وتزيّن هذه الرسومات الجدران الحاجزة للمآوي التي تمثل خصوصيات المعابد. اما الرسومات الطبيعية ذات الابعاد الصغيرة والتمثيل البشري او الحيواني فتسمى رسومات مرحلة الثيران، وهي تظهر بخاصة على جدران المآوي الواقعة تحت الصخور وفي مناطق معرّضة للتهوية. وثمة جدار صغير بأبعاد مختلفة يسد الرواق المفضي الى المأوى المزين والمتاخم لبيدر نصف دائري في قاعدته. ويعم الطاسيلي حضور هذه الجدران الصغيرة عند ارضية المآوي المزينة، كما يلاحظ ان كثيراً من المآوي التي لا تحمل اي زينة تحاط ايضاً بهذه الجدران المغلقة احياناً بحجارة كبيرة والتي لا يمكن ان يحركها إلا مجموعة من الرجال. وينتشر هذا النوع من المآوي على طول ضفتي وادي أمازو. اما مناطق اوزنيار وتين ابنيورا فهي غنية برسومات مرحلة الثيران، ولها، كلها، شوارعها المسدودة بهذه الجدران من الحجارة الصلبة. اما الرسومات التي تمثل الأوجه الصغيرة والمنجزة بخطوط رفيعة على الصخور فانها تندرج ضمن الحقبة الحيوانية، حيث ظهر، الى جانب البقريات، حيوانان أليفان هما: الماعز والغنم. وتوجد الصخور التي تظهر عليها هذه الرسومات خارج مجال التحولات الجيولوجية التي عرفتها المنطقة وتنتشر على ضفاف الوديان العريضة شمال غرب الطاسيلي وهي المنطقة التي تخلو مما يعرف ب"غابة الحجارة". وتتجمع الصخور، بحسب انواع العروق، على امتداد اميال عدة طولاً وأمتار عدة فقط عرضاً، وفي كل جهة يمتد "الرق العظيم" المشكل من الحصى. اما الرسومات ذات الطابع النموذجي فان تقنية تنفيذها هي امتداد لتقنية رسومات مرحلة الثيران. وفي هذا الاطار، فان الوجوه البشرية لم تعد وصفاً لحياة الجماعة، بل بدت وكأنها وجدت اصلاً رمزياً لصورة اعمال مرحلة الظباء، ويمكن تسميتها بمرحلة العربة او مرحلة الحصان، وفيها تظهر العربة والعجلات. وينتشر هذا النوع من الرسومات على صخور "الرق". وتعقب ذلك، تاريخياً، نقوش يظهر فيها الجمل ذو السنام الواحد وتنتمي الى مرحلة حديثة تعرف بمرحلة "تفينار" بسبب الكتابة التي تصعب غالباً الرسومات والنقوش وتنتشر خاصة في المآوي المزينة المنتمية الى مرحلة العربة. غير انه يمكن العثور عليها في اي مكان ما عدا في المناطق التي تضم مآوي مقدسة. وينبغي الاشارة الى ان مرحلة الظباء قد انتجن اعمالاً مجردة للتمكن من تذكر الاشخاص والاشياء. فقد تحكمت الرمزية في انجاز كل الأعمال، وحاول الرسم التعبير غالباً عن القوة المسيطرة بالتضخيم احياناً، ويتردد احياناً اخرى نموذج عن سلسلة طويلة من الاشكال التي تغطي، من دون قصد، الجدران العذراء او طبقة سميكة من التنضيد حيث تطفو هنا زرافة في حالة اندهاش، وهناك شكل يشبه ركبة عظيمة، وهناك اطراف او قرون حيوان اسطوري. اما المواضيع الاكثر انتشاراً فهي الكائنات البشرية ذات الاشكال الغريبة والحيوانات العملاقة والأروية والظباء حيث تشكل القرون العناصر المسيطرة، كما نجد مخلوقات صغيرة جداً لا تتعدى احجامها بضعة سنتمترات في صورة شيطان، وأشكالاً رمزية غير مفهومة من النقاط والصلبان والخطوط. وهناك رسومات لأشخاص مقنّعين يسود فيها اللون الأحمر والأخضر والأبيض وتظهر رجالاً في الغالب. غير ان اشكالاً كثيرة تظهر لنا نسوة ايضاً، بالأثداء ذات الشكل المميز وتبدو وجوههن وقد حملت ملامح الذئاب. ومهما كان التنوع السائد في هذه الوجوه المجتمعة في هذا المجال، فان تقاربها يوحي بالوحدة. وكل رسم من هذه الرسومات مصحوب بمجموعة من الاشكال الهندسية مثل الخطوط والنقاط والأفاريز وغيرها. اما في ما يخص النساء المقنّعات، فان هذه الاشكال الهندسية قد رسمت على الشخص ذاته وأحياناً بطريقة غير واضحة، وهي بذلك تشبه زخارف حتى ليمكن الخلط بينها وبين الوشم والتشريط. وتمثل مرحلة الثيران المرحلة الطبيعية في الفن الطاسيلي. فقد ظهر الفن الطبيعي فجأة بشكل طافح واستولى على كثير من الأماكن، وهو يمتاز بأبعاده المتواضعة التي لا تكاد تعدو العشرين سنتمتراً. وتشكل المجموعات الكبرى من الرسومات تركيبات واسعة، حيث يعطى كل موضوع على حدة معلومات خاصة، وعلى خلاف ذلك، فان التركيبات في المرحلة السابقة كانت، قبل كل شيء، مجرد تكرار لأشكال معروفة. وينقسم الفن الطبيعي بدوره الى نوعين: الاول هو الذي يظهر اشكالاً حيوانية فيلخص مجموعة الحيوانات كلها والتي لم يعد يعيش منها إلا اصناف قليلة، ومن بين الحيوانات البرية تبرز بخاصة آكلات العشب كالزرافات والظباء المختلفة والفيلة، وبعض الأسماك والعصافير. اما الحيوانات الأليفة فتحشر مع فصيلة البقريات ومجموعة الماعز والغنم، ولا تظهر الحيوانات المفترسة الكبيرة إلا في حالتها التمثيلية اذ يصعب القول ان رسماً يمثل حقيقة أسداً او فهداً، والأمر كذلك بالنسبة للقردة. اما النوع الثاني فهو الخاص بالوجوه والأشكال البشرية. لقد رسمت الاشكال الحيوانية بدقة متناهية، حيث ملئت بنقاط ملونة تقترب كثيراً من تلك الموجودة على أوبار الحيوانات او ريشها. اما الاشكال البشرية، فتقدم في صور بسيطة لا تكاد تتعدى الهيكل العام لجسم الانسان مع بعض التفاصيل احياناً كقطع الثياب والأساور. ويضعنا التنوع العجيب لأشكال الثيران امام اختيار صعب بينها وبين سائر الأشكال، لكن المؤكد ان المبادئ العامة للفن الطاسيلي تجمعت كلها في هذا النوع بالتحديد، فقد انفجرت الطاقة الخلاّقة للفنانين في هذه الأشكال، فالحركة واضحة، والثيران، سواء منفردة او مجتمعة في قطيع، مرسومة بألوان مختلفة وهي من أروع الوان الفن الطاسيلي. والرسومات مختلفة ايضاً منها ما جسد بخط رفيع صورة الثور او البقرة ومنها ما جسد ذلك بخط غير متصل. فالوجه والمفاصل والعضلات مدروسة بدقة، وكذلك القرون، حيث نجد قرون ثيران القطيع الواحد مرسومة إما بأبعاد عادية او ابعاد مصرية، اي قرون فوق رأس ووجه يظهران من زاوية جانبية. كما ينبغي ملاحظة الوان الجلد التي ابدع الرسامون في تفاصيلها وتنوعها، وهناك ظواهر اخرى كالثيران والأبقار ذات الرأسين التي تنتمي الى الاسلوب الاسطوري. وإلى جانب هذه الرسومات، تزخر صخور الطاسيلي بكثير من النقوش، فقد فضّل النقاشون استعمال البلاطات الأفقية للأرضية المفتوحة، فمجموع النقوش الموجودة بمنطقة "تين ترهرت" يوجد فوق صخرة على شكل قبة بقطر ثلاثين متراً حيث تبدو النقوش الموجهة في كل الجهات وقد وجدت بالصدفة. وفي وادي "جرات" تمتد البلاطات المنقوشة على طول الضفتين وتجمع اشكالاً متجهة الى السماء بينما تحتوي صخرة "تيرارات" على نقوش على جدران عمودية. وتتمثل بعض النقوش في زرافات وفيلة وتمتد على ضفة وادي "جرات" على نحو عشرة امتار. اما ثيران "تيرارات" فان اشكالها مختلفة، وهي منقوشة على عمق سنتمترات عدة، اذ يتجاوز الخط الرئيسي خمسة سنتمترات عرضاً وثلاثة عمقاً. ويمكن تصنيف هذه النقوش الى ثلاث مجموعات كبرى: النقوش التي تمثل الحيوانات، وهي الاكثر اهمية، فثمة مجموعة حيوانات كاملة ذات تنوع ظهر على الصخرة. ومجموعة اخرى من النقوش تمثل الاشكال الهندسية الحلزونية كرموز وتظهر منفردة او مصفّفة في صور الحيوانات، اما المجموعة الثالثة فهي الخاصة بالاشكال البشرية تميزها كثرة الرجال وهي اكثر دقة وتحديداً من الاشكال الحيوانية، ويبدو الرجال والنساء مجرد ظلال او اطياف لصور تنطبع في الذاكرة.