أعاد الناخب الهولندي طاقم التحالف الحاكم من جديد ليدير أمور البيت الهولندي للسنوات الأربع المقبلة بعد فترة مماثلة بدأت في 1994. وثمة فضل كبير للبرامج العقلانية التي طرحتها أحزاب التحالف قطعاً، ولكن لشخصية رئيس حزب العمل الهولندي فيم كوك فضل لا يقل عن ذلك، مع أنه شخصية مضادة للمنطق العام الذي يرى في "الكاريزما" عاملاً حاسماً. على أي حال تبدو هولندا أقل قلقاً في ظل النقابي السابق فيم كوك. بدليل أنه حاز في أكثر الاستفتاءات على أعلى مقدار من الشعبية والثقة واعتبر السياسي الأفضل والأكثر دماثة ولطفاً في البلاد. لكنه من جهة ثانية، رجل يحمل كتاب انجازاته الاجتماعية بيده. فإليه يعود الفضل في إبرام ميثاق تعاون ثلاثي عام 1985 بين أرباب العمل والعمال والحكومة، وبفضله خرجت البلاد من أعمق انكماش اقتصادي وتضخم وصل إلى 12 في المئة من نسبة الدخل القومي أي أربعة أضعاف مقياس الوحدة النقدية الأوروبية كما رسمته معاهدة ماستريخت. وعلى يده أيضاً، حتى قبل تسلمه رئاسة الحكومة الأولى، انتقلت هولندا إلى بر الامان وأضحت عملتها من بين أصلب خمس عملات دولية وأكثرها استقراراً. ذلك ان هولندا ارست موقعها بين الكبار لتصبح بملايينها الستة عشر، ثامن أغنى دولة في العالم، وثانيها في مستوى الانتاجية الفردية. ولكن تلك الانجازات، وغيرها، تبقى محدودة بالقياس إلى الانقلاب السياسي التدريجي الذي أحدثته قيادته ووضعت الجناح العمالي في المقدمة والطرف المفضل شعبياً ونخبوياً وتنحيته "المسيحيين الديموقراطيين" عن واجهة الحركة السياسية الهولندية التي استحوذوا على صدارتها، كما في العديد من دول أوروبا الغربية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فهذا الحزب ظل يدير دفة الحكم طيلة المرحلة الباردة من دون توقف وأبقى العمال وغيرهم في مقاعد المعارضة أكثر من 18 عاماً. مجيئ فيم كوك 59 عاماً من المقاعد الخلفية، حيث تنقّل في ضروب مختلفة من المناصب العمالية كتقني ومختص في شؤون إدارة العمل، قبل التحول إلى مهمات نقابية متدرجة وصلت به وهو في الخامسة والثلاثين إلى منصب رئيس اتحاد النقابات الموحدة، وذلك بعد نجاحه في ادماج الفرع المسيحي من النقابات في كتلة تمثيلية موحدة. ولكنه اضطر تحت ضغط حزبه، حزب العمال الاشتراكي - الديموقراطي إلى الانتقال إلى صفوف السياسيين ليقود كتلة حزبه البرلمانية منذ أواسط الثمانينات قبل التحول إلى الحكومة ممثلاً لحزبه كشريك للمسيحيين في حكومة رود لوبيرز الثالثة، وفي تلك الحكومة تسلم كوك وزارة المال الهولندية، إحدى أصعب الحقائب وأكثرها اشكالية، إلى جانب نيابة رئاسة الحكومة. ولكنه نجح في تلك المهمة المستحيلة نجاحاً كبيراً ومن دون أن يورط البلاد في أية مشقات اجتماعية كبيرة. ومع أن السياسات العمالية والاشتراكية في هولندا لا تختلف كثيراً عن قريناتها في الاشتراكية الدولية، إلا أن البعد التفصيلي من تلك السياسات كان شديد الاختلاف عنها. فقد أرست المعاهدة الثلاثية بين الحكم وأرباب العمل والعمال، أساساً جديداً لتوزيع الثروة في البلاد يحفظ التوازن الاجتماعي في حدوده المقبولة والإنسانية من دون نبذٍ للمستثمرين والطبقات العليا. ومع تحولات عميقة في البنية الدستورية والاجتماعية أصبح بوسع الطبقات الفقيرة ان تحوز على قسط عقلاني من الرفاهية، وفرصة متجددة للتأهيل كلما عانت البلاد من انكماش في قطاع من القطاعات الانتاجية. ومع الوقت انعكست تلك السياسيات التي كان لكوك دور مركزي فيها، على شكل انفتاح اجتماعي وتبريد لمفاصل التوتر الاجتماعي التي نما في خضمها يمين متطرف تغذى على الأزمات وانتعش بها ليستخلص سياسات معادية للأجانب والمهاجرين، ومنغلقة دينياً وعرقياً. ومنذ 1993 بدا الاستقطاب السياسي في هولندا يتجه نحو تعزيز التعبيرات السياسية الديموقراطية على حساب المسيحيين الديموقراطيين الذين ترهلوا في حضن السلطة وانعزلوا عن الأجيال الجديدة، وهذا ما عبر عن نفسه عام 1994 في الانتخابات الوطنية التي برز فيها حزب العمل برئاسة كوك كأقوى كتلة برلمانية وتراجع دور المسيحيين الديموقراطيين. وكما في السابق، نجح كوك في تشكيل حكومة وسط اليسار التي جمعت الليبراليين وحزب الديموقراطية الجديدة، ليضع "المحافظين" الهولنديين خارج الحكم. وبعد أربع سنوات بدا أن المسيحيين في تراجع شامل يستحيل معه أن يستردوا ثقة الناخب الهولندي الذي يريد أن يكرس إحساسه بالاستقرار السياسي والاقتصادي، لا سيما وأن الطرف الآخر الذي تراجعت حظوظه مع المسيحيين كان اليمين المتطرف بجميع أنواعه. وهو فقد في الانتخابات التي جرت في حزيران يونيو جميع مقاعده التمثيلية ومواقعه في البلاد. وبالنسبة إلى الهولنديين يبدو فيم كوك نموذجاً لما يرغبون في رؤيته. فهو مع مثابرته المشهودة في العمل، مرن للغاية ولا يتدخل في شؤون الإدارات والوزارات قط. وإلى جانب ذلك يحوز كوك فضيلة مهمة تميز الهولنديين هي عدم الاندفاع والحساب الدقيق للخطوات، حتى أنه يفاجئ في الغالب، شركاء في الحكم وفي الاتحاد الأوروبي، بطرحه سيناريوهات معدة بعناية عن كل ملف من الملفات المطروحة. أوروبياً، تبدو فرنسا وحدها قلقة من عودة فيم كوك بتحالفه "الارجواني" - وهو كناية عن خليط الألوان التي ترمز إلى أحزاب التحالف - لأنه أقرب إلى عقلية العمال البريطانيين وإلى قلوبهم. فقد كان كوك أكثر القادة العماليين جرأة في التحذير من خطر الثاتشرية على أوروبا، وأكثرهم صراحة في التعبير عن دعم توني بلير المتقدم إلى الواجهة، حتى قبل فوز حزبه في الانتخابات، وكثيراً ما وجهت حكومة المحافظين نقداً علنياً لحكومة فيم كوك المؤيدة للعمال والمناهضة للمحافظين. أما مصدر القلق الفرنسي فيأتي في البعد الأوروبي لتحالف بلير - كوك، وبدء لغة جديدة تسعى إلى اقامة "طريق ثالث" بين الرأسمالية والاشتراكية، وبداية حلف أوروبي اشتراكي قد ينتهي إلى اسقاط دور "الاشتراكية الدولية" الفضفاض، وهو دور عزيز جداً على قلب الفرنسيين. ومصدر قلق فرنسا الآخر من سياسة كوك الأوروبية، يأتي من كونها سياسة تمتلك أرضية اقتصادية متينة في القارة. فهولندا وإن تكن شريكة سياسية للعمال البريطانيين في مسعاهم الجديد، إلا أنها شريكة اقتصادية أساسية لألمانيا، أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، فضلاً عن التناسق الحاصل في سياسات بون - لاهاي داخل الاتحاد الأوروبي. ومع العلاقات التاريخية الخاصة مع بلجيكا واللوكسمبورغ، التي ترتبط معهما هولندا في ميثاق "البينيلوكس" الاتحادي، تبدو فرنسا من دون قوة حقيقية قادرة على مقاومة هذه الكتلة، كما أنها عاجزة - لأسباب كثيرة - عن الانضمام إليها. وفي البعد العام تجد فرنسا في الطريق الثالث وسيلة لإبقاء الحضور الأميركي في أوروبا، حيث لا يخفى على المراقب السياسي الانسجام الكبير بين حكومة توني بلير وإدارة كلينتون، والعلاقات الوطيدة بين لاهاي وواشنطن. وعلى أية حال، إذا كان بلير قد منح العمال البريطانيين مشروعاً جديداً للمستقبل، يقربهم - على عكس المحافظين - من أوروبا ومشروعها ووحدتها النقدية المرتقبة، فإن فيم كوك اعطى الاشتراكيين الديموقراطيين الأوروبيين احساساً عميقاً بالثقة بالمستقبل، ومثلاً على براغماتية عملية للغاية لا تحتاج قط إلى الشعارات والايديولوجيات.