مغادرة الطائرة ال26 إلى لبنان ضمن الجسر الجوي الإغاثي السعودي    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على 5 مناطق بالمملكة    تنفيذ حُكم القتل في مواطنين خانا وطنهما وانضما لكيان إرهابي    "وفد سعودي" لتعزيز التعاون الاقتصادي في طاجيكستان    "بلاغات الأدوية" تتجاوز 32 ألفًا في شهر واحد    «فيفا» يعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034 على أعلى تقييم في التاريخ    أستراليا تحظر «السوشال ميديا» على الأطفال    سكري القصيم «عقدة» رائد التحدي    استهداف 34 ألف لاعب تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 9 سنوات    نائب رئيس مجلس الإفتاء السويدي: المملكة ناصرة للدين الإسلامي    بحضور وزير الرياضة.. انطلاق منافسات سباق "سال جدة جي تي 2024"    «الإيدز» يبعد 100 مقيم ووافد من الكويت    معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    انطلاق فعاليات معرض وزارة الداخلية التوعوي لتعزيز السلامة المرورية    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    «سلمان للإغاثة» يختتم المشروع الطبي التطوعي للجراحات المتخصصة والجراحة العامة للأطفال في سقطرى    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة لمفهوم التوتاليتارية ومضامين الحالة الجماهيرية عند حنه ارندت
نشر في الحياة يوم 13 - 08 - 1998

ارتبط اسم حنه ارندت، عالمة الاجتماع السياسي الألمانية - الأميركية، بالتوتاليتارية الكليانية ودراستها بقدر ما ارتبط اسم ماكس فيبر، مثلاً، بالبيروقراطية ودراستها. ففي مجلدات ضخمة ثلاثة أحدها عن اللاسامية والآخر عن الامبريالية والثالث عن تشخيصها الاجمالي للتوتاليتارية ونظامها، تجمعت عناصر نظرية متكاملة ومصحوبة بتأريخ للظاهرة وتأملات فيها.
وفي حدود ما أعلم، وعلى رغم شيوع المصطلح في السنوات القليلة الماضية، لا يزال التعريف العربي بأرندت ونظريتها في التوتاليتارية ضعيفاً. فباستثناء ترجمة أنطوان أبو زيد للمجلد الأول الذي نشرته "دار الساقي"، والعرض المسهب الذي قدّمه وضاح شرارة لمجمل العمل الأرندتي وضمه كتابه "تعبير الصور" المركز الثقافي العربي، لا نملك إلا الاشارات السريعة للمحللة الألمانية - الأميركية وآرائها.
وفي قلب هذه الآراء تكمن معسكرات الموت النازية التي رأت فيها المثال النموذجي paradigm في تجسيده طرق اشتغال التوتاليتارية. ذلك ان المضمون الاجتماعي والسياسي الذي تلائمه المعسكرات بصفتها شكلاً من أشكال العنف والاضطهاد، هو ما حاولت ارندت تشخصيه بوصفه توتاليتارياً. فبالنسبة إليها يقع الرعب الخاص للتوتاليتارية في حقيقة أن القسوة التي تطلقها إلى ذلك الحد ايديولوجية جداً. فهي ليست نتاج هيجان فوضوي منفلت من عقاله، على ما تكشف المقارنة بين مذبحة اليهود التي نُظمت بدأب وسُجلت بتفصيل بيروقراطي، بمجازر أخرى كالتي ارتكبها، مثلاً، الغزاة المغول في القرون الوسطى.
والحال أن ما ميز السيطرة التوتاليتارية عن طغيانات لا حصر لها في التاريخ ليس فقط حجم القتل الجماعي، بل حقيقة أن أعمال القتل هذه فُهمت ونُفذت بعقلانية تطبيقاً لمبدأ يقول بطبيعة الأعراق أو الطبقات ونضالها في سبيل "الأفضل والأرقى".
وتلاحظ ارندت ان الطغيانات السابقة كانت، وبالتعريف تقريباً، أمثلة لا قانون فيها على الارادة الاعتباطية من جهة الحاكم، فيما المسألة بالنسبة إلى التوتاليتارية هي بالضبط نكرانها أي مكان للإرادة الإنسانية في عالم يتقرر كل شيء فيه بموجب "قوانين" الطبيعة أو التاريخ.
فالرغبات الانسانية الفردية والنوايا والأعمال لا قيمة لها في ما يتعلق بصراع الاعراق والطبقات، فيبقى اليهود الألمان والكولاك أغنياء الفلاحين الروس محكومين بالموت، لا بسبب شيء ربما فعلوه أو ظنوه، بل بسبب ما هم عليه. وبالتالي اذا كان الطغاة العاديون يبحثون عن الأعداء الفعليين للنظام، فإن الحاكم التوتاليتاري يذهب أبعد بمهاجمة "الأعداء الموضوعيين"، يساعده في ذلك قدرٌ غير ضئيل من "التنظير" الذي جعلته الحداثة ممكناً.
ويبدو لارندت ان محاولة شمولية السيطرة وتصور "العدو الموضوعي" هما في حالتي اليهود والكولاك أعمق بكثير من المضمون المحدد للتعبير وأشد "جوهرية" بالمعنى الخرافي للكلمة. فالنازيون تعدّوا اليهود إلى البولنديين الذين كانوا التالين على جدول التصفية، وكانت لديهم خطط للتخلص من الألمان "غير الملائمين عرقياً"، أما ستالين، فبدوره تقدم من الكولاك إلى التتر.
وفي نطاق الايديولوجيا تحديداً، فإن الأعمال كلها ومهما كانت صاعقة، تبقى مجرد نتائج تترتب على المقدمات المقبولة وتنساب منطقياً عنها، كائنة ما كانت جنونيتها إذا ما نُظر إليها بعين الحس السليم. هكذا إذا بدا استئصال اليهود عملاً غير مقبول أو سليم، فإنه من وجهة النظر الايديولوجية النازية ينجم ببساطة عن نظرية التفوق العرقي، ويكون لها استخلاصاً طبيعياً وحتمياً.
على ان القسوة هذه لا تخدم، في المقابل، المصالح والأغراض النفعية لأولئك الذين نفذوها. فالنازيون بتنفيذهم المحرقة هددوا مجهودهم الحربي نفسه وبددوا بعضه يوم كانوا في أمس الحاجة إليه، وذلك بتحويلهم موارد عسكرية مهمة لا تُحصى لغرض ترحيل اليهود إلى معسكرات الموت.
وما كان يدهش ارندت بوصفه جديداً وصافعاً، وفي الوقت نفسه بحاجة إلى التفسير في ما خص النازية والستالينية، هو ذاك السلوك الذي يشبه سلوك الروبوت والذي نراه عند الضحايا والجلادين على السواء. ذلك أن الطرفين لا يكتمان شعورهما الدال على أنهما لا يملكان خياراً، ولا فرصة أخرى للتحرك، فيما هما ماضيان في ممارسة طقوسهما. ذاك أنهما إنما يطيعان قوى موضوعية حتى حدود الجوهرية، قوى تفوق في فعاليتها الإرادات الإنسانية.
والعمل الضخم يبدأ منذ صفحاته الأولى، في المجلد الأول الدائر حول اللاسامية، بمسألة الدولة. فلماذا، بحسب أرندت، جعل النازيون من اللاسامية مركز تجربتهم التوتاليتارية إلى هذا الحد؟ لماذا كان العداء لليهود مهماً إلى هذا الحد، كما لا تكف عن التساؤل؟
وأما الإجابة فمؤداها ان اختيارهم كي يكونوا أكباش محرقة للتذمر ليس صدفة بالتأكيد. فالاختيار هذا مصدره أن اليهود ربطتهم علاقة غريبة وحاسمة بالدولة من جهة، وبدوائر المجتمع العليا من جهة أخرى. وهي ترى من ثم ان الهجوم السياسي عليهم كان جزءاً من هجوم أوسع على إطار الأمة - الدولة الذي احتل فيه اليهود موقعاً حاسماً. أما اجتماعياً، فنجم الهجوم هذا عن الدور الذي تبناه اليهود لأنفسهم من أجل أن يتغلبوا على التمييز الاجتماعي ضدهم.
فالتوتاليتارية، عند أرندت، إنما جُعلت ممكنة بفعل تدمير الأمة - الدولة ببنيتها القانونية والجغرافية المستقرة لمصلحة التوسع الامبريالي، ومن جهة أخرى بفعل ميل ملازم عند الأفراد لأن يروا أنفسهم لا كمواطنين أو أعضاء في طبقة، بل كممثلين لكيانات أكثر ضبابية بكثير كالأعراق، تتميز عن سواها بمواصفات كامنة يُفترض فيها "الجوهرية".
فالامبريالية ممثلة في أوروبا بحركات ال Pan القومية إنما كانت معادية أصلاً للأمة - الدولة، وقد عملت على ملء الفراغ حيث لم يوجد أساس لأمة - دولة. وبدورها فإن قوى كاللاسامية، وخصوصاً الامبريالية، بتدمير الأمة - الدولة دمرت الأساس القديم للجماعة تدميرها الحقوق المدنية والسياسية.
وهنا مصدر التمييز بين الحدود المضبوطة نسبياً التي بلغتها لاسامية القومية الفرنسية مع مسألة درايفوس، انطلاقاً من كون فرنسا ذات حدود سياسية وتقاليد دستورية، والحدود المطلقة التي بلغتها الظاهرة نفسها مع قومية البان الألمانية في الزمن النازي.
وفي دراستها عن الامبريالية، اهتمت أرندت بالحقيقة المؤسسية التي هي أن التوسع المتسارع للامبراطورية أواخر القرن التاسع عشر، جعل الحكم عن طريق القرار الاعتباطي للرسميين سلوكاً طبيعياً، حتى لو في ظل تقليد الحكومة الدستورية، كما كانت حال الامبراطورية البريطانية. لكنها أيضاً اهتمت بتجربة الأوروبيين المُقتَلعين الذين وجدوا أنفسهم على الجانب الآخر من العالم بين أجانب، وفي حالة افريقيا، بين شعوب بدائية، مدركين ان أفكارهم المتعارف عليها في صدد ما هو متعارف عليه وما هو جائز، "كانت" اتفاقية، وما من حد على ما هو ممكن سوى العرف الاتفاقي. وتجارب من هذا النوع هي ما حاولت حنه ارندت التقاطه، بالضبط لأن أوجه التوتاليتارية التي تحتاج الى تعريف هي مسألة مواقف أكثر مما هي مسألة مؤسسات.
وقد كانت حجتها ان التوتاليتارية انما انبثقت من إعادة ظهور تيارات سياسية في أوروبا كانت تشكلت وتم تصديرها الى الخارج خلال التوسع الامبريالي الكبير لأواخر القرن التاسع عشر. وهذا التوسع الذي نجح في تدمير التماسك القديم والأشكال السياسية للأمة - الدولة، انما قدم، عبر العنصرية، طريقة جديدة لابقاء جماهير الشعوب المتباعدة مضمومة معاً، موفراً من خلال الحكم الاداري البيروقراطية البحتة طريقة جديدة في حكمها.
وهي تمضي لتعيّن الاسلاف المباشرين للتوتاليتارية في المانيا وروسيا في الحركات البان المانية والبان سلافية، والتي تعتبر انها امتلكت، في غياب مستعمرات لها، التعبير عن تياراتٍ كانت اقتصرت في بريطانيا وفرنسا على امبراطوريتيهما. ففي رأيها ان العنصرية والامبريالية وحركات البان ليست قومية مقيدة بالأرض المحددة والمؤسسات الدولتية والتقاليد السياسية التي تنهض فوقها، بل هي ضد القومية حصراً وحكماً. وأول ملامح الامبريالية عندها مما يرتبط بالتوتاليتارية وتحطيم الامة - الدولة، انما هو الاندفاع الى التوسع المستمر، والتوسع لذاته. فعلى غرار المشروع الرأسمالي تنحو الامبريالية الى ادخال "المشروع" الى السياسة. ولأن الدولة والعلم يلحقان التجارة ويدافعان عن مصالحها، فلا حاجة اذن الى تأسيس جسم سياسي في المستعمرات ولأهلها. أما مظاهر الدولة التي يتم تصديرها فهي أدوات القوة البحتة التي تحافظ على المصالح والمشاريع، اي الجيش والبوليس والبيروقراطية. فهذه، والحال على ما هي عليه، تخضع الى توسع لا تعيقه ولا تحد منها السيطرة السياسية.
اما الحكم بالقوة من دون اية لحمة سياسية أخرى فهو ما تمت اعادة استيراده من قبل أوروبا لاحقاً. والامبريالية، هنا، انما هي التحرر السياسي للبورجوازية وتخلصها من الضوابط القانونية والمؤسسية: فالبورجوازية تسلك طريقاً هوبزياً في طلب السلطة - السلطة المطلقة والمتوسعة دوماً، التي لا يردعها أحد. ولما كان الامر يتطلب تصدير رساميل وتصدير رجال "بلا لزوم" الى المستعمرات، ففي روسيا والمانيا حيث لا مستعمرات، بقي هؤلاء ليشكلوا المادة الأولية للحركات التوتاليتارية في طورها البدئي.
والبعد الثاني في اشتغالها على الامبريالية هو ان نوعاً آخر من السلع يحل محل الأمة - الدولة التي يحطمها التوسع الامبريالي: انه العرقية. وتشرح ارندت أفكار اوائل المنظرين العرقيين كغوبينو مؤكدة انها كانت بعيدة الاختلاف عن القومية ومعادية لها ما دام ان اعراقها تتعدى الحدود القومية. فالعنصرية كايديولوجيا تجيز المذبحة هي ما تعيده حصراً الى تجارب الامبرياليين، أي الأوروبيين الذين بلا جذور والذين يجدون أنفسهم وجهاً لوجه أمام شعوب افريقيا القبلية. وفي فصل بالغ التفصيل والدقة تعنونه "العالم السرابي للقارة المعتمة"، وتعتمد فيه كثيراً على قصة جوزيف كونراد "قلب الظلام"، تنقل الصورة الكونرادية عن رجال مُفرغين وهميين هربوا من واقع الحضارة وواجهتهم اللاواقعية البادية للسكان المحليين ممن بدوا كأنهم يوفرون لهم فرصاً وامكانات بلا حدود. وتصف هذا اللقاء: المغامرون، وهم أنفسهم الرجال الفائضون في أوروبا، الذين كفوا عن الانتماء الى جماعة توجد فيها أعراف مقبولة عن السلوك والحدود، ومن جهة اخرى الحياة غير المفهومة للمحليين الذين يعيشون على ما يبدو كما لو أنهم جزء من الطبيعة، بدل ان يقيموا فيها عالماً انسانياً متحضراً. لقد تكفلت الامبريالية بجمع الكل وجعله واحداً في هذه الغابة المتداخلة. في هذا الوضع فقد الأوروبيون كل عالمهم عن الأمة وحس الواقع والمسؤولية التي تتولد عن ذلك، فيما لم يتسن للأفارقة توفير أي عالم انساني بديل. وفي وضع كهذا امتلك المغامرون شعوراً باللاواقعية واللامسؤولية، شعوراً يشبه الاحساس بالحلم وبأن كل شيء جائز وممكن.
وهي تشير الى المذابح الرهيبة في الكونغو، وتتعرف فيها على مشاعر حلمية كابوسية بوصفها عنصراً جوهرياً في التوتاليتارية. وبدورها فالعرقية التي يولّدها هذا الوضع هي من نفس نوع تلك التي نمّاها البوير، ذلك الشعب الاوروبي الذي عاش مع تلك المواجهة مدة اطول واستجاب لها بأكثر الاشكال وضوحاً ومفهومية. وتقترح ارندت ان البوير الذين واجهتهم في جنوب افريقيا كثرة من السكان السود كانت غير متمدنة، بمعنى انها عاشت حينذاك كالحيوانات على رحمة الطبيعة بدلاً من فرض نظام انساني عليهم، انما طوّروا نظرية عنصرية ليحموا انفسهم من الادراك المعذّب بأن هؤلاء الوحوش بشر مثلهم. وفيما كانوا يطوّرون ايديولوجيتهم التفوقية باتوا مثل المحليين انفسهم، اذ انهم بدلاً من اتباع مُثُل اسلافهم الاوروبيين منشئين ارضاً محددة ومحولين الطبيعة انسانياً، اصبحوا هم انفسهم كالأفارقة وقبائلهم قطيعاً بلا جذور من الشعوب الهائمة التي يربط بينها الدم، فحسب ولا يربط بينها المكان على ما هي حال الامم - الدول. وبالنسبة اليها فان انعدام الجذر هذا مصحوباً بفقدان اي قاعدة للاجتماع ما عدا الدم، يميز بحدة التفكير العرقي، والصفات السلبية اياها انما حضرت في الجماهير التي انجذبت الى المعتقدات العرقية في اوروبا.
والى جانب العرقية والحماسة للتوسع بذاتها، تجد أرندت عنصراً ثالثاً يساهم، من خلال الامبريالية، في التوتاليتارية: انه "البيروقراطية"، وهي تعني بها نوعاً من الحكم الذي تطوره ادارات الامبراطورية البريطانية. وتلعب ارندت على السخرية الدرامية التي هي انه، على عكس العرقية التي ترفض السكان المحليين ككائنات بلا قيمة وادنى، فان الاداري والاستعماري اخذ بعبء الرجل الابيض لكن نتائج عمله السياسي كانت كارثية بالدرجة نفسها. فالبيروقراطية كحكم اداري يختلف عن الحكم السياسي في انه غير مسؤول وبلا قوانين. انها مسألة اداريين يأخذون القرارات سراً ويصدرون المراسيم. ورأي ارندت هنا يشكل مباينةً لافتة مع نموذج موديل فيبر للبيروقراطية كشكل للحكم رفيع العقلنة والمسؤولية يعمل تبعاً للقوانين. الا ان الفارق يكمن جزئياً في ان فيبر نظر الى البيروقراطية من وجهة نظر الرسمي ومن الداخل، فيما نظرت اليها الاولى من وجهة نظر الخاضع، ومن تحت، فرأت ان السمات اللافتة لهذا الحكم هي غموضه وسريته وعدم توقعه واعتباطه - انها، في النهاية، مواصفات كفكاوية.
فبمعزل عن اللاقانونية الكامنة ضمناً في الحكم بالمراسيم، كان من السمات الملازمة للادارية الامبريالية ان لا تؤخذ القرارات فقط تبعاً لطبيعة المسألة المطروحة بل بما يخدم مصالح التوسع الامبريالي التي توسع الادارات نفسها ادواته السرية. وحب السرية وحسّ خدمة غرض اسمى والتنفيذ الفوري بقوى اكبر من المرء نفسه، هي ما وجدت التعبير الخاص عنها في الاجهزة السرية للامبريالية. وتشتغل ارندت على كتابات لورانس العرب لتستخلص السحر الذي يمكن ان يحصل حتى للرجال الجيدين من مركّب العمل وانكار المسؤولية الشخصية.
هذه العناصر التي مورست بعيداً في المستعمرات لم تؤثر على طبيعة الامة - الدولة في بريطانيا وفرنسا. لكن في حالة المانيا وروسيا مورست "الامبريالية القارية" ذات المفعول الفوري والمباشر. وحركات البان هذه كانت توسعية وامبريالية مثل تلك، الا ان عجزها جعلها تعادي الدولة والامة وتسعى الى العرق، او "القومية القبلية": وهذه الروابط الميتافيزيقية ك "الروح السلافية" او كحالة البوير الذين صاروا كأي قبيلة افريقية محكومة بالدم لا بالأرض ولا بالمؤسسات، لها جاذبية كبرى على شعوب مختلطة كشعوب الامبراطورية النمسوية - المجرية التي لم يعرف معظمها المؤسسة الوطيدة ورقعة الارض الثابتة. وكرهها الخاص لليهود "المختارين" و"ذوي النفوذ العالمي" و"البلا ارض ثابتة"، ففيه بعض رغبة هذه الشعوب في ان تكون هي نفسها صاحبة تلك المواصفات المنسوبة اليهم.
هكذا رأت أرندت النازية بوصفها الحصيلة المنطقية لتبلور عناصر مرتبطة باللاسامية والامبريالية والعرقية، ولحمة كتابها انما هو مفهوم "الفائض" او الذين لا لزوم لهم superfluous. فهي ترصد انماطاً من طبقات اجتماعية تنهار الواحدة بعد الاخرى من داخلها وتتحول بالعلاقة مع البورجوازية الصاعدة وحكومات الامم - الدول للقرن التاسع عشر. فالاريستوقراطيون الذين يحاولون الاحتفاظ بسيطرتهم الاجتماعية يكرهون الحكومات التي اعطت المساواة القانونية للذين هم ادنى منهم. والبورجوازية الصغرى تكره خسارة ثرواتها الصغيرة في مشاريع المال والاعمال الاجنبية التي ترعاها الدولة والكارثية النتائج مما سجلته ستينات وسبعينات القرن الماضي. ومن ناحيتها فالطبقات التي كرهت الدولة وأكدت على سيطرة خفية لليهود عليها او "المؤامرة البنكية اليهودية العالمية"، تصاحبت كراهيتها هذه عند منعطف القرن، مع صعود العرقية. والمفارق والداعي للسخرية آنذاك ان اليهود كانوا قد خسروا حينذاك معظم قوتهم المالية.
وكان لعرقية المستعمرين الاوروبيين ان ترتد على اوروبا. فمع تصدع الخريطة الطبقية القديمة غدا المنزوعو الطبقة declasse على تماس مباشر مع الفضلة بقية او حثالة الفائضة للطبقات كلها: الرعاع او الذين اسماهم ماركس البروليتاريا الرثّة Lumpen-Proletariat الذين كانوا سقطوا للتو مع انتصار البورجوازية. وحينما التقت النخب الفكرية للاريستوقراطية والبورجوازية - هذه النخب التي باتت منزوعة الطبقات - بالرعاع، اكتشفت النخب والرعاع ما هو مشترك بينها: الرفض الحاد لنفاق ومزاعم البورجوازية.
ويحتوي احد اقوى مقاطع "اصول التوتاليتارية" على وصف لهذا الرابط بين الرعاع والنخبة: "ما يقفز فوقه في العادة الناطقون بلسان الليبرالية الانسانوية، وذلك في خيبة املهم المرّة وعدم إلفتهم مع اكثر تجارب هذا الزمن عموميةً، هو ان مناخاً تبخرت فيه كل القيم والفرضيات التقليدية … جعل من الاسهل، بمعنى ما، قبول الفرضيات التافهة على نحو مسجّل، قياساً بقبول الحقائق القديمة التي اصبحت عادية ورَعِة، وذلك بالضبط لأن لا احد بات من المتوقع ان يقبض السخافة جدياً. ... فالذين كرهوا البورجوازية تقليدياً وتركوا المجتمع المحترم طوعا، رأو في سخافات الرعاع نقص النفاق والاحترامية، لا المضمون نفسه".
ووراء وصف ارندت للانحلال الطبقي وكره الدولة، بات يمكن سماع موضوعة القرن الثامن عشر عن النظام الاوروبي للدول المؤسسية ككورس يتحدث "عما كان يمكن ان يكون". فالذي كان هو العكس لما كان يمكن ان يكون. والرعاع تضخم فيما كان ينضم اليه منزوعو الطبقات حتى اصبح هو "العالم السفلي للطبقة البورجوازية". ففي مرحلة اولى كان الرعاع يتميز عن "الشعب"، لكن في المرحلة التالية والاعرض، اندمج في "الجماهير" اي في اولئك الذين بلا وعي طبقي والذين لا يندمجون في اي تنظيم مرتكز على مصالح عامة أو عالم يتم التشارك فيه.
ان قصة ارندت عن انهيار الدولة بالغة التشابك مع قصتها عن فقدان المصالح المشتركة والعالم المشترك بين الطبقات جميعاً. والانهيار العام هذا في اصابته الطبقات وتذريره اافرادها، يجعل الجماهير هي الحالة الساطعة، أي الجماهير التي يمكن بالنسبة اليها، أن تصبح ايديولوجية كالعرقية بالغة الاقناع. لقد أكدت ارندت غير مرة على أن هؤلاء الناس يفتقرون الى المصالح الاجتماعية والسياسية المشتركة وانهم معنيون فقط بامانهم الشخصي، وهذا ما ساهم في جذبهم الى ايديولوجيات من دون مصلحة طبقية مباشرة أو مضمون سلكي ومهني ونفعي: فانتفاض الجماهير ضد "الواقعية" والحس السليم، وضد "كل ما هو معقول في العالم" كان "نتيجة تذررهم، ولفقدانهم الموقع الاجتماعي الذي بخسارته خسروا كل حيّز العلاقات المجموعية الذي يمكن أن ينشأ فيه للحس السليم معنى...".
* كاتب ومعلق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.