في فرنسا، تشهد السياحة النهرية التي تسمح بالابتعاد عن المدينة وإن ليومين أو ثلاثة ازدهاراً ملحوظاً منذ فترة، ويتيح هذا النوع من السياحة دخول مناطق برية خلابة على متن يخوت يمكن قيادتها من دون رخصة، يتسع الواحد منها لستة إلى ثمانية أشخاص ويحوي تسهيلات للنوم ولتحضير الطعام، وبالطبع، للاستراحة والاستجمام بالمناظر المحيطة. وعند أبواب باريس، في منطقة برغنديا، التي تبعد ساعتين في السيارة عن العاصمة وتشتهر بمأكولاتها الشهية، افتتحت شركة فرنسية مرسى لمراكبها التي تبحر بغرض السياحة في "قناة نيفرنيه" التاريخية. وتعود فكرة تأسيس قناة اتصال بين نهري اللوار والسين تربط بينهما من خلال نهر يون في تلك المنطقة إلى عهد الملك هنري الرابع الذي حكم فرنسا بين 1589 و1610 ولكنها بقيت مجرد فكرة على الورق حتى القرن الثامن عشر عندما بدأ العمل على تشييد القناة سنة 1784. وكان الغرض من بناء القناة تأمين منفذ لنقل الخشب العائم وليس للملاحة. وعندما زار عضوا "اكاديمية العلوم" جو سوي وكوندورسيه ورشة الأشغال الجارية في أيار مايو 1786، وضعا تقريراً مفصلاً غيّر مجرى العمل كلياً، إذ خلصت التوصيات التي قدماها إلى ضرورة إقامة قناة ملاحية يمكن لها أن تصل حتى مدينة كرافان، عند الموضع الذي يتسع فيه مسلك نهر يون مما يجعله صالحاً للملاحة. إ لا أن العمل توقف بسبب الاعتراضات الشديدة التي ثارت ضد المشروع، وبقي الأمر طي النسيان حتى سنة 1807 حينما استؤنفت الأشغال لتتوقف من جديد. وعاد المشروع إلى الواجهة مرة أخرى سنة 1822 مع قرار الملك لويس الثامن عشر تخصيص مبلغ ثمانية ملايين فرنك فرنسي من أجل تشييد قناة للملاحة على نهر يون. وتجمع "قناة نيفرنيه" اليوم بين تصوّرين: الأول تقني بحث يعتبر القناة أداة للنقل، كآلة مزيتة تطلبت معرفة نموذجية وتحتاج إلى صيانة منظمة كي تعمل بانتظام. والثاني جمالي يتوقف عند سحر بالٍ لعمل هندسي غطته النباتات تدريجاً. وجو القناة اليوم يعيدنا إلى مشروع طموح حيث كل التفاصيل دُرست بدقة: الجسور، المحابس، الأحواض... ولكن القناة تبقى مع ذلك عملاً سرياً يحيطه الغموض ولا يمكن رؤيته من بعيد. والقناة آلة تمتد الشرايين التي تدفع الحياة ببطء في جسدها على طول 180 كلم، وتسمح اليخوت التي لا تتعدى سرعتها عشرة كلم في الساعة، التوقف والرسو للنزول في أي مكان يحلو للمرء ان يستكشفه وزيارة القرى والمعالم السياحية، منها القصور التاريخية والمطاعم الريفية المحيطة بضفتي القناة. والرحلة على القنوات تخرج المرء من واقعه وتجعله يركز كل اهتماماته على الطبيعة والمركب والمحابس، والتوقف عند هذه السدود الصغيرة التي ترفع المركب وتخفضه من مستوى إلى آخر يخلق متعة حقيقية. والمحبس المزوّد بالأبواب المتحركة يسهم في تنظيم مجرى الماء كي يصبح صالحاً للملاحة بفضل انتقال المراكب من قطاع سد إلى قطاع سد آخر. وتعمل المحابس بطريقة اوتوماتيكية أحياناً، ولكن فتحها واغلاقها يرتكزان في معظم الحالات على تدخل الإنسان، وعند كل موقع هناك موظف مسؤول عن ضبط انتظام العمل الذي يجري بانسياب عند ضفاف رومانسية تحمل على الحلم والتأمل. عندما ترخى حبال المرسى ويبدأ اليخت بالتحرك، تُترك الهموم والاعباء وضوضاء المدينة في الخلف، بعد فترة لا يبقى إلا خرير المياه وغناء العصافير وحفيف الأوراق. يحدث الانفصال عن العالم وتظهر الراحة المثالية. وهذا النوع من السياحة لا يقتصر على "قناة نيفرنيه" وحسب، بل هناك قدر كبير من الشبكات والقنوات المائية الأخرى التي تنتشر من الشمال إلى الجنوب الفرنسي. وتتمتع فرنسا بثمانية آلاف كلم من الأنهر والقنوات الصالحة للملاحة. وابتداء من شهر آذار مارس ولغاية شهر تشرين الأول اكتوبر، يمكن استئجار يخت صغير أو متوسط الحجم لمدة يومين أو ثلاثة أيام أو أسبوع كامل ودخول مناطق لا يمكن اكتشافها إلا بهذه الطريقة. والسياحة النهرية لا تكلف مبالغ كبيرة، ويمكن استئجار اليخوت في مناطق مختلفة من فرنسا، وفي بريتانيا أو برغانديا أو لوت أو شامبانيا أو مارن أو كامارغ بأسعار تقارب 300 دولار لمدة "ويك - اند"، وليخت صغير يستقبله شخصان وإن كان اليخت متوسط الحجم يتسع لأربعة أشخاص أو أكثر فيراوح ايجاره بين 550 و700 دولار. وأما استئجار يخت كبير لثمانية أشخاص ولمدة اسبوع فيكلف بين ألف و35،1 ألف دولار تقريباً، وذلك حسب اليخت والتسهيلات التي يقدمها. ولا تتطلب قيادة هذه اليخوت الكثير، وهي سهلة يمكن التدرب عليها خلال ساعتين أو ثلاثة مع ملاح محترف من المرسى حيث قاعدة الانطلاق، وفي ما بعد، يبقى الاتصال مع القاعدة مؤمناً باستمرار.