لا شك أن أول صورة خطرت في بال تشي غيفارا، حين أفاق صبيحة العاشر من آب على الحقيقة المرة التي تواجهه، كانت صورته وهو جالس مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر قبل ذلك بخمسة أشهر، يعبر له عن أحلامه الثورية الكبيرة. في ذلك الحين لم يكن يراود غيفارا سوى حلم واحد: ان ينشر ثورته في العالم كله، وهو هذه المرة اختار الكونغو، ولأن الكونغو كانت عزيزة على قلب عبدالناصر، كان لا بد لغيفارا ان يفتح قلبه أمام الرئيس، ويحدثه عن نيته التوجه الى هناك مع مجموعة من الجنود والأطباء الكوبيين لمساعدة ثوريي الكونغو على اقامة نظام اشتراكي فيها. في ذلك اللقاء التاريخي الذي اعقب لقاء غيفارا مع بن بله وأتى وسط جولة أفريقية/ آسيوية مهمة قام بها غيفارا يومها، بعد ان اتفق مع كاسترو على ان يعمل لمصلحة الثورة العالمية بدلاً من ان يكتفي بمناصب بيروقراطية داخل كوبا، لم يحقق فيها - على أي حال - نجاحاً كبيراً. إذاً، في ذلك اللقاء التاريخي قال غيفارا لعبدالناصر انه عازم على اشعال الثورة في الكونغو. لكن عبدالناصر حذره من أنه رجل أبيض، وان المناضلين السود الذين تتخذ معركتهم - أيضاً - طابعاً عرقياً، قد لا يستسيغون أن يقودهم رجل أبيض، حتى ولو كان ثورياً من طينة غيفارا. ثم، قال عبدالناصر، يجب ألا يغرب عن بال غيفارا واقع الجغرافيا - السياسية، فالعالم يسير نحو ما يسمى بالتعايش السلمي. من هنا سيجد صعوبة النضال هناك مزدوجة. لكن غيفارا لم يستمع لنصائح عبدالناصر، بل اختفى لفترة راحت الشائعات تتحلق حوله خلالها: أين هو؟ قال البعض انه في مستشفى الأمراض العصبية في مكسيكو، وقال آخرون انه مسجون في كوبا. وزعم فريق ثالث انه توجه الى الفييتنام. أما كاستروا فإنه حين سئل عن غيفارا أجاب: "ان الرفيق غيفارا موجود الآن هناك حيث يمكنه ان يخدم الثورة بشكل أفضل". وفي العاشر من آب، كان غيفارا في الكونغو. وكان يحس بأقصى درجات الإخفاق. فالثورة التي وعد نفسه بإشعالها كانت تترنح في خطواتها، والصعوبات كانت تتراكم، وهو راح يفكر في الأمر حثيثاً، ويفكر خاصة في ما قاله له عبدالناصر. كان غيفارا اتخذ لنفسه اسم حرب مستعاراً هو "تاتو" وتعني "الثالث" باللغة السواحيلية. وهو اتخذ لنفسه هذا الرقم تاركاً لزميله الثوري الأسود الرقم واحد، تحديداً لكي يجعل الثوار الأفارقة غير مستائين من واقع ان يكون الرقم واحد رجلاً أبيض. وحيث راح تاتو يفكر بكل ما يحدث له، اكتشف يوم 10 آب الحقيقة المرة: الحقيقة التي شكلت ابتداء من ذلك اليوم جرحاً في خاصرة الثوار الكوبيين. فهم هنا غرباء، بعيدون عن جزيرتهم، أما أرض الأجداد - أفريقيا - بالنسبة الى السود منهم، فإنها تجاهرهم بسمات غير مستحبة، تضاف الى الأمطار التي تهبط غزيرة في الغابات فتعيق تحركهم، ثم هناك أنواع الحيوانات المفترسة التي تقض مضاجعهم والأفاعي التي صارت كابوساً. فإذا أضفنا الى هذا ندرة المواد الغذائية الصالحة، واضطرارهم للاكتفاء بأكل الموز ستتضح الصورة أكثر في الصورة درس في الحرب الثورية في أدغال الكونغو. لكن هذا لم يكن كل شيء، الأدهى ان السكان الكونغوليين لم يكونوا يعتبرون أنفسهم معنيين بما يحدث. وهم لم يكونوا يفهمون على الكوبيين، ولا كان هؤلاء يفهمون عليهم، حيث ان حاجز اللغة لم يكن أمراً يمكن الاستهانة به. وسط ذلك كله تمخض الثوري فريدي لونغا عن بصيص من الأمل. كان يتكلم الفرنسية، لذلك عرض عليه غيفارا صفقة: يعلمه الاسبانية مقابل ان يعلمه الآخر اللغة السواحلية. ولكن، حتى هذه الدروس لم تكن جمة الفائدة. وأخيراً، كان هناك الاختلاف الجذري في الذهنيات، فالنظام والامتثال والإيولوجية كلمات لا تحمل المعاني نفسها لدى الكوبيين ولدى الكونغوليين. أما بالنسبة الى المعارك القليلة التي خاضها الثوار فإنها بقيت من دون نتائج ملموسة. ظلت محصورة في منطقة جنوب كيفو، والى الشرق من بحيرة تانغانيكا. وفي كاتانغا التي كان لومومبا قد قتل فيها. صحيح ان غيفارا سيبقى فترة اخرى في كوبا، وسيكرر محاولاته الثورية، كما سيكتب في مذكراته لاحقاً، لكنه يوم 10 آب 1965، اتخذ قراره الخطير: ان ينتهي من ذلك كله، حتى وان استغرقه تنفيذ القرار بضعة شهر أخرى وبضع هزائم، وتفكير عميق وأكثر عمقاً بكل الذي كان الرئيس عبدالناصر قد نصحه به.