هناك أشكال ثقافية "تخترق" حياتنا اليومية من دون أن تكون لها علاقة مباشرة لا بالسياسة ولا حتى بالايديولوجيا، لذا فهي تعيش في مأمن من نضال السياسي ونقد الايديولوجي، وعلى رغم "تفاهة" هذه الاشكال، فإنها تشكل مجتمعة ما يدعوه بارت "الفلسفة العمومية" التي تغذي طقوسنا اليومية و"تحدد" لباسنا وحلاقة شعرنا وتنظيم مطبخنا وحفلاتنا، وتدبير شؤوننا اليومية بما فيها من قراءة للصحف وارتياد للمسارح ودور السينما وحديث عن أحوال الطقس وأخبار الاجرام والرياضة. لا يتعلق الأمر مطلقاً بما يسمى "ثقافة شعبية" في مقابل الثقافة "العالمة"، لكنه لا يتعلق فقط بنقد للاخلاق في معزل عن السياسة والايديولوجيا. هذا النقد الأخير هو ما كان يمارسه، في فرنسا على الخصوص، ما سمي ب "الطليعة". ولعل هذا ما يحدد الطليعة بما هي كذلك. فالطليعة ليست طبقة اجتماعية ولا حتى فئة متميزة. إنها حركات وتمردات محدودة في مدة امتدادها وقوة نفسها. فهي تصدر عن جزء من البورجوازية وأقلية من الفنانين والمثقفين، إلا أنها إذ تعارض البورجوازية كأخلاق وتصرفات، فإنها لا تعارضها كسياسة. هذا ما يجمله بارت في عبارة وجيزة، إذ يقول إن ما كان يعيبه رجل الطليعة على البورجوازية هو لغته لا مكانته ومنزلته. لا يعني هذا، بطبيعة الحال أنه يقره في صنعه، وإنما يعلق حكمه على السياسة، وينأى بنفسه عن النقد الايديولوجي المكرور. لكن، بين هذا وتلك، تصان تلك الأشكال الثقافية "التافهة"، وتغدو طبيعة ثانية فتترسخ في الأذهان والأعيان، وتسكن السلوكات اليومية والتصرفات "العادية". ها هنا تبرز مهمة نقد "جديد" لا يقتصر على الثقافة كإبداع وأشكال "سامية"، وإنما يتصيدها في أتفه تجلياتها، ويضبطها وهي تعمل قبل أن تصوغ نفسها في مفاهيم مجردة وأشكال "رفيعة". ولا داعي إلى التأكيد أن هذه المهمة لا تقل عسراً عن سابقاتها، لكنها تظل لامحدودة لكونها تلاحق الثقافة في تبدلاتها اليومية، وحياتها اللامتناهية. * كاتب وجامعي مغربي.