نحاول هنا طرح بعض الاسئلة المنهجية حول تاريخ الاقباط في العصر العثماني، وليس تقديم مسح تاريخي عن هذه الفترة. في البداية علينا ان نتساءل عن اهمية اختيار العصر العثماني بالذات؟ في الواقع يشترك كل من تاريخ الاقباط وتاريخ مصر العام في اسقاط الفترة العثمانية من دائرة الاهتمام. فمن منظور ثقافي هناك تمجيد مشترك للفترة المملوكية وللقرن التاسع عشر، وهكذا سقط العصر العثماني بين عصرين. ومن ناحية أخرى تتعامل الدراسة مع بعض المفاهيم الخاصة بأوضاع الاقباط في هذا العصر مثل مفهوم "أهل الذمة" لا سيما وان العصر العثماني كان الفصل الاخير لتطبيق عهد الذمة والبحث عن صيغة جديدة من دون الدخول في التفاصيل الدقيقة والمشاكل الشائكة بين الفقهاء المسلمين حول معنى "الذمة" ثم بخاصة معنى "الجزية" أهم تطبيقات عهد الذمة. ومن دون الدخول في تفاصيل بعض التجاوزات التي كانت تقع أحياناً عند تحصيل الجزية، فإننا نعتقد بأن الجزية كضريبة من الناحية المالية لم تشكل في الاغلب مشكلة اقتصادية للأقباط، الا في اوقات الازمات الاقتصادية او عدم الاستقرار السياسي. ولكن بإضافة قيمة هذه الضريبة الى الكم الكبير من الضرائب التي يشترك فيها المسلمون وأهل الذمة، يمكننا تلمس أعباء مالية على الاقباط. ومع ندرة حوادث الاضطرابات من جانب الاقباط من جراء العبء المالي للجزية، الا ان اشهر هذه الحوادث ما وقع في العام 1734 عندما اعترض الاقباط على ارتفاع قيمة الضريبة آنذاك، وساروا في تظاهرة من حوالى ألف شخص الى "القلعة" مركز الحكم. إلا أن السلطات اعتبرت هذه المسيرة تظاهرة احتجاج على القرارات الاقتصادية. وكأي سلطة عسكرية تم تفريق التظاهرة بالرصاص، ما نتج عنه سقوط قتيلين من الاقباط. أحياء الاقلية من أهم ما يتوارد الى الذهن عند الحديث عن أحياء الاقلية في المدينة الاسلامية التقليدية السؤال التالي: التواصل أم الانعزال بين احياء الاقلية واحياء الاغلبية؟ والسؤال بهذا الشكل القاطع ينم عن خطأ في التقدير. فمن وجهة نظر علم الاجتماع يوجد قدر من التواصل والعزلة في المدن كافة، فهناك احياء للفقراء واخرى للاغنياء، واحياء تجارية وأخرى صناعية وهناك وسط المدينة والضواحي. من هنا نرى ان احياء الاقلية في مصر العثمانية، خصوصاً في القاهرة، تحمل بعض جوانب العزلة وايضا التواصل. وأرجح الاراء ان السلطات لم تفرض إقامة إجبارية على الاقليات في احياء بعينها. بل ان الاقليات عموما، لا سيما الاقليات الدينية، تعمل على الحفاظ على هويتها خصوصا في شؤون السكن والتعليم، مع درجات متفاوتة من الدقة والصرامة. وقد يفيد هذا الانعزال الطوعي في عملية الابقاء على الاستقلال الثقافي، وربما يقلل من فرص الصراع مع الجماعات الاخرى... ولكن أحياناً يؤدي الى العكس. على أية حال، هناك مظاهر واضحة للطابع الخاص للاقليات في القاهرة العثمانية داخل احيائهم. يتضح ذلك جلياً في أماكن العبادة الكنائس والمعابد اليهودية التي لا توجد إلا داخل هذه الاحياء. أيضاً بعض الانشطة الاقتصادية التي ترتبط بعادات غذائية خاصة بديانات هذه الاقلية. كما ان حرس ابواب هذه الاحياء كانوا من الاقلية، مع وجود قوات الشرطة التي تخدم هذه الاحياء مثل بقية احياء القاهرة. وتحمل الشوارع في هذه الاحياء اسماء تنتمي الى الاقلية التي تشغلها. لكن مظاهر تواصل هذه الاحياء وانفتاحها على الآخر كانت واضحة أيضاً. فقد وجدنا بعض السكان المسلمين داخل الاحياء القبطية وحتى داخل الحي اليهودي في القاهرة. كما كان يوجد جامع في اغلب الاحياء القبطية حتى الاقاليم، وربما يرجع ذلك الى مراعاة وجود سكان مسلمين في هذه الاحياء أو للحرص على اثبات الطابع الاسلامي حتى داخل احياء الاقلية. ولم تشذ "حارة اليهود" في القاهرة عن ذلك لجهة الوجود المستمر لمسجد داخلها عبر التاريخ. وإذا تطرقنا الى طبيعة الحياة الاجتماعية بين ابناء الاقليات داخل هذه الاحياء، فإن وثائق المحاكم الشرعية تعطينا معلومات طريفة حول هذا الشأن، إذ أننا لا نجد اختلافاً كبيراً بين المشاكل التي تنشأ في هذه الاحياء عن غيرها من بقية الاحياء الاسلامية". لكن تركز الاقليات في احياء خاصة بهم كان يسهل في اوقات الاضطرابات السياسية او الطائفية حدوث عمليات اجتياح منظم لها. فيحدثنا ابن اياس في مطلع العصر العثماني عن فتنة طائفية حدثت من جراء سب بعض كبار الاقباط للدين الاسلامي. ودفع ذلك العامة الى الهجوم على احياء الاقلية وازداد الامر حدة حتى ان ابن اياس يقول "كادت القاهرة كلها ان تخرب". كما تذكر المصادر القبطية الهجوم الشهير للقوات العثمانية على أكبر احياء الاقباط في القاهرة حي الازبكية انتقاماً لوقوف بعض الاقباط الى جانب الحملة الفرنسية. ولم تتوقف هذه الحملة إلا بعد تدخل قائد عثماني كبير منبهاً جنوده الى ان الاقباط هم في النهاية "رعايا" للسلطان العثماني تجب حمايتهم. ومن المواضيع المهمة وذات الحساسية دائماً اثر الشريعة الاسلامية في الاحوال الشخصية. فلقد شهد العصر العثماني منعطفات مهمة في هذا الشأن وربما يرجع ذلك الى ازدياد طول الفترة التي عاشها الاقباط بعد تحولهم الى اقلية - منذ ما قبل العصر العثماني - وبالتالي ازدياد حجم المؤثرات الاسلامية وأيضاً الى عجز الكنيسة القبطية عن ايجاد حلول لمشاكل الاحوال الشخصية للاقباط، وبالتالي تأثر الاخيرين بالمحيطين بهم من المسلمين. وتقدم لنا وثائق المحاكم الشرعية معلومات مهمة حول تطور اوضاع الاحوال الشخصية عند الاقباط في العصر العثماني. إذ نشهد عدداً لا بأس به من عقود زواج الأقباط يسجل في المحاكم الشرعية طواعية. ولا ينبغي النظر إلى هذا الأمر باستهانة بل بأهمية قصوى، لأن تسجيل هذه العقود في سجلات المحاكم يجعلها خاضعة لنظرية العقد في الاسلام، ويفرغها من مضمونها المسيحي، ما يجعلها مخالفة صراحة للتعاليم المسيحية. ويقدم المبشر الكاثوليكي جونزاليس في القرن السابع عشر تفسيراً لذلك، اذ يذكر ان معظم الاقباط يقيمون زيجاتهم في الكنيسة ولكن بعضهم يتزوج امام القاضي المسلم على نمط المسلمين حتى يتمتع بالحق في الطلاق عندما يريد. كما استفاد بعض النساء القبطيات من ذلك، خصوصاً بنظرية "العقد"، ليصبح من حق الواحدة منهن اضافة شروط خاصة في العقد، من ذلك ان امرأة قبطية تزوجت من قبطي امام القاضي المسلم، واشترطت في عقد الزواج أن لها حق طلب الطلاق من زوجها اذا تزوج عليها او تسرى بجارية. ولم تقف الكنيسة القبطية موقف المتفرج ازاء تلك الانتهاكات الخطيرة للشريعة المسيحية، أذ أصدر البابا مرقس الثامن في نهاية القرن الثامن عشر رسالة تقرأ في جميع كنائس مصر تنذر كل من يمارس الطلاق بالحرمان من الكنيسة. إلا أن العصر العثماني شهد منعطفاً جديداً في مسألة الاحوال الشخصية اذ بحث انصار تعدد الزوجات عن نموذج من "العهد القديم" لتبرير ممارستهم له، وانضم احد المطارنة الاقباط الى بعض اثرياء الاقباط في شمال مصر في اباحتهم لتعدد الزوجات في القرن السابع عشر. وصرح المطران بأن "العهد القديم" يبيح تعدد الزوجات فلماذا يحرمه "العهد الجديد"؟ ودفع انصار تعدد الزوجات الدولة الى عزل البابا الشرعي، وتنصيب آخر محله من انصار تعدد الزوجات. وهكذا حدث انشقاق خطير داخل صفوف الاقباط بوجود باباوين احدهما شرعي من وجهة النظر الكنسية وآخر رسمي من جانب الدولة وانصار تعدد الزوجات من الاقباط. وتورطت الدولة في هذا الشأن بعزل البابا الشرعي وهي لا تملك - في نظر معظم الاقباط - حق عزله من منصبه المقدس. إلا أن أمر هذا الانشقاق لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما عاد البابا الشرعي الى منصبه، وتخلت الدولة عن البابا الرسمي، لتنتهي قصة مهمة في تاريخ الاقباط تورطت فيها الدولة والكنيسة. من ناحية أخرى يقدم لنا ارشيف الكنيسة القبطية في العصر العثماني اضواء جديدة - لا تتوافر بالنسبة الى العصور السابقة - عن الدور الاجتماعي للكنيسة داخل المجتمع القبطي. فمن خلال الاوامر والرسائل المخطوطة التي كان يصدرها البابوات الاقباط لتقرأ في كل الكنائس في مصر، يمكن ان ندخل الى قلب هذا المجتمع لنرى مشاكل حياته اليومية ومتابعة دور الكنيسة فقد اصدر البابا مرقس الثامن رسائل عدة في شأن محاربة بعض العادات الاجتماعية السيئة التي ظهرت في اوساط الاقباط - ربما يشترك في ذلك ايضا المسلمون - مثل العاب القمار، وابراز الكنيسة مدى تحريم ذلك. وايضا اصدر رسالة اخرى حول تحريم السحر والسحرة، لا سيما مع شهرة بعض رجال الدين الاقباط في هذا الشأن، ورسالة اخرى حول بعض رجال الدين الذين يشجعون بعض الاقباط على شرب الخمر. كما اصدر البابا رسالة ضد ممارسة الاقباط للطلاق. واشتركت الكنيسة والاسقفية ايضا في محاربة الوافد الجديد: بعثات التبشير الكاثوليكية التي اصبحت تمثل خطراً جديداً يهدد وحدة الكنيسة والأقباط. وأصدر البابا مرقس الثامن رسالة لنصح بعض اقباط اخميم - في صعيد مصر - الذين تحولوا الى الكاثوليكية محاولاً ارجاعهم مرة اخرى الى الكنيسة القبطية. كما قام الانبا يوساب اسقف جرجا بإصدار رسائل عدة في هذا الشأن، منها رسالة ترد على دعوة بابا روما بالاتحاد بين الكنائس الشرقية تحت زعامته. ويعتبر كتاب "سلاح المؤمنين" للأنبا يوساب من أهم المصادر القبطية ضد سياسات التبشير الكاثوليكية في القرن الثامن عشر. جدل اليوم يبقى في النهاية متابعة جدل اليوم حول اثر العصر العثماني - باعتباره الفصل الاخير لتطبيق عهد الذمة - في الاقباط. فمن الناحية النظرية شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تصدع عهد الذمة كعلاقة بين الاقباط والدولة بإلغاء الجزية في العام 1855، لذلك أصبح من الضروري البحث عن رابطة جديدة تربط "الجماعة المصرية" برباط مختلف عن الروابط القديمة التقليدية، من هنا جاءت المحاولات في القرن التاسع عشر لتقديم "المواطنة" كصيغة للعلاقة الجديدة. ولكن للاسف لم يضع القرن التاسع عشر أو القرن العشرون اسساً متينة لمفهوم "المواطنة" وبقي هذا نظرياً الى حد كبير، ولم يترجم بصورة واقعية. وتعالت اصوات تقول إن مفهوم المواطنة مثله مثل العديد من المفاهيم المستجدة في عصر الحداثة في الشرق هو مفهوم غربي فُرض على المجتمع الشرقي في موجة التغريب. لذلك لا تزال المسألة الطائفية تعاني من عدم استقرار مزمن، لكنه ليس بالخطير. وهناك خطأ شائع في اوساط الاقباط حتى الآن بأن "الخط الهمايوني" هو السبب وراء تقييد حرية الاقباط في بناء الكنائس. وهي سمعة سيئة اكتسبها هذا القرار السلطاني على رغم انه عند صدوره كان بمثابة خطوة تقدمية في مجال حرية العبادة. إذ يرجع "الخط الهمايوني" الى عصر "التنظيمات" في الدولة العثمانية ودخول المؤثرات الغربية الى داخل بنية الدولة. فقبل العصر العثماني كانت هناك قواعد فقهية عدة لتنظيم اوضاع الكنائس في الدولة الاسلامية، وأكثرها راديكالية قاعدة "لا كنيسة في الاسلام" وأكثرها تسامحاً امكان بناء الكنائس في بعض المدن الاسلامية. لكن "الخط الهمايوني" الصادر في العام 1856 اعترف للمرة الاولى بحق غير المسلمين في حرية العبادة وبناء معابدهم في اي مكان، ولكن تحت شروط معينة خاصة بأوضاع المساجد والسكان المسيحيين والمسلمين. من هنا كان "الخط الهمايوني" تقدماً كبيراً في هذا المجال. لكن نتيجة السمعة السيئة للعصر العثماني سيتم سحب مشاكل الاقباط في بناء الكنائس على "الخط الهمايوني"، بينما ترجع المشكلة في حقيقة الامر الى قرار وكيل وزارة الداخلية المصرية في العام 1934 في شأن وضع شروط لتنظيم اوضاع بناء وترميم الكنائس في مصر. وفي الحقيقة ترتب على موضوع بناء الكنائس الكثير من مشاكل الفتنة الطائفية في مصر. وترى الحكومة الان ان السماح بحرية بناء الكنائس ربما يساعد في إثارة الجماعات الاسلامية المتطرفة أو يحدث من ناحية أخرى تسابقاً بين الجماعات الاصولية الاسلامية والقبطية حول كثرة بناء اماكن العبادة، بحيث ندخل الى"حرب الكنائس والجوامع" من يبني اكثر من الآخر، اظهاراً للهوية الدينية. من هنا تحاول الدولة حل هذه المسألة بشكل أكثر واقعية من خلال التسامح في اصدار تراخيص بناء الكنائس حسب الحاجة الملحة. لكن هذا الاسلوب يجرح من ناحية مشاعر الاقباط لجهة حرية العبادة. وهكذا نرى ان الماضي لا يزال يسيطر على الحاضر، لكنه في الحقيقة الجانب المظلم من الماضي. وهناك فروق واضحة بين ما هو نظري وما هو تطبيقي. ألا تستحق هذه النقاط دراسات وبحوثاً مفصلة لتفهم الواقع المعاصر في ضوء الخبرة الحقيقة للماضي؟ * استاذ مساعد في كلية الاداب - جامعة القاهرة.