حينما تهلّ علينا ذكرى مولد الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم يعود المسلمون بأفكارهم وقلوبهم ومشاعرهم الى ذكرى من أعظم ذكرياتهم، وإلى ايام من أجلّ ايامهم الخوالد ... ذكرى مولد الرسول الكريم الذي أعدّه ربّه لتحمّل أشقّ رسالة وصنعه خالقُه العظيم لتلقّي أجلّ دعوة وكان من أهمّ اهدافها وأعظمها تخليص البشرية من اغلال الذلّ، ومن استعباد الانسان لأخيه الانسان وإخلاص العبودية لله الخالق وحده. دعوة تعيش الانسانية في ظلّها في بِرّ وخير ورحمة وتنعم في ارضها بالتعاون والإخاء والحرية فتسعد في الدنيا وتفوز في الآخرة بالنعيم المقيم. الفداء وقبل ان نستطرد في الحديث، لنصاحب الرسول الكريم في مولده، يجدر بنا ان نتحدث اولاً عن جانب مهم يتعلق بالمنزل المحمّدي كتاريخ يجب علينا إثباته وبيانه. ورث عبد المطلب بن هاشم جدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن آبائه الكرم والسماح فتولّى سقاية الحاج والرفادة - منذ نضبت زمزم - مع ما كان يلقاه من متاعب هذه المناصب - لخلوّ حياته من كثرة الأولاد - فشرُف في قومه وعظُم شأنه عندهم فأحبّوه وأكبروه. كان عبد المطلب يرجو مخلصاً لو ان زمزم ظلّت باقية ليتوفّر على سقاية الحاج وخدمتهم، وظل هذا الرجاء يلحّ على فكره ومشاعره إلى ان هتف به هاتف اثناء نومه يأمره بحفر بئر زمزم ... وألحّ الهاتف يدلّه على مكان وجودها. فجدّ في طلب البئر حتى اهتدى اليها وشرع هو وابنه الوحيد الحارث في حفرها حتى نبع الماء منها، وهنا ارادت قريش ان تشارك عبد المطلب في ما وجد في البئر. فرفض ثم رأى اخيراً ان يحتكم هو وقريش الى الإله هُبل بأن يضربوا عنده بالقداح على ملكية البئر، فمن خرج قدحه كانت له البئر ومن لم يخرج قدحه لا شيء له. ثم اعطوا القداح صاحب القداح الذي ضرب بها عند هُبل، فتخلّفت اقداح قريش وخرجت اقداح عبد المطلب فانفرد هو بسقاية الحاج من بئر زمزم. ومرّت الأيام وأحسّ عبد المطلب بقلّة حوله في قومه لقلّة اولاده، لذلك نذر عبد المطلب إن رَزَقه الله عشرة اولاد لينحرَنّ احدهم عند الكعبة ... وتدور الأيام ويتكامل له من الأولاد عشرة كلهم من الذكور الأقوياء لمسَ فيهم المقدرة على ان يعينوه في الشدّة فدعاهم الى الوفاء بنذره فأطاعوه، فأمر ان يكتب كل منهم اسمه في قدح وطلب صاحب القداح ان يضرب عليها. فخرج السهم باسم عبدالله، فهمّ بإنفاذ نذره مع انه كان اصغر ابنائه وأحبّهم اليه، وإذ ذاك قامت قريش كلها من أنديتها تهيب ألاّ يذبح عبدالله حتى لا تصبح عادة عند العرب، وأن يلتمس عذراً عند هُبل عن عدم ذبحه. وتشاور القوم فاستقرّ رأيهم على الذهاب الى عرّافة في يثرب يسألونها المخرج من هذا المأزق بشيء يرضي الآلهة، فسألتهم العرّافة كم الديّة فيكم؟ قالوا عشر من الإبل، قالت: فارجعوا الى بلادكم وقرّبوا عشراً من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم. ففعلوا وأخذت القداح تخرج على عبدالله فيزيدون في الإبل حتى بلغة مئة ... عند ذلك خرجت القداح على الإبل ... فهلّل عبد المطلب وعمّ السرور جميع القوم ونُحرَت الإبل، ثم تركت لا يمنع عنها انسان ولا حيوان. هكذا شاءت إرادة الله تعالى ان تدخر عبدالله لأمر عظيم. إذ منّ الله عليه بالفداء كما منّ من قبله على اسماعيل بذبح عظيم ... وهكذا شاءت الإرادة الإلهية ايضاً ان تحفظ اسماعيل ثم من بعده عبدالله ليكون من نسلهما سيد البشر وخاتم المرسلين. وبعد افتداء عبد المطلب لابنه رأى ان يزوّجه ليقرّ به عينه، فصحبه الى بيت وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة حيث خطب له ابنته آمنة، ودخل بها في اليوم التالي. وبعد ايام من زواج عبدالله بآمنة خرج مع ابيه لرحلة الصيف الى الشام. وفي طريق العودة مرض عبدالله ومات، فحزنت آمنة حزناً شديداً، لكن شعورها بالأمل في ان يرزقها الله بمولود تقرّ به عينها ويكون عوضاً لها عن فقدِ زوجها. وتقدمت آمنة بأشهر الحمل حتى اذا اكتملت المدة وضعت مولودها الحبيب وكان ذلك يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل فبعثت آمنة الى عبد المطلب تخبره بالمولود، ففاض به السرور وأسرع اليها وأخذ الطفل بين يديه ودخل الكعبة وطاف به وسمّاه "محمداً". ويروى ان رجالات قريش سألوا عبد المطلب عن سبب تسمية حفيده بهذا الإسم، فقال "أردت ان يكون محموداً في السماء وفي الأرض لخلقه". ثم دفعت آمنة بمولودها الى احدى مراضع بني سعد، على عادة اشراف العرب من اهل مكة، فكانت حليمة السعدية هي التي ترضعه وترعاه. وأقام محمد في بني سعد الى الخامسة من عمره ينهل من جوّ الصحراء الطلق روح الحرية والاستقلال النفسي، ويتعلم من هذه القبيلة لغة العرب نقية، حتى انه كان يقول من بعد لأصحابه: "أنا أعربُكم أنا قرشي". وجاء في سيرة ابن هشام ان نفراً من اصحابه قالوا له: يا رسول الله، اخبرنا عن نفسك. قال: نعم، انا دعوة ابراهيم وبشرى اخي عيسى ورأت امي حين حملت بي انه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واستُرضعتُ في بني سعد بن بكر، فبينما انا مع اخ لي خلف بيوتنا نرعى بَهْما لنا إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطستٍ من ذهب مملوء ثلجاً فأخذاني فشقّا بطني واستخرجا قلبي فشقّاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه. ثم قال احدهم لصاحبه: زنه بعشرة من أمّته. فوَزَنني بهم فوَزَنتهم، ثم قال زنه بمائة من أمّته فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال زنه بألف من أمّته فوزنني بهم فوزنتهم. فقال دعه فوالله لو وزنته بأمّته لوزنها. ثم شاءت إرادة الله ان تمرض أمّه آمنة وهي منصرفة من زيارة اخواله من بني النجار. ثم تلحق بزوجها وهي بالأبواء بين مكةوالمدينة، وتدفن هناك. ثم كفله جده عبد المطلب لكنه ما لبث ان توفي، فقام عمّه ابو طالب بكفالته. وكان ابو طالب يجد في محمد صفات النجابة والبرّ وطيب النفس فيدفعه ذلك الى ان يحيطه بمحبّته وتقديره وإعزازه، الأمر الذي جعل محمداً صلّى الله عليه وسلّم ينسى ألمه لفقدِ ابويه ويتمه. وحين بلغ محمد صلّى الله عليه وسلّم الثانية عشرة من عمره خرج به ابو طالب الى الشام في تجارته. وتقول الروايات: ان بحيرى الراهب رآه في هذه الرحلة فنظر الى ظهره فرأى خاتم النبوّة بين كتفيه على موضعه من صفته التي يعرفها ذلك الراهب، ورأى غمامة تظلّه من بين القوم، وأن القوم جلسوا تحت شجرة أظلّتها الغمامة، فلما رأى الراهب فيه إمارات النبوّة نصح عمّه ان لا يوغل به الى بلاد الشام خوفاً عليه من اليهود" لأنهم إن عرفوا منه هذه الإمارات قتلوه. وتدور الأيام دورتها ... وفي خلالها ينهل محمد مما يجري حوله فيشتغل برعي الأغنام ثم يدفعه حب العمل والسعي الى ان يخرج الى الشام ليتاجر بأموال خديجة بنت خويلد ... واستطاع محمد بأمانته ومقدرته ان يتجر بمال خديجة ويوفّر ربحاً اوفر من غيره، فسرّت لذلك، بل انقلب سرورها الى حب دفعها وهي في سن الأربعين ان تتزوّجه وهو في سن الخامسة والعشرين. محمد يتلقى الرسالة وعندما بلغ سن الأربعين، وتهيّأت نفسه لتلقّي الرسالة الخالدة لجأ الى غار حراء - الذي كان كثيراً ما قضى فيه الأيام والليالي ذوات العدد متعبّداً ومبتعداً عن مفاسد قومه وخرافاتهم - وهنالك وبينما هو مستغرق في تفكيره وتأملاته ينزل عليه الوحي جبريل عليه السلام مبتدئاً بقول الله عزّ وجلّ ]إقرأ باسم ربّك الذي خلق...[. وأعلمه جبريل انه رسول الله الى الناس، فأخذ يبلّغ دعوة ربّه سراً ثلاث سنين ثم جهر بها فلقي من العنت والأذى هو ومن تبعه ما لا يحيط به وصف وبيان، كل ذلك وهو يدعوهم الى عبادة الله وحده ويتحدّاهم ان يأتوا بمثل هذا القرآن العظيم، ثم تحدّاهم ان يأتوا بمثل عشر سور، بل نزل. ثم كانت الهجرة فرقاناً بين الحق والباطل، وواجهته في المدينة معضلات جديدة بعد انفراج الكرب في مكة بالهجرة، لقد كان هناك النزاع بين القبائل في المدينة، وكان اليهود ولهم مكانتهم وقوّتهم، وكانت هناك قوة قريش والعرب، ثم اهمّ من ذلك اقامة الدولة وبناء الأمّة الإسلامية. فبدأ اولاً بتحقيق الأمن للمسلمين، فعقد عهوداً منفصلة مع طوائف اليهود بالمودّة وحسن الجوار وجاءت نصوص هذه العقود دقيقة وعجيبة في صياغتها الحقوقية التي تضمّنت اقامة الدولة في المدينة. ثم اخذ يواجه القوة بالقوة، فقام بهجمات عدّة جريئة على تجمّعات المشركين، حتى كانت المعركة الضخمة يوم غزوة بدر الكبرى التي دوى وقعها في التاريخ، واستمرت بعدها المعارك حتى كان النصر الأعظم بفتح مكّة ودخل الناس في دين الله افواجا. وكان نشاط عسكري مدهش قام به النبي صلّى الله عليه وسلّم. وبهذا كان محمد الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح وأبرز في المستويين الديني والدنيوي. إن عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكافٍ جداً لتخويله المكان الأسنى من التعظيم والثناء، انه نقل قومه من الإيمان بالأصنام الى الإيمان بالله وحده. * مدرس فتوى في لبنان.