تشير الوقائع على الصعيد التفاوضي الفلسطيني - الاسرائيلي الى أن اتفاق أوسلو بين الطرفين استنفد أغراضه، وأن هذا الاتفاق بات شيئاً من الماضي، فلا الطرف الفلسطيني يملك قدرة إرغام الحكومة الاسرائيلية على تطبيقه، ولا الحكومة الاسرائيلية راغبة به، في سعيها لفرض واقع سياسي جديد يحد من طموحات الفلسطينيين ويقلل من شأنها لدى الرأي العام الاسرائيلي الذي يقف وراء الائتلاف الاسرائيلي الحاكم. اما الولاياتالمتحدة الاميركية، فقد أكدت على موقفها التقليدي في شأن عدم التدخل لفرض اتفاق لا يرغب به أحد الأطرف. من كل ذلك نستطيع الاستنتاج بأن اتفاق أوسلو قد انتهى من الناحيتين النظرية والعملية. من الناحية النظرية لم تعد نصوص هذا الاتفاق تمثل مرجعية للطرفين المعنيين، فالطرف الاسرائيلي يعتبر الاتفاق خطراً على اسرائيل وتهديداً لدورها وتقويضاً لمرتكزاتها الصهيونية، اما الطرف الفلسطيني فوجد نفسه رهينة تناقضات الواقع الاسرائيلي المعقد، وأسير الالتباسات المتضمنة في نصوص الاتفاق، فضلاً عن الخلل في موازين القوى والمعطيات الاقليمية والدولية لمصلحة اسرائيل. اما من الناحية العملية فهذا الاتفاق جرى انتهاكه في الواقع مرات عدة، ففي فترة حكومة حزب العمل جرى تأجيل مراحل اعادة الانتشار على اساس ان المواعيد ليست مقدسة، كما جرى التنصل من عدد من الالتزامات منها: الافراج عن المعتقلين، فتح الممر بين الضفة وقطاع غزة، السماح للفلسطينيين بميناء ومطار، اما في فترة حكومة بنيامين نتانياهو، فجرى تطيير الاتفاق، حيث تمت اعادة التفاوض كما حصل في اتفاق الخليل، ومواعيد اعادة الانتشار لم تعد وحدها تفتقد القداسة، وإنما اعادة الانتشار اصبحت كذلك! وبينما كان الفلسطينيون، يأملون بالحصول على اعادة انتشار في معظم الاراضي الفلسطينية، تمكنهم من تحقيق تواصل جغرافي بين هذه المناطق، وتعزز من شأنهم لدى التفاوض على قضايا الحل النهائي، إذا بهم يجدون أنفسهم محصورين في 3 في المئة من الاراضي الفلسطينية، واذا بقضايا الحل الانتقالي تتصدر الاولويات فيما المرحلة الانتقالية تشارف على الانتهاء. ويمكن الاعتقاد بأن الطرفين: الاسرائيلي والفلسطيني باتا يتصرفان من الناحية الفعلية على اساس خلق معادلات جديدة تتجاوز اتفاق أوسلو، معادلات تمكن نتانياهو من إرضاء أطراف ائتلافه الحاكم، على تعدد أهوائه ومشاربه، كما تتيح لرئيس الحكومة الطموح، الظهور بمظهر المدافع عن المصالح الاسرائيلية، الامر الذي يمكنه من تعزيز فرصه في الفوز في الانتخابات الاسرائيلية المقبلة. وهذه المعادلات تتضمن تطويع الفلسطينيين للقبول بما يعرض عليهم في مقابل مقايضات معينة، من مثل تراجع اسرائيل عن مطالبتها بعقد جلسة للمجلس الوطني لإلغاء الميثاق الفلسطيني والاستعاضة عن ذلك بجلسة للمجلس المركزي، مقابل موافقة الفلسطينيين على القبول بإعادة انتشار في 10 في المئة من الاراضي الفلسطينية، بدلاً من 13 في المئة بحسب المبادرة الاميركية، وقد طرحت اسرائيل صيغة تعدل وضع ال3 في المئة المتبقية بحيث تصبح هذه الاراضي محمية طبيعية للطرفين. وتطرح اسرائيل بدائل اخرى تتيح امكانية تحريك المرحلة الثانية من اعادة الانتشار، وفق المبادرة الاميركية، على ان تجمد المرحلة الثالثة لحين الاتفاق على قضايا الحل النهائي! وليس من المستبعد ان تعمد اسرائيل الى دغدغة الأوهام لدى الفلسطينيين بتقديم بعض المكاسب "السيادية" لهم، مثل السماح بفتح المطار والميناء والمعبر بين الضفة والقطاع وتشغيل اعداد جديدة من العمال الفلسطينيين في القطاعات الاقتصادية الاسرائيلية، والتسامح في المجال التجاري وذلك في مقابل رضوخ الفلسطينيين لمطلب التواضع في تقدير حجم الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي المحتلة. والمهم في كل هذه الامور ان اسرائيل تتصرف على اساس ان ما يجري ترسيمه في هذه المرحلة هو حل نهائي مع الفلسطينيين. والا فما معنى الجدل حول المطار والميناء، لو كانت اسرائيل تنوي فعلاً الانسحاب من معظم الاراضي المحتلة بعد خمس سنوات من الحكم الذاتي الانتقالي! والخلاصة: الوقائع والمعطيات، الاسرائيلية والاميركية، باتت تتجاوز اتفاق أوسلو. ورغم الاحباط والحيرة وانسداد نافذة الفرص أمام الفلسطينيين فليس لديهم بديل عن الرضوخ الذي سيؤدي الى تآكل مكتسباتهم، سوى بذل الجهود من أجل خلق هوامش صراعية لهم، تمكنهم من الصمود أمام الإملاءات الاسرائيلية، وتعزز من فرصهم بفتح آفاق معادلات تفاوضية أكثر وضوحاً ونجاعة لتحقيق طموحاتهم وأهدافهم الوطنية. وفي الواقع أنتهى اتفاق أوسلو بسبب تناقضات المشروع الاسرائيلي اساساً، وليس بسبب المعارضة الفلسطينية او العربية، ولعل هذه المفارقة توضح الطابع الملتبس والمعقد للصراع العربي - الاسرائيلي، وللقضية الفلسطينية. ومع ذلك يصح القول ان اتفاق أوسلو انتهى لكن مسيرة التسوية لم تنته بعد. ويمكن القول ايضاً ان أزمة عملية التسوية هي أزمة السياسة في المنطقة، وتالياً هي أزمة النظام الدولي السائد. والى حين تعديل المعطيات في هذين المستويين فإن التسوية ستشهد المزيد من الازمات والاحباطات. * كاتب فلسطيني.