على رغم أن وثيقة نانت، التي وضعت حداً للحروب المذهبية القائمة في فرنسا العام 1598، شكّلت مفصلاً أساسياً للحياة السياسية في البلاد، فإن تعميم واعتماد مصطلح "التسامح" لم يطلاّ الى النور سوى العام 1688، في قاموس أحد فلاسفة عصر الأنوار. أي أن مسافة قرن تقريباً تفصل بين إقرار التوجهات السياسية العامة وتطبيقها في حياة البشر اليومية والعملية. إن السرعة التي تسير بها الأمور في النصوص تختلف عن تلك التي تمشي على وقعها النفوس. ولنا على ذلك أمثلة حيّة ومعاصرة من حولنا في تطبيق كل من اتفاقية الطائف بالنسبة الى لبنان، واتفاقية دايتون بالنسبة الى البوسنة. فالتشنجات السياسية على الأرض غالباً ما تمنع أفضل النصوص من الانتقال الى حيّز التطبيق، في حياة الناس العامة والخاصة. غير أن الملاحظ ان هذا التشنّج يزداد بشكل مطرد كلما اقترب الموضوع المطروح من خط التماس الديني. فالزواج المدني في لبنان حالياً لم يفجّر مشاعر فئة من اللبنانيين إلاّ لأن اعتماده ارتبط بتعديلات في الرؤية الدينية الى العالم والى الآخرين. لماذا، يا تُرى، يلعب الوتر الديني دوراً مهماً في عملية تطوّر الشؤون المدنية والسياسية عند الناس؟ ومتى توقَّف هذا الدينامو المعرفي في الغرب، ليبقى فاعلاً في الأمم المختلفة الموزعة على وجه الأرض والمنتمية الى ثقافات غير غربية البنيان؟ يقع المنعطف، في الواقع، في العقد الأخير من القرن الثامن عشر، بين 1789 و1799، في ما يُعرف بالثورة الفرنسية. حيث أن ما قبل هذه الثورة لا يشبه ما بعدها، ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل وبشكل رئيسي على الصعيد المعرفي. إذ أن التغيّرات التي أحدثتها هذه الثورة شملت أطر التفكير والممارسة على حدّ سواء، وفرضت نموذجاً مفاهيمياً مختلفاً عن ذلك الذي كان سائداً قبلها. ومن هنا أهميتها وبُعدها الحضاري العام. الثورة الفرنسية التي يُحتفل اليوم بذكراها في فرنسا - لأنها تزامنت مع إنشاء الجمهورية فيها - جمعت في نفسها سلسلة تجارب ومخاضات كانت الشعوب الأوروبية قد عاشتها منذ أمد طويل. وأبرز ما فيها أنها جاءت كمحصلة للتساؤلات الحارقة التي طالما شغلت بال المفكرين في أوروبا، في ما يتعلق بارتباط الدين بالسلطة، وكبديل متكامل لهذه العلاقة المتعثرة والمضطربة في آن في التجربة الغربية. وهنا لا بد من الإشارة الى أن طور اجراء الجردة طور لا بدّ منه قبل الانتقال الى المرحلة التخطيطية اللاحقة تماماً كما أن طور جمع المعارف السابقة، خلال عصر الأنوار الأوروبي، في اطار مشروع الانسيكولوبيديا سمح لحركة الفكر في هذه القارة بالانتقال من مرحلة التجميع والتقليد الى مرحلة الإبداع والتطوير بقوة مضاعفة. إلاّ ان أهم ما حصل إبان الثورة الفرنسية ان نموذجاً بديلاً وجديداً شق طريقه الى سوق الأفكار. صحيح ان ولادة هذا النموذج الجديد - المعروف بالعلمانية - جاءت قيصرية ودموية، إلاّ ان المجال السياسي وتشابك المصالح المادية الذي يتميّز به هذا الحقل، غالباً ما لا يسمحان بعمليات الانتقال السلمية والهادئة، في تجارب العالم كافة، ماضياً وحاضراً. مشروع الثورة الفرنسية إذّاك كان مشروعاً طموحاً، يسعى الى قلب الطاولة على النموذج القديم السابق برمته. وعلى قدر هذا الطموح الكبير جاءت النتيجة لاحقاً، على أصعدة عدّة، ليس دونها السياسي والاقتصادي والثقافي والقانوني. غير أن المستوى الفكري من هذه الثورة الظافرة التي سرعان ما زعزعت دساتير العالم أجمع مدخلة فيها مصطلحات جديدة كالشعب وحقوق المواطن والديموقراطية، والذي يعنينا أكثر من سواه اليوم، هو ما تمخضت به هذه الثورة من اعادة التفكير بمسألة علاقة المواطن بالمواطن الآخر خارج سياق اللُحمة الدينية الرابطة أو الفاصلة بينهما. الثورة الفرنسية جاءت كتطبيق لبنود معاهدة نانت، المعقودة قبل قرنين تقريباً، والمؤسسة لفكرة فصل الدين عن الدولة، ولكن التي كانت قد بقيت حبراً على ورق بعيداً عن التطبيق العملاني العام والشامل. وفي اعتقادي بأنه لو عملت السلطة الملكية الفرنسية على الالتزام بهذه المعاهدة قولاً وفعلاً، لما جاءت الثورة الفرنسية بهذا العنف الذي عُرِفت به ولا بهذه الدمويّة. ذلك ان إطفاء العصبية الدينيّة عند أهل السلطة، قولاً وفعلاً، باعتماد نهج مدني صرف في ادارة شؤون المواطنين، لا يسمح لاحقاً للحركات الشعبية أو الحزبية المنتفضة على الحكم باستغلالها معكوسة، من خلال اشهار عصبيّة هذه الطائفة، الواقعة خارج السلطة، في وجه عصبيّة طائفة أهل الحكم. هذا ما يعيدنا الى أحد الدروس المؤلمة في تاريخ المجتمعات السياسية عبر العالم، وهو أن عدم تطبيق ما تمّ الاتفاق عليه في معاهدات الصلح الوطني، كما يحصل في لبنان والبوسنة، لا يبشّر بالخير، بل يترك باب المستقبل مفتوحاً على اعادة النظر بالتجربة برمتها. فالسياسات التقليدية القصيرة النظر تظن بأنها تلتف على الموضوع بتغيير مجرى تطبيق النصوص. إلاّ ان الأمر يؤدي حتماً، بعدها، الى مراجعات عنيفة تشبه الثورة الفرنسية التي ثأرت لمعاهدة نانت غير المطبَّقة فذهبت أبعد منها ومن النظام السياسي القائم ككل. واللعب بمزيج الدين والسلطة يشبه اللعب بمزيج متفجر من الدرجة الأولى، من شأنه أن يطيح بصاحبه بلمحة بصر. وهنا لا بد من الذكر ان الثورة الفرنسية لم تحصل في قلب أوروبا، على هذه القاعدة بالذات، إلاّ لأن هذه القارة عرفت حروباً دينية كبرى، كحرب الثلاثين سنة التي استمرت على الأرض الألمانية من 1618 الى 1648. فالمشكلة المزمنة المطروحة، وغير المسموح لها بالحل بسبب ارتباطها بمصالح الامبراطوريات والممالك والفاتيكان، ساهمت في ولادة نقيضها في أحشاء الفكر الأوروبي. بحيث ان الدين، اللاعب الأول بمجاري السياسة الأوروبية منذ القرون الوسطى، أضحى علّة النشاط السياسي عند الشعوب الأوروبية ومعوّقها. ولذلك حصل الطلاق الدموي بين الطرفين وذهب الثوار الفرنسيون بعيداً في طرح ثأرهم الفكري من رجال الدين والاكليروس آنذاك، بشكل لا يقبله عقلنا المعاصر الذي يشترط ان تسود الديموقراطية كل شأن سياسي، بما فيه الثوري منه. بيد ان ما حصل قد حصل ولا يفيدنا اليوم سوى ملاحظة المسار السياسي والفكري الذي خرجت به النخب السياسية والمثقفة الأوروبية، بعد قرن، من هذا التناقض الجديد الناشيء عن بتر كل علاقة بين الفكر الحديث الثوري المنشأ، وبين الفكر الديني المحافظ الذي كان سائداً قبل قيام الثورة الفرنسية على أرض ÷ولتير. وفي الحقيقة أن صيغة تآلف جديدة أبصرت النور في نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا وأوروبا عموماً، أُطلِق عليها لاحقاً تسمية الحداثة الجديدة النيو-حداثة. واللافت ان هذه الصيغة الجديدة انطلقت من التشنجات التي عُرِفَتْ بها الثورة الفرنسية، عند هذا الطرف وذاك. فبعد رفض الفكر الثوري والحديث، الكلّي، للفكر الديني، وبعد طلاق هذا الأخير مع تجربة الحداثة، الإطلاقية والمنغلقة التي كانت قد أطلقتها الثورة الفرنسية - مع العلم أن الأمر استمر أكثر من قرن تقريباً، معرجاً على محطة كومونة باريس - جاء عصر بدأ فيه الاعتراف المتبادل بين العدوين اللدودين السابقين. فاعترف الدين ب "الحداثة" ومنجزاتها، واعتمد بعض نواحي هذه الحداثة التي رآها مفيدة وإيجابية، كالتي تتعلق بالديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتفكير العقلاني. في وقت اعترف أصحاب "الحداثة" وأتباع العلمانية بأهمية الدين في مسار الشعوب وحياتها الداخلية. ولعبت العلوم الاجتماعية، في فرنسا خصوصاً، دور همزة الوصل بين هذين الحقلين المتباعدين اللذين حصل التوفيق بينهما بنجاح على يد أوغوست كومت كما على يد تلميذه إميل دوركهايم. فها نحن اليوم أمام غرب جديد، قَبِلَ فيه أهل الدين ان يراجعوا مقولاتهم السياسية والفكرية وأن يستبدلوا بعضاً منها بمقولات أكثر ديموقراطية وأكثر عقلانية. وها نحن أمام غرب جديد، ارتضى فيه أهل الحداثة والعلمانية أن يبحثوا بجدّية في عمق الجوهر المعرفي للدين. فاستقامت بذلك الأمور وغابت العصبيّات عن ميدان الصراع. بحيث ان الخلاف أصبح يقع اليوم، ليس على عصبيّات فكرية ودينيّة، بل على فاعلية المقاربات الميدانية. والمعلوم أن لكل طرف، في هذا الحقل، نقاط قوّة يعرفها ويحترمها الطرف الآخر. هكذا تمكّن الغرب من أن يتخطى تناقضاته مرّة جديدة، بحيويّة تفكيره وتطبيقه له، في وقت تبقى شعوب عدة غارقة في هذه الثنائية المتناقضة من دون أن تتمكن من الخروج من متاهتها. فالمراجعة الفكرية الموجَّهة نحو الأمام هي سرّ نجاح التفكير الحيّ. ولذلك يبدو أن الثورة على الثورة جزء أساسي من التفكير الرصين بمقولات الحياة اليومية والعملية، السياسية والفكرية. فمن لا يراجع حساباته ويأخذ بعين الاعتبار التغيّرات الحاصلة على أرض الواقع لا حيويّة له، وبالتالي لا مستقبل له. فيبقى يجترّ ماضيه الى ما شاء الله. * باحث لبناني