صحيح ان المعارك بين الفيشيين انصار الماريشال بيتان وألمانيا النازية وبين الديغوليين من انصار فرنسا الحرة والحلفاء كانت توقفت قبل أيام في سورية ولبنان، وانتهت بانتصار جماعة الجنرال ديغول والحاق هزيمة ساحقة بالفيشيين، لكن الفرنسيين المنتصرين شاؤوا الا يكون توقيع الهدنة التي كانت في حقيقة أمرها استسلاماً الا يوم الرابع عشر من تموز يوليو - من ذلك العام 1941 - وذلك بالنظر الى ما يتضمنه ذلك من بعد رمزي، فيوم 14 تموز هو ذكرى الثورة الفرنسية. اضف الى ذلك ان اختيار مدينة عكا الفلسطينية لتكون المكان الذي توقع فيه الهدنة، لم يكن هو الآخر عشوائياً، بل كان يحمل كذلك رمزيته، فعكا هي المدينةالفلسطينية التي كانت قبل ذلك بقرن ونصف القرن شهدت انحسار موجة التمدد الفرنسي البونابرتي في منطقة الشرق العربي. من هنا، كان توقيع الهدنة يوم 14 تموز في عكا، ذروة الرمز للانتصارات الفرنسية. كانت المعارك توقفت منذ اليوم الثالث من ذلك الشهر وكان الجنرال دينتز، قائد القوات الفرنسية الموالية لفيشي، طلب وقف اطلاق النار وراح يفاوض على الاستسلام والهدنة، في وقت كانت فيه الجبهات الألمانية في الشرق الأدنى تتراجع ولا سيما بعد انهيار حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وفرار مفتي فلسطين الشيخ امين الحسيني، الى برلين. والملفت هنا ان دينتز، بدلاً من ان يفاوض انصار فرنسا الحرة، خصومه ومواطنيه في الوقت نفسه، آثر ان يفاوض الانكليز الذين اعتبرهم المنتصرين الحقيقيين. واستجاب الانكليز لذلك، هم الذين لم يكن ليسوؤهم ان يعتبروا المنتصرين، تمهيداً لما يمكن ان يترتب، سياسياً، على ذلك، بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، ضمن اطار تنافسهم مع الفرنسيين. وهكذا دارت مفاوضات قاسية ومتشعبة تواصلت طوال اربعة ايام وانتهت يوم 14 تموز يوليو من ذلك العام 1941. وكان من ابرز بنود الاتفاق، من الناحية السياسية، ان فرنسيي فيشي اصروا على ان الانتداب على بلدان الشرق الادنى يجب ان يتحول من فرنسا الى بريطانيا باعتبارها هي المنتصرة. فبالنسبة الى فرنسيي فيشي لم يكن هناك وجود لأي فرنسا اخرى: هناك بريطانيا فقط، وبريطانيا يجب ان يعلن انتصارها. والحقيقة ان الانكليز كانوا هم الذين حسموا المعركة، اذ في أول الامر كان القتال سجالاً بين الفريقين الفرنسيين، وأسقط القتال ضحايا كثيرين، في صفوف الفرنسيين ولكن كذلك في صفوف اللبنانيين والسوريين الذين كان منهم من هو مجند، مع هذا الفريق او مع ذاك. ولكن اعتباراً من الاسبوع الأول من شهر حزيران يونيو، وبعد ان حقق الانكليز انتصارهم الحاسم في العراق وضربوا حركة رشيد عالي الكيلاني واستتبت الاوضاع لهم هناك، حركوا قواتهم في اتجاه سورية ولبنان، في الوقت الذي حركوا فيه من الجنوب قواتهم المرابطة في فلسطين... وهذه القوات التي تحركت على ثلاثة محاور: من حيفا الى بيروت فطرابلس فاللاذقية المحور الساحلي، ثم في اتجاه حمص وحلب من طريق زحلة، وأخيراً محور شرقي يصل درعا بدمشق وحمص من طريق الأردن. في وجه هذا التحرك، كان الجنود التابعون لفيشي ابدوا في حقيقة الأمر مقاومة عنيفة، كادت في بعض الاحيان ان تهزم المهاجمين. بل ان هؤلاء بدوا وكأنهم سيردون على اعقابهم في لحظة من اللحظات، خصوصاً ان قوات فرنسية من جماعة ديغول كانت تبدي تردداً بين الحين والآخر، اذ تجبر على قتال فرنسيين آخرين في ركاب جنود هنود او نيوزيلنديين او استراليين تابعين للجيش البريطاني. في النهاية وصلت القوات الآتية من العراق لتحسم الموقف. وكان الاستسلام في النهاية في الصورة الجنرال الفيشي دي فرديلاك يوقع صك الاستسلام لكن الانكليز لم يجدوا من الضروري اذلال خصومهم من انصار المانيا، وهكذا دار القسم الاكبر من مفاوضات الاستسلام، الذي سمي قصداً بالهدنة، حول مصير الجنود الفرنسيين الذين تم اتفاق اساسي على ان يحفظ لهم شرفهم كمقاتلين ولا يعاملون كخونة كما كان يريد بعض قادة قوات فرنسا الحرة. وعلى هذا النحو وضع الجنود الفرنسيون امام واحد من خيارين: فإما ان ينضموا الى قوات فرنسا الحرة، فإذا لم يريدوا ذلك، يرحّلون الى فرنسا. وبالفعل انضم الفان من اولئك الجنود الى قوات فرنسا الحرة. وذلك من اصل ثلاثين الف جندي كانوا في عداد "قوات المشرق الفيشية". اما الباقون فرحلوا الى فرنسا بالفعل. وعلى هذا انتهى واحد من اكثر الفصول مرارة في تاريخ الجيش الفرنسي. فصل شعر فيه فريقا النزاع ان الانكليز هم المنتصرون عليهما معاً، في نهاية الامر