لم يؤدِّ تفاقم الوضع البيئي في لبنان الى صحوة المواطنين وبعض المسؤولين في السنوات الأخيرة فحسب، بل ايضاً الى صحوة تجارية واقتصادية وتفتح عيون بعض أصحاب الشركات على النفايات واندفاعهم الى الاستثمار في هذا القطاع "البكر" الذي استحدثت من أجله قبل سنوات قليلة وزارة، ورصدت له مبالغ كبيرة وخصوصاً من اليابان والبنك الدولي اللذين خصصا للنفايات في لبنان نحو 100 مليون دولار. وهذا ما جعل شركات كثيرة، لبنانية وأجنبية، تتنادى لتظفر التزام "الاتجار بالنفايات" وتقدم عروضاً كثيرة ومشاريع وتقنيات لانشاء مصانع الفرز والتدوير وانتاج السماد والغاز من النفايات. وفي لبنان ينتج يومياً نحو ثلاثة آلاف طن من النفايات منها 1700 طن من بيروت الكبرى لزّمت ازالتها ومعالجتها قبل سنتين الى شركة "سوكومي" من مجلس الانماء والاعمار المكلف من مجلس الوزراء تنفيذ مشاريع من هذا القبيل. والمعالجة تسير ضمن خطة وضعتها وزارة البيئة وأقرها مجلس الوزراء بعدما اقفل مكب برج حمّود، على ما قال ل"الحياة" مستشار وزير البيئة المهندس زاهي أبو منصور. وأضاف "ان الخطة نصت على أن تعالج نفايات بيروت الجنوبية في العمروسية وتزن نحو 600 طن يومياً وفي الكرنتينا تعالج نفايات بيروت الشمالية وتزن نحو 1100 طن يومياً. وتنقل المواد العضوية منها الى مركز الكورال للتخمير والتسبيخ والمواد التي يعاد تصنيعها تباع والتي لا يعاد تصنيعها ولا تدور تطمر صحياً بعد كبسها وتغليفها في أرض مدروسة مسبقاً وخصوصاً في مقالع الكسارات لإزالة التشويه". وأشار الى "ان الخطة نصت على اقفال المحارق والمكبات اضافة الى مساعدة المزارعين على تحسين أراضيهم بالسماد المستخرج من المواد العضوية الكومبوست". وعن الشركات التي تسعى وراء الالتزامات أجاب "لا شركة تقدمت بملف كامل متكامل إلا قليلاً. ونحن كوزارة بيئة مهمتنا التخطيط والتوجيه والإشراف. وندرس الملف المقدم في شهرين ثم نعطي رأياً فنياً وتقنياً ونحيل الملف على مجلس الانماء والإعمار". وأفاد مصدر مسؤول في مجلس الانماء والاعمار ل"الحياة"، "ان المجلس أعدّ خطة شاملة لمعالجة النفايات الصلبة في لبنان يموّلها البنك الدولي واليابان وتنفذ بالتنسيق مع وزارتي الشؤون البلدية والقروية والبيئة، تعتمد على فرز النفايات واستخراج المواد الممكن تدويرها او اعادة استعمالها في مرحلة أولى ثم تفصل المواد العضوية تمهيداً لتسبيخها وتحويلها سماداً وأخيراً تطمر البواقي والعوادم في مطمر صحي مراقب في كل قضاء، وتقديم كل التجهيزات اللازمة لجمع النفايات وكنس الشوارع وتشغيل المطمر واقامة ثلاثة معامل لتخمير النفايات في الشمال والجنوب والبقاع"، موضحاً "ان المجلس ووزارة البيئة يعدان دراسات لمعالجة نفايات المستشفيات والمسالخ". وفي معلومات ل"الحياة" ان المسالخ تنتج نحو 100 طن يومياً من النفايات الحيوانية وممنوع رميها في المستوعبات ما يجعل اصحابها يتحايلون ويوضبونها في أكياس ويوزعونها ليلاً على المستوعبات. وهل تقدمت شركات بتقنيات حديثة لمعالجة النفايات؟ أجاب المصدر "ان التقنيات المعتمدة عالمياً في معالجة النفايات معروفة وهي احد خيارات ثلاثة هي الحرق أو التخمير أو الطمر الصحي. أما الحرق فاستبعد نهائياً لعدم ملاءمته مكونات النفايات في لبنان لأن فيها نسبة عالية من المواد العضوية ولأنه ينتج كمية تلوث ذي نوعية سامة. وأما بالنسبة الى التخمير فاعتمد في الخطة اضافة الى الطمر الصحي الذي لا بد منه في النهاية". وأشار الى "ان شركات كثيرة محلية وعالمية عرضت خدماتها وخبراتها في مجال معالجة النفايات الا ان لا شركة قدمت أسلوباً جديداً يختلف عما ذكرنا. وعلى أي حال فالأبواب أمامها مفتوحة للمشاركة عند اجراء عمليات التلزيم للمشاريع". وعن دور مجلس الانماء والاعمار قال "انه الجهة المنفذة للمشاريع ويعمل على تأمين التمويل لها اضافة الى اجراء الدراسات وتلزيم المشاريع والإشراف على تنفيذها وتنفيذ عقود التشغيل بالتنسيق مع وزارة الشؤون القروية والبلدية والإشراف عليها". وعن كلفة إزالة طن من النفايات ومعالجته وأسس التلزيم أجاب المصدر "لا عقود معالجة لدى المجلس سوى تلك المتعلقة بمشاريع الخطة الطارئة لمدينة بيروت وضواحيها التي تنفذها شركة "سوكومي". وهذا العقد ليس عقد تشغيل فقط بل ويتضمن كلفة الإنشاءات والنقل والتشغيل والاستثمار لأن الشركة هي مَن موّل المشروع، وتبلغ الكلفة وفق ما تقدم 35 دولاراً اميركياً للطن اضافة الى كلفة الجمع وهي نحو 20 دولاراً. وتم التلزيم بمناقصة عامة". وعن الوفد الذي زار كندا أخيراً بعد انبعاث الروائح من مكب برج حمود ومراكز المعالجة أوضح المصدر "ان الزيارة هدفت الى التعرف الى تقنية جديدة لتخمير النفايات يمكن استعمالها في المدن. ولا تزال وزارة البيئة ومجلس الانماء والاعمار يدرسان امكان استعمال هذه التقنية من بين خيارات مطروحة، خصوصاً أن هذه الأخيرة لا تزال قيد التجربة في كندا حتى الآن". واطلعت "الحياة" على تقنيات بعض الشركات ومشاريعها، ومنها شركة أصحابها لبنانيون عرضت مشروعها على وزارة البيئة ومجلس الانماء والاعمار ولم يأتها رد واضح وصريح حتى الآن على رغم تعهدها للمجلس خطياً مبلغ 15 دولاراً لمعالجة الطن الواحد، على ما قال بعض المسؤولين في الشركة. وأضاف شارحاً خطة شركته "اننا ضدّ المطامر الصحية والمكبات وخصوصاً في بلد صغير مثل لبنان الذي يتزايد عدد سكانه ولا مساحات فيه لتستعمل مكبات ومطامر لأن كل أرض تستعمل في هذا الشأن تعدم مدة زمنية طويلة جداً نحو 50 عاماً، وإذا اريد استخدامها غير حديقة عامة، يجب ان يفكك المطمر لأن النفايات تنتج غاز "ميثان" القابل للانفجار وهناك حوادث كثيرة حصلت في العالم". وأشار إلى "ان نفايات بيروت تتطلب مساحة 160 ألف متر مربع سنوياً، وان المساحة تكبر اذا اريد تعميق الحفر، فمثلاً على عمق 50 متراً تصبح المساحة 600 ألف متر مربع، وعلى عمق 40 متراً تصبح المساحة 500 ألف متر مربع وهكذا، ولا يجوز ان نورث الأجيال المقبلة مطامر لأن تفكيكها مكلف جداً". وأضاف "في عصرنا الراهن رأت دول العالم المتقدم ان للنفايات مردوداً اقتصادياً ولا يجوز دفنها أو حرقها. والنفايات في لبنان غنية جداً بالمواد العضوية بنحو 60 في المئة، ويمكن استخراج الغاز منها والأسمدة العضوية". وعن خطته للمعالجة أجاب "انها تقوم على التخمير من دون أوكسجين أي بعد فرز النفايات واستخراج المواد التي يعاد تصنيعها منها كالكرتون والبلاستيك وأنواع المعادن، تبقى المواد العضوية فتفرم وتوضع في مكان مغلق مفاعل وتضاف إليها مياه الصرف الصحي لزيادة البكتيريا وبعد تخميرها نحو 12 يوماً ينتج سماد عضوي ذو نوعية جيدة جداً ثم تجفف فينتج سماد سائل يعبّأ وصلب يكيّس". وأضاف "ان الطن الواحد من هذا النوع من السماد يباع في أميركا ب600 دولار ويمكن بيعه في لبنان بنحو 150 دولاراً وهو جيد ويتآخى مع التربة ولا يحرقها كالسماد الكيماوي، ويعطي منتوجاً أفضل وأكثر سرعة". وعن الفرز قال انه "يتم على مراحل، يدوياً ثم ميكانيكياً لتفصل المعادن مغناطيسياً ثم مائياً فتبقى المعادن والرمال في القعر وتطفو المواد العضوية التي تدخل الى المفاعل". وأوضح "ان للغاز الذي ينتج استعمالات مهمة منها توليد الكهرباء وتشغيل الحراقات في مصفاتي الزهراني والبداوي وغيرها". وأشار الى "ان النفايات السامة، من المستشفيات مثلاً، لا تعالج مع غيرها بل على حدة في وحدة الافناء الحراري وهي ليست محرقة ولا تبعث دخاناً بل بخاراً من دون رائحة لأنه يفنى على درجة حرارة مرتفعة ولا تمسه النار ما يؤدي الى ابادة كل المواد السامة". وختم "في مشروعنا لا تستعمل المطامر، والرماد الذي ينتج من حرق الغاز يمكن استعماله تحت الزفت في الطرق ويمكن استعماله في مكعبات الاسمنت. ونحن لم نطلب سوى ترخيص ويمكن بعده ان نبدأ العمل بعد 18 شهراً". أما الشركة الثانية فأجنبية وتعالج مشكلة النفايات بطريقة البكتيريا بعد عملية الفرز نفسها وقال مسؤول فيها "ان المواد العضوية توضع في خزانات وتضاف اليها مياه وخمسة أنواع من البكتيريا فتتفاعل وتتخمر بالأوكسجين 72 ساعة، فيتخمر بعضها، والبعض الآخر يحتاج الى أيام فينقل الى مكان آخر ليأتي وقته. ثم يبخر الماء منها لأن نسبته في المواد العضوية نحو 75 في المئة وينتج سماداً ذا نوعية جيدة". وهل تضم كل أنواع النفايات؟ أجاب "المواد العضوية فقط اما نفايات المسالخ فتعالج وحدها ونفايات المستشفيات أيضاً". وهل تلجأون الى المطامر؟ قال "اذا لم تستعمل البقية في انتاج الكهرباء فستطمر بالطبع، لكن نسبتها ستكون قليلة وهي بنسبة 10 في المئة في حين يطمر اليوم نحو 50 في المئة". وأشار الى "ان وفداً لبنانياً ذهب الى كندا واطلع على هذه الطريقة"، معتبراً "ان على الدولة ان تدفع ثمناً بيئياً"، وأوضح مصدر في وزارة البيئة "ان الشركة التي تستعمل هذه الطريقة لا تزال تحت التجربة في بلادها وبعد ستة أشهر يسجل الاختراع ثم يقرر هل تعتمد في لبنان". وأضاف "نحن في لبنان محظوظون لأن أمامنا آخر الاختراعات والخيارات في هذا المجال". وأوضح ممثل منظمة "غرين بيس" في لبنان فؤاد حمدان ان "شركات كثيرة أتت الى لبنان بهدف الربح وكلها تطرح المطامر أو المحارق". وعن عددها قال "أكثر من مئة وتقدم الينا كمنظمة نحو 13 شركة وأعطيناها رأينا". وأضاف "هدفها تجاري فقط ولم تقدم واحدة منها افكاراً لتقليص انتاج النفايات ومعظمها يريد بيع ماكينات لا تستخدم في دول العالم المتقدم، الى دول في العالم الثالث وشرق البحر المتوسط وجنوب أفريقيا". وأيهما أفضل الحرق أم الطمر؟ اجاب "كلاهما سيئ فالحرق يبعث غازات سامة في الهواء وإن ركب لها فيلترات وتنتج رماداً ساماً يوضع في المطامر ما يسبب خطراً على المياه الجوفية وتنقل المشكلة من مكان الى آخر. أما المطامر الصحية فلا تصلح الا للنفايات غير الصالحة للتدوير والرماد الطبيعي وما لا يضر بالبيئة"، معتبراً "ان المشكلة يجب ان تحل في المصدر أي الا نستورد المواد التي تنتج نفايات سامة مثل بعض أنواع بطاريات السيارات او بلاستيك بي. في. سي"، ومنتقداً "سياسة تضليل الرأي العام". وأوضح ان "كل النفايات ترمى كلها في مكب واحد السام وغير السام"، معتبراً "اننا نعيش في حال فوضى. وفي لبنان صرف منذ العام 1994 الى الآن نحو 400 ألف دولار للدراسات عن معالجة النفايات". الكومبوست وأوضح المهندس خالد نجار الملزَّم تصريف الكومبوست الذي تنتجه شركة "سوكومي" في الكرنتينا "ان الكومبوست الذي ينتج يوزع مجاناً على المزارعين في كل المناطق اللبنانية وكل من يريد سماداً يقدم طلباً الى مؤسسة نجار وينقله على نفقته". وهل أثبتت فاعليته؟ أجاب "على المدى الطويل نعم. أي بعد تسعة أشهر ونسبة التحسن في الإنتاج وصلت الى 30 في المئة على ما يقول المزارعون". وأضاف "هذا السماد لا يمكنه ان يلغي استعمال السماد الكيماوي، لأن نسبة المواد الغذائية فيه للأرض، نيتروجين وفوسفور وبوتاس، قليلة جداً"، مشيراً الى "ان مدة التخمير يجب ان تكون 90 يوماً في ظروف ملائمة، في حين يخمر اليوم في 40 يوماً وخصوصاً بعد مشكلة انبعاث الروائح لأن المساحة صغيرة على كمية النفايات التي تخمر". وهل هناك امكان لتحسينه؟ اجاب "نعم اذا اعتمدت التكنولوجيا الجديدة، والبكتيريا قد يؤدي الى تقليص نسبة استيراد السماد الكيماوي الى 80 في المئة"، موضحاً "ان لبنان يستورد سنوياً أكثر من 100 ألف طن من السماد الكيماوي ويبلغ سعرها نحو 90 مليون دولار. وفي حال تحسنت نوعية الكومبوست يمكن ان يباع ب400 دولار الطن وهو أفضل من الكيماوي لأنه لا يضر بيئياً ولا يؤذي الانسان والنبات والحيوان"