كم كنا نود ان يكون "الدينار العربي"، وليس "يورو" هو العملة التي توضع في التداول في وقت قريب. ذلك انّ التقلبات والاهتزازات التي تتعرض لها عملاتنا الوطنية، تجعل المضمون العربي، يعيش هاجس تدني العملة، وضياع قيمة مدخراته. وللمضمون العربي ذكريات مريرة مع مخاطر تدنّي العملة. فخلال العقود الماضية، ومع انتشار ظاهرة التأميم، تلاشت قيمة صرف العملات الوطنية في بلدان عربية عدة، ووجد حملة بوالص التأمين على الحياة، من المواطنين في مصر والعراق وسورية وليبيا والسودان، ان المال الذي ادخروه، بالعملة الوطنية، فقد قوته الشرائية، وانهم تحولوا بين ليلة وضحاها من اصحاب ثروات صغيرة الى فقراء "لا يملكون شروى نقير" كما تقول الأعراب. وغداة اجتياح الكويت وفرض الحصار على العراق، وجد المواطن العراقي المضمون ان آلاف الدنانير التي جمعها في عهدة "شركة التأمين على الحياة"، والتي كانت تعادل ألوف الدولارات، لم تعد تكفي لشراء دولار اميركي واحد! وفي المدة التي كانت فيها الكويت تحت الاحتلال، لم يعد للدينار الكويتي قيمة تذكر، ما حمل اميرها على اتخاذ تدبير، وفر للكويتيين المشتتين في مناطق عدة من العالم من العملات الاجنبية ما يكفي ليضمن لهم عيشاً كريما وذلك بانتظار زوال الكابوس عن أرضهم. اما المواطن اللبناني المضمون، فلقد عاش تجربة ادهى وأشدّ قساوة. فبعد ان كانت الليرة اللبنانية تعادل 40 سنتاً اميركياً، تراجعت قيمتها بين العامين 1986 و1990 الى سنت ونصف سنت فقط وهذا يعني أنّ اللبناني الذي كان عقد بوليصة تأمين على الحياة والادخار بمئات ألوف الليرات اللبنانية، وكانت عندئذ تعادل عشرات ألوف الدولارات انتهى به الامر الى ان يقبض عند استحقاق البوليصة "شوالا" من الليرات لا قيمة شرائية لها. اما الفارق بين المبالغ التي دفعها في الأيام البيض وما اعادته الشركة اليه في الأيام السود، فقد استقرّ في خزائن الشركة الضامنة، وتحوّل غنيمة اشبه بتلك التي فازت بها الميليشيات من جرّاء تسلطها على اموال الناس خلال الحرب. ولم تكن تلك هي المرّة الولى التي يتكبّد المواطن اللبناني خسارة من هذا النوع. وفي كتابه "مختصر تاريخ التأمين في العالم وفي لبنان"، يروي الوكيل السابق لشركة "جريشام" البريطانية للتأمين على الحياة، المرحوم إميل جرجس نصّار، ان اللبنانيين المضمونين لدى شركات التأمين على الحياة أصيبوا بثلاث انتكاسات وخسروا الادخارات التي كانوا جمعوها لدى الشركات الاجنبية التي كانت ناشطة في لبنان قبل الحربين العالميتين. وعن الانتكاسة الأولى يقول نصار: "كانت عقود التأمين على الحياة قبل الحرب العالمية الأولى تعقد على أساس الليرات الاسترلينية الذهب والفرنك الفرنسي الذهب او الليرة العثمانية الذهب. ولما بطل التعامل بالذهب وتحولت العقود الى عملات ورقية، تدنّت قيمة العقود الى الحضيض فألحقت خسارة كبيرة جداً بالمؤمنين". وعن الثانية قال: "في آخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، بسبب ركود الصناعة والتجارة في اميركا وأوروبا، تدنّت قيمة العملات، وحيث كانت الاكثرية الساحقة من بوالص التأمين معقودة بالفرنكات الفرنسية تدنى سعر صرف الفرنك الفرنسي الى الحضيض، تكبّد المضمونون نتيجة لذلك خسارة جسيمة". اما الانتكاسة الثالثة "فحصلت عندما استولى هتلر على أوروبا الوسطى وأمّم شركات التأمين فأفلست هذه الشركات، فنال المؤمّنون في لبنان في الشركات الواقعة تحت سلطة هتلر نصيبهم من الخسارة ومن بينهم المؤمّنون لدى شركة "فينيكس اوترشيان" وكانت اهم شركة في أوروبا الوسطى آنذاك وموجوداتها تفوق الپ25 مليون ليرة استرلينية، وقدّرت خسارة اللبنانيين بسبب افلاس هذه الشركة وتوقفها عن الدفع بما لا يقلّ عن 400 الف ليرة ذهبية". والمؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، الا ان التجارب التي نقلناها آنفاً تبيّن ان المؤمنين لدغوا واقعاً وفعلاً اكثر من مرة. وإذا كان عدد كبير من المضمونين في لبنان، وفي الدول العربية التي تتبع نظام السوق، اعتمدوا بالدولار بعد التجارب المريرة التي تعرضوا لها، فان ذلك لن يعطيهم ضمانة كاملة ضد اخطار التدني، اذ ان الدولار على قوته يبقى عرضة لتقلبات، قد تفرضها مقتضيات الاقتصاد الاميركي. ولقد سبق ان شهدنا تراجعاً للدولار حيال العملات الاجنبية الاخرى، في ظل ادارة الرئيس رونالد ريغان افقدت المدخرين بالدولار نحو 40 في المئة من القيمة الفعلية التي يحملونها. وهناك عملات عرفت باستقرار سعرها لفترات زمنية طويلة ويمكن للمدخر ان يلجأ اليها لحماية مدخراته، نذكر منها الفرنك السويسري. الا ان "اليورو" مرشّح لأن يحتلّ المكانة الأعلى، ويكون نجم العملات التي يعتمد عليها في التقاعد الطويل الأجل. والحقيقة ان الدول الأوروبية الپ11 التي اصدرت "اليورو"، لن تضمن عدم تعرض سعر صرفه لعمليات تصحيح، يلجأ اليها البنك المركزي الأوروبي عند الحاجة، الا ان العوامل التي تجعل منه عملة مستقرة، ولأجل طويل تبقى راجحة. ذلك ان "اليورو" يترجم الحال الجماعية لاقتصادات 11 دولة ولسوق مشتركة تضم 250 مليون مستهلكاً. وهذان الرقمان مرشحان للارتفاع. ولو حدث ان عرفت المؤشرات الاقتصادية تراجعاً في بلد من البلدان الپ11، فان البلدان العشرة الاخرى، سوف تتمكّن من احتواء ذلك التراجع. من هنا، نرى انه في ظل الاضطرابات السياسية التي تحيط بمجتمعنا العربي، فان "اليورو" سوف يكون العملة الأفضل التي يمكن للمواطن العربي المضمون ان يجعل منها وحدة نقدية للبوليصة التي تعقدها شركة التأمين على الحياة، والادخار والتقاعد، وغيرها من العقود التي تتضمن جانباً استثمارياً. وسوف يكون بإمكان شركات التأمين العربية ان توفر الضمانة بپ"اليورو" بعدما تكون قد اجرت التعديلات اللازمة في اتفاقات اعادة التأمين، الخاصة بفرع تأمينات الحياة. وإذا كنت قد بدأت هذه السطور، بالتحسّر على "الدينار العربي"، فلأن القدر شاء ان تكون الأمة العربية قد اختارت ان تبقى في عصر عبس وذبيان والخزرج، وان تتمسّك بعصبياتها القبلية، في الوقت الذي تنصرف فيه القارات الخمس الى توقيع المواثيق والاتفاقات التي تجعل منها مناطق حرة. فها ان الاميركيتين تتحولان الى منطقة حرة واحدة، تضم 800 مليون نسمة من ألوان وألسنة وأعراق مختلفة. وها هي دول العرض الباسيفيكي، تنضم الى منتدى يضم اكثر من بليون نسمة، فيهم الاصفر البشرة وأبيضها وأسمرها. وها هو الاتحاد الأوروبي يحقق وحدته النقدية، بعدما نجح في تحويل اوروبا الى سوق واحدة. والأمة العربية غائبة عن ذلك، وما عدا تحركاً خجولاً قام به المجلس الاقتصادي الاجتماعي في اطار الجامعة العربية، إذ اعلن عن البدء بالتحضير لاعلان المنطقة العربية الحرّة الكبرى، خلال عشر سنوات، فان كلّ الاتفاقات الآيلة الى تنشيط الترانزيت والسياحة، وتبادل الرساميل، وتنقل الاشخاص، تبقى مجمدة. ويبقى الخوف على قوة النقد هاجساً يقضّ مضاجع المضمونين العرب من حملة البوالص الطويلة الاجل. ولذلك فاني ادعوهم ان يتخذوا "اليورو" او غيره من العملات التي عرفت استقراراً تاريخياً ملاذاً يردّ عنهم غدرات الزمان. واللجوء الى العملات الاجنبية ليس أمراً جديداً في ديارنا العربية. فبالأمس، استعمل المواطن العربي النقد الذي نُقشت عليه صورة الامبراطورة ماريا تيريزا، واليوم يستعمل النقد الذي يحمل صورة جورج واشنطن وهو سوف يُحسن صنعاً ان استعمل غداً، "يورو" وعليه صورة بونابارت او بسمارك او شارلمان... وصحيح القول ان في ذلك امتهاناً لب عملاتنا الوطنية. الا اننا نرى ان حماية مدخرات المواطن العربي، ومساعدته على تجنّب السقوط مرة جديدة في "هاوية تدنّي العملة" يعلو على غيره من الاعتبارات. وعلينا ان نعيش مع هذا الواقع، الى ان يأتي اليوم الذي تقدم به "السوق العربية الواحدة"، و"الدينار العربي الواحد". ففي كتابه الرؤوس ويقصد بذلك أئمة الشعر العربي يقول الكاتب اللبناني: "ان العربي يحب الامتزاج بالناس الى حد ما، ثم يعود الى عزلته. من هنا جاءنا التشبث بعروبتنا حتى انكرناها على فريق من البشر فسميناهم "شعوبية" وان حذقوا العربية وجاؤوا بأروع مما جاء به العربي المحض".