في المقال الذي نَشَرَتْهُ لي جريدة "الحياة" في 23 أيار مايو 1998، حول الشاعر المصري الراحل أمل دنقُلْ، بعنوان "الجنوبي..."، ورد خطأ طباعي في حرف واحد من كلمة في جملة في المقال المذكور، هي جزء من قصيدة دنقل المعروفة "خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين". والخطأ المذكور غيّر المعنى كلياً لا في الكلمة أو الجملة وحدها، بل في القصيدة بكاملها، فغيّر توجه القصيدة وسياقها ودلالتها. فاستبدال حرف واحد بحرفٍ آخر يحلّ محلّه، بقصد أو من دون قصد، في جملة من نصّ ما، مسألة شديدة الخطورة، بل حاسمة في التأثير في أساس النصّ، وتوجّه الشعريّة فيه، وبناء الصورة، ومرمى الدلالة. فهل حقّاً تقوم النصوص والقصائد في الكتابة، على مثل هذه الرهافة، في الترتيب والبناء والقصد؟ وهل الحروف في الكلمات، والكلمات في الجمل، والجمل في السرد، والنصّ في موقعه وفضائه، هي من الأهميّة في التراتبيّة والتنظيم، بحيث لو اختلّ حرف في مكانه، أو استبدل بسواه، أو تغيّرت كلمة عن موقعها... تغيّر النصّ برمته؟ أحياناً... قد يكون الأمر بمثل هذه الخطورة. ولنعد، لكي نجيب عن هذا السؤال، الى الخطأ غير المقصود، الذي وقع في جملة من جمل المقال المذكور، لنلمس أهميّة ما قصدنا إليه. والتغيير جاء في حرف واحد. فقد حلّ، خطأً، حرف الفاء مكان حرف الباء في كلمة "الطبل"، فأصبحت كلمة "الطبل" كلمة "الطفل" في الجملة التالية من القصيدة: "أنتَ تسترخي أخيراً / فوداعاً يا صلاح الدين / يا أيُّها الطَبْل البدائيّ / الذي تَراقَصَ الموتى على إيقاعِهِ المجنونْ / يا قاربَ الفلّين...". فالفرق فرق مغيّر بل جوهري، في استخدام "طفل" مكان "طبل" في الجملة المذكورة، فمناداة صلاح الدين الأيوبي، البطل الكردي/ العربي/ الإسلامي/ التاريخي/ الجليل/ المعروف/ "بالطبل البدائيّ"، تنطوي على شحنة نقديّة عالية، هي بمثابة طنّ من ديناميت فجّر فيه الشاعر الماضي والحاضر معاً، وكشفهما على بعضهما كشفاً شعرياً خطيراً، مُرّاً وساخراً... وكل ذلك قد تعطّل بحرف واحد... حين استبدل حرف الباء بحرف الفاء، وأصبح "الطبل" "الطفل". فكأنّما هذا التبديل غير المقصود، جاء بمثابة نزع الصاعق من قنبلة متفجرة، ما يمنحها الأمان بدل الخطر، أو صبّ الماء على الجمرة. استبدال حرف بحرفٍ آخر، لم يغيّر معنى الكلمة وحدها في النصّ، بل غيّر النص بكامله، وغيّر وجهة الشعر ذاتها. فمناداة صلاح الدين بالطفل البدائي ترمي الى تحريك حنين جميل أوّل للتاريخ المتعلّق بالرجل، واستسلام لموج الماضي البطولي الدافىء، وربما الى الاسترخاء عنده، استرخاءَ مَنْ يتعاطون الهروب من الواقع، هروباً تخديرياً، فيموتون تحت ضرباته، وهم حالمون أو هائمون بسواه. أما مناداة صلاح الدين بالطبل البدائي، فتنطوي على دلالة أخرى، هي من القسوة والنقد بمكان، بل هي جوهر الإبداع الشعري في القصيدة. فصلاح الدين الأيّوبي، تاريخياً، هو صلاح الدين الأيوبي تاريخياً... أعني البطل الإسلامي المعروف، المنتصر على الصليبيين، بطل معركة حطّين الشهيرة، الذي وحّد جناحي الأمة في مصر وبلاد الشام، المتسامح، النبيل العسكري الرمز... الى آخره... إلى آخره... وكل ذلك عن صلاح الدين، وأكثر منه، موجود في مظانّه في كتب التاريخ العربي والإسلامي. إلاّ ان صلاح الدين الذي يقف على قبره أمل دنقُل، في القصيدة، ويناديه تارةً بالطبل البدائي، وتارةً يشبّهه بقارب الفلّين، هو صلاح دينٍ آخر، لا صلة له بصلاح الدين التاريخي الا من خلال التحوّلات التي لحقت بالأمّة. لذا وَسَم الشاعرُ قصيدته باللاتاريخية، فسمّاها "خطاب غير تاريخي..."، وأتى صلاح الدين الأخير في القصيدة، بمثابة نيغاتيف عن صلاح الدين الأوّل، ومحطّ مفارقة وانتقاد، أو قناع تاريخي لهجاء الحاضر، أو تعِلّة لتشريح الهزيمة الحاضرة، من خلال استخدام رمز قديم للانتصار، والقذف به، مثل قارب الفلّين، في بحر حاضر متلاطم وزاخر، فهو لن ينجي أصحابه من الغرق، أو النظر اليه، وكأنه طبل بدائيٌّ يضرب عليه شعبه اليوم ضرباتهم الوحشيّة، ويتراقصون على ايقاعه المجنون، إلا أنها رقصة موتى لا رقصة أحياء، شبيهة بالاستنجاد بقبور الأولياء التي لا تنجد أحداً، أو بالصراخ بأعلى الصوت في جناز موت محقق، فالصراخ على الموتى لا يعيدهم الى الحياة. من البداية، يشير أمل دنقُل الى اتجاهه النقدي في كيفيّة توظيف الرمز التراثي في قصيدته. فقوله لصلاح الدين "أنتَ تسترخي أخيراً..."، يكشف عن مآل هذا القائد المحارب الذي عاش عمره مشدوداً الى القتال، وكان ينام مع جيشه في البراري وساحات الحرب... في أمة غدت اليوم متراخية أو مسترخية. والقصيدة مكتوبة بعد هزيمة 1967، وسلسلة الهزائم العربية السابقة واللاحقة، وهي مكتوبة انطلاقاً من المكانين اللذين عاش فيهما صلاح الدين مقاتلاً منتصراً: مصر وبلاد الشام/ وفلسطين، حيث كانت معركة حطين. وهي مكتوبة مع الانطواء على وعي الهزيمة والاحتراق بنارها. لذا تناول أمل دنقُل أجمل تواريخ الانتصارات الشعبية، في الذاكرة العربية والإسلامية. بقوّة ناقدة من السخرية، لكي يعرّي من خلال ذلك الواقع العربي المهزوم، وينتقده. ان الانتصارات في حياة الشعوب والأمم تدفع الى اعادة قراءة التاريخ وكتابته من جديد، مثلما تدفع الهزائم الى اعادة القراءة والكتابة. وهي مسألة في كتابة التاريخ والنظر اليه، عُنِيَ بها الباحثون التاريخيون، فاعتبروا كل كتابة تاريخية انما هي في حقيقتها "كتابة معاصرة" نظراً الى الربط والجدل والانعكاس بين الأزمنة والوقائع والأحوال. والشاعر أمل دنقل، بطريقته الشعريّة، حقّق هذا الربط الجدلي والنقدي بين الأزمنة التاريخية، ووضع الماضي والحاضر متقابلين متناظرين، بل متهاترين، في مرآة الشعر التي ابتدأت هنا من حيث انتهى التاريخ. فعملية التحويل الشعرية التي قام بها الشاعر هي عمليّة جوهريّة أنقذت النصّ الشعري من هوّة الوقوع في التأريخ، وشالت به نحو ملكوت الرمز والرؤيا والتحوير والنقد. هل ترانا حمّلنا مسألة التغيير في حرفٍ واحد، في كلمة، في فقرة من قصيدة، عن غير قصد، أكثر مما تحتمل من دلالة؟ نسأل... ونجيب: كلا... المسألة هي بهذا المقدار من الأهميّة والخطورة، وأكثر. فما بين "طفولة نهد" بالدال، و"طفولة نهر" بالراء، في ديوان نزار قبّاني، المشهور، مثلاً، فارق جوهري بالدلالة والشعريّة. كذلك، بين القول "أنا امرأة من بلاد ما بين النهرين" بالراء، والقول "انا امرأة من بلاد ما بين النهدين" بالدال، فارق قيمة جمالية إبداعية، لا ريب فيه. وأهم من لَعِبَ على هذه الفروق، وما تنطوي عليه من شحنات التغيير والمفاجأة، السرياليون، بعيداً عن الزخرف الخارجي والترصيع البياني، والحروفيّة. لقد أمسكوا، أو حاولوا الإمساك، بالصلة السريّة الكائنة بين اللاوعي اللغوي واللاوعي السلوكي والاجتماعي من خلال الكتابة. فلماذا يخطىء شخص ما، في لا وعيه، في حرف ما أو كلمة ما، في كتابته أو حديثه؟ وإلى أين يقود هذا الخطأ؟ بل ما هي قيمته الإبداعية؟ ما قيمة اللعثمة، جمالياً، على سبيل المثال؟ وما قيمة تحطيم القواعد والأصول والمسلّمات في الشعر والفنّ على العموم؟ الجملة، في السريالية، كما يقول كراوس "صفٌّ لا يعرف الهدوء"، بل هي إشارات في هواء اللغة المشاغب. وتأسيساً على أنتونان آرتو، ابتكر عبدالقادر الجنابي في مجلته "الرغبة الإباحية" ما يشبه قاموساً طريفاً للعبث باللغة والسير بها نحو متاهة الهذيان. فالفكاهة، في هذا القاموس، فكّ آهة، والتراث، التتر راث، والملذات ملاذ الذات، والمجهول مجمل الذهول، والورق الأرق، وهكذا... ومنه اشتقّ في إحدى صفحات المجلّة ما سمّاه "صواباً واقعيّاً" من "خطأ مطبعي" على الصورة التالية: "الدولة تشمّ حالياً سائر المناطق، وقد صرّح أحد زعماء ضرب العمال بأن سبب تقليص الميزانية 4 مليارات هو من أجل الحريّة". * * * وهي أخطاء تشكّل صدمة جمالية للنصّ، بخلاف الخطأ بين الباء والفاء في الكلمة التي نسجنا حولها هذا المقال، فقد يكون للكسور جبور في اللغة من حيث دلالاتها الإبداعية.