حظيت كلكتا بتغطية اعلامية سيئة طوال ما يزيد على مئة سنة، من رديارد كيبلينغ الذي اعتبرها "مدينة الليل المريع" الى احدث رواية للكاتب اميتاف غوش. وبالنسبة الى رئيس الوزراء الراحل راجيف غاندي فإن المدينة ذاتها هي التي "تحتضر"، اما اتباع الام تيريزا فيرون أنه مصير معظم الفقراء والمعوزين. ومع ذلك، كما اكتشفت في زيارتي الاخيرة، يتسم هذا كله بقدر كبير جداً من المبالغة. لا جدال ان الخراب يصيب مباني كثيرة. وتوجد احياء فقيرة واسعة في الضواحي. لكن، عدا ذلك، تنبض المدينة حسب ما يبدو بالحياة. ذهبت الى كلكتا لاجراء دراسة عن الفترة التي كان حاكم مصر اللورد كرومر أمضاها في الهند، وتضمن ذلك العمل في المكتبة الوطنية وزيارة أكثر ما يمكن من المباني التي كانت قائمة في عهده، بما فيها قصر نائب الملك الذي أصبح الآن مقر اقامة حاكم البنغال الغربية. لكن أمضيت أكثر ما يمكن من الوقت متجولاً في الشوارع سيراً على الاقدام أو مستخدماً الميترو الذي يبدو في حال جيدة ومنظماً. وعدا ان المصارف والمتاحف ومعظم المكاتب لا تُفتح قبل العاشرة صباحاً فإنها مدينة مناسبة تماماً للسياح. فهي رخيصة على نحو مدهش وفق المقاييس العالمية، وشوارعها مزدحمة بسيارات التاكسي، وتقع في مركزها منطقة "ميدان" بخضرتها الرائعة التي تحولت الى حديقة ضخمة ومنطقة ترفيه يقصدها عشرات الالوف كل يوم. وترجع التغطية الاعلامية السيئة التي عانتها كلكتا في السنوات الاخيرة في جانب منها الى ان البنغال الغربية تدار منذ السبعينات من جناح في الحزب الشيوعي الهندي. وكانت لهذا الامر آثار ايجابية متنوعة بالنسبة الى الفقراء. لكن نفوذ النقابات المدعومة من حكومة الولاية ادى الى نفور كثير من اوساط الاعمال، فيما لم يبذل جهد يُذكر لتهيئة الولاية او المدينة لمتطلبات عصر العولمة الجديد. فتدريس اللغة الانكليزية لا يبدأ الاّ في السنة الخامسة من الدراسة. وهناك عدد قليل من الفنادق العالمية. ويبدو ان المرفأ الجديد في هالديا على نهر الغانج الاسفل هو الوحيد الذي يُدار بطريقة تقرب قليلاً من كفاءة مشاريع الاعمال في اواخر القرن العشرين. ليس من الواضح اذا كانت الاوضاع ستتغير في ظل الحكومة الجديدة التي يرأسها حزب "بهاراتيا جاناتا". فهذا الحزب يضم وزراء كثيرين تعني فكرة "سواديشي" الاتكال على الذات، التي اطلقها المهاتما غاندي، بالنسبة اليهم استمرار الحماية للصناعة الهندية من المنافسة الاجنبية. لكنها فكرة يسعى وزير المال الجديد ياشوانت سينغ الى التصدي لها بحديثه عن نظام استثمار اكثر تجاوباً. لكن يبدو واضحاً ان "بهارتيا جاناتا" سيستمر في التمييز بين تلك المجالات التي يرحب فيها بالاستثمار الاجنبي، مثل البنى التحتية والتكنولوجيا المتطورة، وبين مجالات اخرى كثيرة، مثل التأمين، لا يلقى فيها الترحيب. في غضون ذلك، على المستوى المحلي، تشكل خلال الانتخابات الاخيرة حزب جديد من نواب سابقين في حزب المؤتمر وفاز بخمسة مقاعد تحت اسم "تراينمول" القواعد. والفكرة المحركة لهذا الحزب هي ان البنغال الغربية لم تتلق الاّ دعماً مالياً ضئيلاً للغاية من الادارة المركزية في ظل العلاقة القديمة، المريحة تماماً، بين الحكومة الماركسية للولاية والوزارات السابقة في نيودلهي التي كانت تخضع لهيمنة حزب المؤتمر. ويأمل النواب المنشقون، عبر تقديم دعم مهم ل "بهاراتيا جاناتا" في البرلمان، في تحسين موقع البنغال الغربية لتتمكن من المطالبة بنصيبها المناسب. هذا، على الاقل، هو مشروع مماتا بانرجي، زعيمة "تراينمول" المفعمة بالنشاط، التي تخوض معركة حامية مع القيادة الماركسية على صعيد امور مثل تقديم المساعدات لضحايا اعصار دمّر اخيراً قرى قرب كلكتا. لكنها، كما يلفت كل المعلقين، ستتنافس مع كل القيادات المحلية الاخرى النافذة ذات الصلة ب "بهاراتيا جاناتا" التي تساعد على تغيير الخريطة السياسية للهند من دولة ذات سلطة مركزية قوية الى دولة تمثل فيها مصالح الولايات على نحو افضل بكثير. هكذا، وجدت في كلكتا امثلة جيدة على الكثير من عمليات العولمة التي يمكن ملاحظتها في اماكن اخرى في العالم. على مستوى الافكار، هناك الاستخدامات المتنوعة التي يمكن ان يُوظّف لها إرث وتعاليم زعيم وطني عظيم مثل المهاتما غاندي. فهو يعتبر بالنسبة الى كثيرين في قيادة "بهاراتيا جاناتا" رائد "هندوتفا"، اي القومية الهندوسية، و "سواديشي" التي تُعرّف بأنها الاعتماد على الذات وحماية الذات. وبالنسبة الى آخرين، هناك غاندي آخر مختلف يمكن قراءة رسالته المثيرة حول الانفتاح فوق المدخل الرئيسي للمكتبة الوطنية: "لا أريد لمنزلي أن يحاط بجدران من كل جانب وان توصد نوافذي. أريد أن تعصف ببيتي ثقافات كل الشعوب. لكن ارفض ان تعصف بي أي منها". وعلى المستوى المادي، هناك الحياة السياسية التي لا تدور حول الشعارات فحسب بل تتعلق أيضاً بمصالح مادية محددة بوضوح. فالكثير من رجال الاعمال المؤيدين ل "بهاراتيا جاناتا" يسعون الى التأثير على أفكار الحزب بطريقة تضمن لهم الحفاظ على مناطق نفوذهم المحمية فيما يُسمح لاجزاء اخرى من الاقتصاد بأن تصبح أكثر كفاءة عبر الاستثمار الاجنبي. كما ان الاتهامات بالفساد تشكل جزءاً من هذه اللعبة السياسية الجديدة ذاتها. فبينما يتابع "بهاراتيا جاناتا" التحقيق في الصفقة التي يشتبه في ان راجيف غاندي كان سينتفع منها شخصياً، وتتعلق بعقد عسكري مع مؤسسة "بوفورس" السويدية، يرد حزب المؤتمر بتوجيه اتهامات مماثلة ضد الحكومة والزعماء المحليين الذين يؤيدونها. واضح ان العولمة تتيح الكثير من الفرص الجديدة للاثراء الشخصي. لكن القواعد التي تحكم الوضع القانوني لكل ذلك، ناهيك عن المعايير الاخلاقية، تبقى مشوشة مثلما كانت دائماً، ما يجعل امكان تقديم هذا الشخص او ذاك الى المحاكمة بتهمة الفساد خاضعاً بشكل اساسي لاعتبارات سياسية، تماماً كما كانت عليه الحال دائماً. قد لا يكون هناك أي شرف بين اللصوص، لكن يوجد في الوقت نفسه شعور قوي بالحاجة الى التضامن وتجنب هز القارب.